التفاؤل

عبد الله بن عبد العزيز المبرد

عناصر الخطبة

  1. الصراع بين الخير والشر وإيجابيات ذلك
  2. تفاؤل النبي صلى الله عليه وسلم في الأوقات الصعبة
  3. تربية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة على التفاؤل
  4. خطر اليأس ونتائجه وسلبياته

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد اللهُ فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له.

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وتابعيهم، وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله: اتقوا الله، فهي وصية الله إليكم، وهي خير لباسٍ في الدنيا، وخير زادٍ إلى الآخرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: 18].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) ُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)﴾ [الأحزاب:71-70].

أيها المؤمنون: إن الجنة هي سلعة الله الغالية، وهي جائزته الثمينة، وهي التي إليها استشرف الأنبياء والصالحين، وفيها تسابق الصادقون، ولأجلها صبر أهل البلاء الممتحنون.

وهي غالية عزيزة؛ لأنها نعيم مقيم؛ ولأنها دليل على رضا الرب الرحيم، وفيها صحبة الرسول العظيم -صلى الله عليه وسلم-، ولكن هذه المنحة الربانية العظيمة دونها اختبار لا بد من اجتيازه، وعقبات لا مناص من اقتحامها، فقد قال الله -عز وجل-: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].

ويقول -عز وجل-: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران:142].

أجل، إن كتاب الله العظيم يوجه المؤمنين إلى تجارب الأمم الخالية، إلى ما منهم من العناء والبلاء والشدة والأداء في سبيل الدين، والصبر عليه، والثبات على مبادئه.

فالخلاف الذي بين المؤمنين، وبين أهل الكفر والشرك والضلال يجر خلافات ومتاعب، وحروب ومصائب، وينجم بين الفريقين مخ ثالث من أهل النفاق لهم مكرهم وكيدهم، وكل هذا يحتاج إلى صبر وثبات، وقوة وعزيمة، صبر على المبدأ، وتمسك به، مهما طالت الصراع، واشتد دمعهما، كلف من آلام وتبعات، وعزيمة على نشر الحق، والدعوة إليه، والدفاع عنه.

وما يصيب المؤمنين من نكسات وهزائم، وجراحات وأحزان، وما يحققه المشركون، من تفوق وانتصار وسطوة وقوة، ليس هو السنة الثابتة، بل حدث عارض، وراءه حكمة خاصة، ونعم ربانية عظيمة، فبتلك الشدائد تتمايز الصفوف.

وتنجلي حقائق القلوب، وتتمحص النفوس، ويتخذ الله من عباده شهداء.

ومن وراء ذلك، صنع الجيل المسلم المتماسك، والمستبسل من أجل دينه وعقيدته، ولذلك كان الصحابة يفقهون سنة الله في الابتلاء بالشدائد، وكانوا يتوقعونها ويتحرونها، فإذا نزلت بساحتهم عرفوها وعرفوا أن من وراءها الأجر، وفيها الصبر، ومن بعدها النصر والظفر، فكانوا إذا أناخت بواديهم عظيم بلية، أرحلوها نفوساً كريمة، وفرغوا لها قلوباً عظيمة، واستشروا بما وراءها: ﴿وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:22].

إنهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- يستوعبون سنة الله في الابتلاء، ويثقون بنصره، وذلك الفقه يورثهم التوازن أيام المحن؛ فلا يصيبهم هلع أو جزع، ولا يتسرب إلى نفوسهم يأس أو قنوط، بل إنهم بكل ثقة وإيمان يربطون المحنة بالوعد المرتقب، فيختارون الصبر والثبات.

بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يربي أصحابه على التفاؤل بنصر الله، والفرح بوعده، في أضيق الساعات، وأحرج المواقف، عن خباب بن الأرث -رضي الله عنه- قال: شكون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه فيحاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه؛ والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".

إنهم -رضي الله عنهم- يسألونه الأمن في ظل الكعبة، وهو يحدثهم عن أمن وإيمان، ينعم به الراكب بين صنعاء وحضرموت، ويثرب عليهم استعجالهم، وقلة صبرهم، ويمد أعينهم لأمم الصبر التي خلت من قبلهم، وذاقت في سبيل دينها ما ذاقت من التعذيب والتكبل، ومع ذلك ما صدت عنه، ولا تنازلت عنه شيء منه.

ويوم هجرته -صلى الله عليه وسلم- بين القريتين، فأدركه سراقة بن مالك، فكان من أمره ما كان، فقال له -صلى الله عليه وسلم-: "كيف بك -يا سراقة- إذا لبست سواري كسرى؟".

الله أكبر! يبشر بسواري كسرى، إنه الإيمان العميق بوعد الله، والنظر بنوره، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- كلما اشتد به الكروب ألقى بناظريه في ساحات التفاؤل، والمستقبل المشرق لهذا الدين وأهله، فيزيده ذلك صبراً وثباتاً، ويحميه من تداعيات الإحباط واليأس، ويقيه من مناورات المساومات، وإغراء التنازلات، فقد مكث -صلى الله عليه وسلم- محصوراً في الشعب ثلاث سنوات يتململ على رمضاء الجفاء والقطيعة، ويقاسي الجوع والفقر، وما حنى للكفر جبيناً، وما عدل عن شيء من دعوته، ولا لان في كلمته، ولا نال أحد من همته، ما غيَّر في خطابه، وحذف شيئاً من كتابه؛ لأنه كان يعرف أن المحنة تنتهي بنصره، وأن الصبر هو مناط أمره، فكان -صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن أعداؤه.

أيها المؤمنون: إن الإحباط والانكسار واليأس من المستقبل، واحد من أدوات الشيطان التي بها عزيمة المؤمن من المضي في سبيل ربه: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:175]. ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المجادلة:10].

بل هي واحدة من أساليب الأعداء لتحطيم الأجيال المسلمة، وشل قدرتها على العمل والبناء، ومن ثم استسلامها الكامل غير المشروط لكل ما يطرحه العدو، وتقبلها لثقافته الفكرية، ومنهجه الأعوج، يقول أحد قادتهم -معلناً على حرب الصليب على أفغانستان-: "إن أهداف المرحلة القادمة تقتضي قطع جذور الإرهابيين من أصولها"، يعني المسلمين لا يخطر ببالهم في الحاضر أو المستقبل مواجهة الحضارة الأمريكية، إنهم يريدون أن تعيش أجيال المسلمين محطمة الروح، ساقطة الهمة ترد مستنقعات الهزيمة تشرب فيها وتصدر عنها.

والإسلام يحرم المسلمين أن يستلموا الشعور كهذا: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:139].

ويضرب الله لأمة الإسلام خير الأمثال في الأنبياء السابقين، وأمم الصبر التي سارت معهم في دروب الصبر والعزة والثبات: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(148)﴾ [آل عمران: 148 – 146].

والله -عز وجل- حينما يدعو عباده للصبر، فهو ليس صبر العاجز الذليل المستكين، وحينما يدعوهم للتفاؤل فهو لا يغريهم بالأماني الفارغات والأحلام والمنامات، وإنما يدعوهم إلى الصبر والتفاؤل الذي يحميهم من التنازلات، ويملأ حياتهم ببرامج العمل، ومشاريع المقاومة والجهاد والدعوة والإصلاح، ولا تستطيع ذلك إلا نفوس تتقد بالإيمان، وتمتلأ باليقين بوعد الله بالنصر إن طالت.

فهو وعد الله القادم، ولن يخلف الله وعده: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].

ولكنه وعد مشروط بالثبات والاستقامة، والعمل الدؤوب: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور:55].

واعلموا إن التعامل مع الأحداث والأخبار والمستقبل، بروح اليائس الذي لا يرى إلا العدو وظهوره وقهره إنما ذلكم عقاب إلهي، يضرب الله به قلوب المعرضين عن كتابه، والمتشككين في وعده وطعم العزة التي يتذوقها العالم بسنن الله الواثق بوعده.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: واعلموا -أيها المصلون- أن الياس والاستكانة، وما يتبعها من سلبية واستسلام إنما هي نتيجة لقسوة القلب، وضعف الصلة بالله؛ فاللاهثون خلف الملذات والشهوات، ليس في حسابهم إلا الماديات، فلا يقيس الأحداث إلا بها، ولا ينظر للمستقبل إلا من خلالها، فإذا حلت بأمته شدة، أضمر اليأس في قلبه، فكف يده عن نصرتها، وشح بوقته عن أن ينشغل بقضاياها، واستكثر أن يبذل جهده في صراع أراه الشيطان أنه خاسر لا محالة، انظر إلى صورة أولئك البؤساء الصاغرين وهم يرفعون موقفهم بالأعذار: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً(12)﴾ [الفتح:11- 12].

وعود الله المحققة وفضحهم كلامه المبين، وتبددت ظنونهم التي أملاها عليهم الشيطان، ونفوسهم المريضة المأخوذة بقوة الأعداء.

ذلك الصنف هو الذي يتنصل عن أعمال الخير، ويعتذر عن المشاركة فيها: ﴿إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ(46)﴾ [التوبة:45-46].

وصلى الله وسلم على محمد.


تم تحميل المحتوى من موقع