إنَّ المؤمن الحق هو الذي يقف عند الدليل، ويوقر الدليل، ولا يتجاوز الدليل من الكتاب والسنة إلى ما هو دونه فيما يتعلق بمثل هذه المسائل وغيرها، وقد تبينت لنا الأدلة الشرعية واضحة في تحريم الاختلاط، ليس بمفهومه فقط ومعناه، بل بذات لفظ الاختلاط، وبالتالي سقطت دعوى المدعين بأن تحريم الاختلاط مصدره العادات والتقاليد، وطبيعة الطرح المتشدِّد في هذه البلاد ..
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وسلَّمَ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول -سبحانه وتعالى-: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) [العنكبوت:67] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا؟) الأمن له تفريعاته، هناك الأمن النفسي، والأمن الاقتصادي، والأمن الاعتقادي، والأمن السياسي؛ وهناك الأمن الاجتماعي وله أيضا تفريعاته التي منها الأمن على العقول، والأمن على الأخلاق، والأمن على الأعراض.
والأمن على الأعراض بالذات له العديد من الاحتياطات، من أهمها منع الاختلاط، وهو موضوعنا اليوم، فالآية وإن كانت تتكلم عن امتنان الله تعالى على قريش فيما أحلهم من حرَمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد ومن دخله كان آمنا، فهم في أمن عظيم، والأعراب حولهم ينهب بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا، إلا أن العبرة بعموم اللفظ.
فالأمن الذي يمتن الله به على الناس له فروعه كما تقدم، وتفريعات الأمن لدى المؤمن ليست كما هي عند غيره، فالأمن على الأعراض مثلا له قيمة عالية في المجتمع المسلم المحافظ، بخلاف غيره من المجتمعات، وعندما نصف المجتمع المسلم بصفة المحافظة فإن ذاك الطابع المحافظ ليس نابعا من التقاليد والعادات كما يدعي بعض الإعلاميين والصحافيين والآخَرين من غيرهم ممن يجهل أحكام الشريعة، بل هو نابع من أصل الكتاب والسنة اللَّذَين مَن تمسك بهما إلى يوم القيامة لن يضل أبداً، كما جاء في الحديث الصحيح: "إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وسنتي".
فنعمة الأمن على الأعراض محروم منها الكثير حولنا، حتى بلغ الحال ببعضهم في بلد مجاورة أن تصحب البنت صديقها وتأتي به إلى بيت أبيها لتعرفه عليه، ولهذا ينبغي شكر الله على نعمته، والحفاظ عليها من الزوال، ونحن في هذه البلاد الطيبة ما زلنا نحتفظ ببقايا ذلك الطابع، وأقول بقاياه لأن المظهر المحافظ العام لم يعد كما كان.
فما زال هناك سعي شديد لتغيير هذا الطابع بشتى الوسائل، ومن ذلك السعي في المطالبة بالاختلاط، فأحدهم يقول دفاعاً عن الاختلاط: "فالمرأة هي أمي وأختي وابنتي، وهي جزء مني، ويجب علينا أن نترفع عن مزالق الشك، ومن يجد في نفسه شكَّاً في محارمه لا علاقة لنا به، فالإسلام هو دين السماحة"، فالاختلاط عندهم سماحة الإسلام.
وظهر علينا أحدهم قبل فترة بهيئة دينية ليفتري على الشريعة ويقول بمليء فمه: الاختلاط بين الجنسين جائز ولا دليل على تحريمه. ففرح به العلمانيون والتغريبيون، وطاروا به طيرانا، وعلق أحدهم على حديثه هذا قائلا: حديث الشيح كان مفاجأة جميلة منه، لاسيما وهو يأتي بلغة راقية وشجاعة.
ثم قال ساخراً: قضية الاختلاط لم تشغل أحدا بهذا الشكل الكثيف إلا المجتمع السعودي، كما أنها أعطت انطباعا سيئا عنه، حيث صورته وكأنه غابة من الوحوش المفترسة، لولا منع الاختلاط ومراقبته بشدة لافترس بعضهم بعضا.
واستمرت المقالات تلو المقالات، بتواطؤ واتفاق مفضوح؛ وكتب أحدهم يقول -وكأنه فقيه زمانه-: أثار هذا الموضوع (يقصد موضوع الاختلاط) أثار الكثير من النقاشات والحوارات التي أثارت الكثير من ردود الفعل الرافضة من جانب والمؤيدة من جانب، ثم قال: وأغلب الطرح كان يتناول الموضوع من الناحية الشرعية، إن كان الموضوع جائزاً أم لا، هل هو محرم ابتداءً؟ أو من باب سد الذرائع للحفاظ على تماسك المجتمع، والحفاظ على العفة، والمنع من ارتكاب المحرم شرعا.
ثم قال : فالكثير ممن هم متحفظون على الاختلاط ينطلقون من فكرة الحفاظ على المجتمع حيث لا يوجد دليل شرعي واضح يمنع الاختلاط بين الجنسين، وهنا أعني الاختلاط غير المحرم، ولا أقصد خلوة غير شرعية، وعلى هذا الأساس جرى الخلط بين ما هو شرعي عام وبين ما هو ثقافي يتعلق بالعادات والتقاليد المحلية لكل مجتمع، إلا أن أحداً لم يطرح الموضوع من الناحية الاجتماعية في حسناتها وسيئاتها، إذ لا توجد دراسات علمية في هذا الصدد توضح مدى علاقة هذا الموضوع بواقعنا، ومدى إمكانية تطوير هذا الواقع الذي تشير كل المؤشرات أنه واقع متردٍّ بامتياز. اهـ.
كل هذه الفلسفة يريد أن يصل من خلالها إلى إقناعنا بأن الاختلاط بين الجنسين من أهم وسائل تطوير المجتمع، يقول: إن الحد من علاقة الرجل بالمرأة من خلال سياسة العزل يضر بالمرأة كثيرا"! طيب لماذا؟ قال: "لأن ذلك يؤدي إلى تحديد وعيها بشكل يجعلها تخطئ كثيراً ولا تستطيع تنمية قابليتها النفسية والذهنية، فعلاقة النساء في مجتمعاتنا محدودة بنساء أخريات يمتلكن نفس الكم والنوع من المعرفة فلا يتطورون.
ويواصل: من هنا أقول إن بقاءنا بعلاقات محدودة (يعني بقاء الرجال ليس لهم علاقة بالنساء) يضعف مجتمعنا، ويعيق تطوره للأمام؛ فلابد للمرأة أن تشارك الرجل في صناعة المجتمع من خلال مشاركته الحوار والانفتاح عليه؛ لكسب تجربته، وتصحيح أخطائه، ورفع الحواجز التي تبعد عالمين خلقا لأجل أن يسيرا للأمام، ورفع هاجس الخوف من الآخر وجعله طبيعيا، وذلك بدل فوبيا العفة التي تطاردنا فتجعل منا أكثر تخلفا".
تأملوا الآن كيف يستشهد في نهاية مقاله بالقرآن على استحباب الاختلاط بين الرجال والنساء! يقول : "قال -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات:13]، فالتعارف -يقول-: أصدق تعبير للتواصل والحوار المتكافئ ". فسَّر قوله تعالى "لتعارفوا " أي يتعرف الرجال على النساء! فأي ضلال بعد هذا الضلال؟!.
معاشر الأخوة : إن دين الإسلام هو دين السماحة، هو دين اليسر، (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]، لكن يسر الإسلام ليس بالتشهي، ومواضعه ليست بالأهواء، فيقول الاختلاط من اليسر والسماحة، وإنما ينبغي إنزال اليسر موضعه الشرعي الصحيح بالدليل الشرعي.
فالتيمم مثلا حال فقد الماء "يُسر"، وقَصْر الصلاة الرباعية في السفر "يسر"، وإفطار المريض في نهار رمضان "يسر"، وسقوط الحج عن المرأة التي لا تجد محرما للسفر معها "يسر"، وجواز قول كلمة الكفر تحت التهديد بالقتل "يسر"، وأكل الميتة عند المجاعة "يسر"، وصلاة القعود للعاجز "يسر"، كل هذه الأوضاع وأمثالها مما دل الدليل على إباحتها هي بعض أمثلة يسر الإسلام ورفع الحرج عن أهله.فلا يأتي أحدهم ويقول "الاختلاط بين الجنسين يسر"!.
الأدلة على عكس ذلك تماماً، والمنصف الباحث عن الحق يدرك أن الاختلاط نوعان: نوع يشق الاحتراز منه مما عفت عنه الشريعة، مع شرطَيْ الستر للمرأة والاقتصار على الحاجة، كقوله -صلى الله عليه وسلم- لسودة: "إنه قد أذن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكن"، فهذا الخروج إلى الشارع أو السوق والاختلاط بسببه وبجمهرة الناس لا يمكن أن تحترز منه المرأة، فرفع الحرج، ويقال مثل هذا في الطواف والسعي، فهذا الاختلاط العفوي غير مقصود ولا مرتب، ومن ثم لا يمكن الاحتراز منه.
النوع الثاني من الاختلاط هو الاختلاط المتعمد الذي يمكن الاحتراز منه، ويمكن البقاء دونه مع أصل التكليف، وأصل التكليف نصّ على التجافي والبعد بين النساء والرجال سوى المحارم.
الحجابُ وحده، وهُو دليلٌ من القرآن، يكفي في إفهام العاقل طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وأنَّ الأصل فيها الابتعاد لا القرب والاختلاط؛ ومع ذلك فهذا حديث أم سلمة تقول فيه: "إن النساء كن إذا سلَّمْنَ من الصلاة (أي صلاتهن الفجر في مؤخر المسجد خلف الرجال) قُمْنَ، وثبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه"، وفي زيادة صحيح البخاري: "فينصرف النساء فيدخلن بيتهن قبل أن ينصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كل ذلك تحرزا من الاختلاط.
وفي المصنف عن أم سلمه أيضاً -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه، ومكث يسيراً كي ينصرفن قبل أن يدركهن أحد من القوم". قال النووي: "إن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن مَن ينصرف من القوم لأن الاختلاط بهن مظنة الفساد".
وجاء في الحاوي الكبير: والمرأة منهية عن الاختلاط بالرجال، مأمورة بلزوم المنزل، وصلاتها فيه أفضل. ولذلك قال النووي في تحقيقه، والزركشي في أحكام المساجد: حيث كان في خروجهن اختلاط بالرجال في المسجد أو طريقه، أو قويت خشية الفتنة عليهن لتزينهنَّ وتبرجهنَّ، حُرِّمَ عليهنَّ الخُروج، وعلى الزوج عدم الإذن لهنَّ، ووجب على الإمام أو نائبه منعهنَّ من ذلك.
وكلنا يعلم -أيها الأخوة- أن زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته هو أفضل وأتقى وأنقى زمان، ومع ذلك جاء في سنن أبو داوود بإسناد صحيح عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول وهو خارج من المسجد: "فاختلط النساء مع الرجال في الطريق، فقال: "استأخرن فإنه ليس لكن أن تحقِّقْن الطريق (ليس لكنَّ أن تمشين وسط الطريق)، عليكن بحافات الطريق"، (هؤلاء أتين للصلاة في المسجد)، فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. هذا في أفضل زمان، وعند أفضل أقوام، فيكف بزماننا هذا؟.
وبعض عشاق الاختلاط يحاولون تبرير جواز الاختلاط بوضع ضابط الحجاب والستر فيقولون: وما المانع من الاختلاط إذا كانت المرأة محجبة ساترة نفسها؟ فهذا هو النهي النبوي يرد عليهم يقول-عليه الصلاة والسلام-: "عليكن بحافات الطريق"، يوجهه -صلى الله عليه وسلم- لنساء محجبات في تمام الستر، كما وصفت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-؛ وفي صحيح مسلم: "أن نساء المؤمنات كن يصلين الصبح مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يرجعن متلفعات بمروطهن لا يعرفهن أحد".
أقول: هذا في زمن الصحابة، فكيف بزماننا؟ حتى إن الإمام مظهر الدين علق على موضوع خروج النساء للمساجد فقال: "فيه دليل على جواز خروجهن للمسجد للصلاة، لكن في زماننا مكروه"، مكروه في زمان الإمام مظهر الدين الزيداني، وهو من علماء القرن السابع!.
أسأل الله تعالى أن يصلح الحال، وأن يحفظ أعراضنا، وأن يقينا شر المفسدين، استغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن المؤمن الحق هو الذي يقف عند الدليل، ويوقر الدليل، ولا يتجاوز الدليل من الكتاب والسنة إلى ما هو دونه فيما يتعلق بمثل هذه المسائل وغيرها، وقد تبينت لنا الأدلة الشرعية واضحة في تحريم الاختلاط، ليس بمفهومه فقط ومعناه، بل بذات لفظ الاختلاط، وبالتالي سقطت دعوى المدعين بأن تحريم الاختلاط مصدره العادات والتقاليد، وطبيعة الطرح المتشدد في هذه البلاد.
ويكفيك قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) [الأحزاب:33]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والدخولَ على النساء!"، وما يستوحيه العاقل من لهجة هذا الخطاب واضحة، ثم يأتي من يقول: لا دليلَ على تحريم الاختلاط!.
إخواني الكرام: لعلنا نتناول شيئا من واقع الاختلاط ومحاذيره فيما نستقبل من أيام إن شاء الله، أسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وأخلاقنا، وأن يقينا شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي