ومن الملاحظ أن بعض الناس يتساهلون في هذه المسألة، فيتكلم متى بدت له حاجة، أو عنَّت في رأسه خاطرة؛ وكثيرٌ منهم يُحضر معه ابنه الصغير، فإذا سأله ابنه عن شيء لم يتردد في جوابه والحديث معه! ألا فليعلم أولئك أن الإنصات للخطيب واجبٌ لا مستحب، فلا يحل لمن علم ذلك أن يخالفه ..
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: إنها لنعم النصيحة! وإنها لأجمل تذكرة يقدمها الأخ لأخيه المسلم أن يحثّه على اتِّباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل شؤونه وأموره، وأن يوصيه باقتناء أثره في كل صغيرة وكبيرة، ذلكم بأن اتباع السنة سببٌ لحصول محبة الله للعبد، ورضاه عنه، وغفرانه لذنوبه: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران:31].
فدعونا الآن نتعرف على شيء من هديه -صلى الله عليه وسلم- ليتسنى لنا اتباعه والاقتداء به.
إن مما أهمله كثيرٌ من الناس، ومما غفل عنه أكثر المسلمين، لَهُو هديه -صلى الله عليه وسلم- في يوم الجمعة، وكيف كان يقضيه، وماذا كان يعمل فيه.
كان من هديه -صلى الله عليه وسلم- تعظيمُ هذا اليوم، وتشريفُه، وتخصيصُه بخصائص يختص بها عن غيره؛ وكان يقيم له وزناً عظيماً، وقدراً رفيعاً، حتى لقد اختلف العلماء: هل هو أفضل يوم عرفه؟!.
ولقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن فضله فقال في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرجه منها".
وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: عرضتْ الجمعة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، جاءه جبريل -عليه السلام- في كفيه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما هذه يا جبريل؟" قال هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيداً، ولقومك من بعدك، ولكم فهيا خير.
ولفضل يوم الجمعة أمَرَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته بتعظيمه، والاجتهاد فيه بأنواع القربات، وجعل له خصائصَ ومزايا ليست في غيره من الأيام.
فمن خصائص هذا اليوم أنْ شرَعَ الله فيه صلاة الجمعة التي هي من أهم فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، فمن حضرها حاز الفضل والثواب، ومن تهاون بها كان مهدداً بأليم العقاب.
أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة وابن عمر -رضي الله عنهما- أنهما سمعا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول على أعواد منبره: "لَيَنتهينَّ أقوام عن ودعهم -أي تركهم- الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونُن من الغافلين".
وعن أبي الجعد الضمري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من ترك ثلاث جُمَعٍ تهاوناً بها طبع الله على قلبه" أخرجه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم. وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: "من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر فهو منافق".
ومن خصائص يوم الجمعة: أنه يشرع فيه الاغتسال لصلاة الجمعة، وقد سنَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وحثَّهم عليه؛ بل لقد قال بوجوبه جمعٌ من أهل العلم، لكن الأكثرين على استحبابه.
ويشرع للمسلم في ذلك اليوم أن يتنظَّف، ويتطيب، ويلبس ثياباً حسَنة، ويخرج إلى الصلاة مبكراً ماشياً لا راكباً، ففي الحديث: "من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها" أخرجه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
وفي صحيح البخاري من حديث سلمان الفارسي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدَّهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى".
والإنصات للخطبة واجب، ومن تكلم فيها فقد لغا، لما في الحديث: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أَنْصِت فقد لغوت" أخرجه البخاري. قال الإمام المنذري: قوله لغوت قيل معناه خِبْتَ من الأجر، وقيل تكلمت، وقيل أخطأت، وقيل بطلت فضيلة جمعتك، وقيل صارت جمعتك ظهراً.
ومن الملاحظ أن بعض الناس يتساهلون في هذه المسألة، فيتكلم متى بدت له حاجة، أو عنَّت في رأسه خاطرة؛ وكثيرٌ منهم يُحضر معه ابنه الصغير، فإذا سأله ابنه عن شيء لم يتردد في جوابه والحديث معه! ألا فليعلم أولئك أن الإنصات للخطيب واجبٌ لا مستحب، فلا يحل لمن علم ذلك أن يخالفه.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على إمام المرسلين، صلى الله عليه وعلى أصحابه ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأخوة: فمن خصائص هذا اليوم الكريم أنه يوم تكفير السيئات، قال حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهنَّ، إذا اجتنبت الكبائر" أخرجه مسلم.
وروى الطبراني في الكبير من حديث أبي مالك الاشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله -عز وجل- قال: مَن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها".
وفي يوم الجمعة ساعة الاستجابة، وهي ساعة تفضّل الله بها على عباده، فمَن وافقها وسأل الله فيها أعطاه الله ما شاء، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إن في الجمعة لساعةً لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه".
ويستحب في يوم الجمعة الإكثار من الصلاة والسلام على خير الأنام -صلى الله عليه وسلم-، فهو القائل: "إن من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فأكثروا علَيّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي".
ويكره إفراد يوم الجمعة بصيام، وليلته بقيام، فإنه لم يرد ما يدل على فضل ذلك؛ بل قد ورد النهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن بعض المسلمين -هداهم الله- إذا دخل الخطيب وبدأ المؤذن في الأذان، فإن بعض الناس يقومون فيصلون ركعتين تطوعاً، وكذلك إذا جلس الخطيب بين الخطبتين، وهذا خطأ يجب التنبه له، فإن الخطيب إذا دخل انتهى وقت التطوع بالصلاة، فلم يبق إلا الترديد مع المؤذن ثم استماع الخطبة ثم الصلاة.
أسأل الله أن يرزقنا قلوباً صالحة تستمع القول فتتبع أحسنه، فوالله ما أعظم ما سمعنا من قربات! وما أفضل ما سمعنا من أنواع الطاعات، الموصلة إلى الرحمات والجنات!.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي