والعجب أننا نسمع ويسمع مَن قبلنا مِن عقودٍ متطاولة حلولاً وأطروحات ومبادرات وشعارات تسعى كلها في مَصَبٍّ واحد، هو حلّ قضايا المسلمين، غير أننا قلّ أن نسمع صوتًا ينادي بالعودة إلى الله، والوفاء بميثاقه، والحكم بشرعه، ونبذ قوانين البشر التي يتحاكمون بها، بدلاً عن شريعة الله ..
أما بعد: أيها المسلمون: في كل يوم يُفيق المسلمون على أخبار لا تسُرُّ الـمُحِب، على أخبارٍ تُدمِع العيون، وتُحزِن القلوب، وتورث الكمد والأسى.
استمع إلى مَن حولَك، قلِّب نظرك في أخبار العالم، اِطَّلِع على أقرب جريدة أو قناة تلفزيونية أو إذاعية، ستجد أخبار القتل والبطش والطرد والتشريد، وستسمع أنين الثكالى وبكاء اليتامى، في صور دامية، وأحداث مؤسفةٍ تتصدع لها الصم الصلاب؛ ولكننا لا نقول إلا ما يرضي ربنا، فالحمد لله على كل حال، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان، وعليه التكلان، وإليه وحده المشتكى.
أيها المسلمون: لقد بين لنا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- أسبابَ المصائب التي تصيب أمة الإسلام، وعدَّدها لنا؛ لنعلم أننا بخيرٍ ما اجتنبناها، وعلى خطر وشَرٍّ متى وقعنا فهيا. فماذا قال حبيبنا -صلى الله عليه وسلم-؟.
استمع إلى هذا الحديث الذي أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-، وهو حديث حسن الإسناد؛ لتعرف شيئًا من أسباب البلاء: يقول-صلى الله عليه وسلم-: "خمس بخمس"، ما هذه الخمس؟ وما الخمس التي تنتج عنها؟ قال: "خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سُلِّط عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طفَّفوا المكيال إلا مُنعوا النبات وأُخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حُبس عنهم القطر".
إنها خمسة أسباب خطيرة تستوجب منا وقفة ودراسة عميقة لننتشل أمتنا أمة الإسلام من هذه المصائب التي تحيط بها، وعلى رأسها تسلط الأعداء.
والعجب أننا نسمع ويسمع مَن قبلنا مِن عقودٍ متطاولة حلولاً وأطروحات ومبادرات وشعارات تسعى كلها في مَصَبٍّ واحد، هو حلّ قضايا المسلمين، غير أننا قلّ أن نسمع صوتًا ينادي بالعودة إلى الله، والوفاء بميثاقه، والحكم بشرعه، ونبذ قوانين البشر التي يتحاكمون بها، بدلاً عن شريعة الله.
إن رجوعنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كفيل بحلّ كل المشكلات، وتنفيس كل المعضلات التي يعاني منها المسلمون في هذا الزمان.
ولنا في التاريخ أعظم عبرة، فعندما كان المسلمون مستقيمين على أمر الله كانوا بمعزل عن الذلة والمهانة، بل كانوا أهل عزة ورفعة ومكانة، وأما اليوم فقلَّ أن ترى دولة إسلامية تصنّف من دول العالم الثاني، فضلاً عن دول العالم الأول، والله المستعان!.
إنَّ الأمَّة متى التزَمَتْ بأمر ربها فإنها أمة العدل، والخير، والرحمة، والإحسان إلى الخلق؛ تصلح قلوبهم، ويلتئم جمعهم، وتستجاب دعوتهم؛ وهذه من أعظم أسباب النهوض بالأمة.
كان سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- يتفقد الجيوش الإسلامية التي عسكرت بالقادسية لقتال فارس، فمرَّ بقوم من المقاتلين فإذا بهم يتهجدون ويحيون ليلهم بالقرآن، فقال: من هنا يأتي النصر؛ ثم مر بقوم نيام فقال: من هنا تأتي الهزيمة.
ومرَّ قُتيبةُ بن مسلم -وهو أحد كبار القادة الفاتحين- مر على معسكرات الجنود فرأى محمد بن واسع وهو من كبار التابعين، وإذا به قائم بالليل يصلي ويدعو وهو رافع أصبعه إلى السماء، فلما رآه قتيبة فرح بذلك وقال: إن أصبع محمد بن واسع أحبّ إليّ من ثلاثين ألف عنان. أي: من ثلاثين ألف فارس.
فبالله عليكم يا عباد الله! كيف ننتظر الفرح وقد نقضنا عهد الله وميثاقه؟! تأملوا في واقع بلاد المسلمين، كيف انتشرت فيها صروح الربا وحانات الخمور ودور الفساد واللهو، وانتشر الخبث، وعم الشر؟ وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم؛ إذا كثر الخبث".
أيها المسلمون: قد يقول قائل: ما شأننا نحن المسلمين بهذا الكلام الذي ينبغي أن يوجَّه إلى حكام المسلمين؟ فهم الذين بأيديهم -بإذن الله- الحل والعقد! فأقول: نعم، حكام المسلمين مسؤولون بالدرجة الأولى، ولكن الخطاب مِن على مثل هذا المنبر ليس موجهًا إليهم، وإنما هو موجه إلى كل مسلم يسمع هذا النداء، وأول سبل العلاج معرفة الدواء، فإذا عرفنا الدواء واقتنعنا به ونشرنا تلك القناعة ورسّخناها في قلوبنا وقلوب إخواننا المسلمين فقد بدأنا خطوة مهمة في طريق النجاح.
ثم أمرٌ ثان مهم جدًا، ألا وهو بداية صلاح أمة الإسلام تكون بصلاح الفرد المسلم؛ ولذا فإن نداءنا في هذه الخطبة موجه للفرد المسلم ابتداءً.
إنه من قلة الوعي وغياب المنهجية الصحيحة أن نرى من يبكي من تلك المصائب والمآسي التي أصيب بها أهلونا في الأرض المباركة مسرى محمد -صلى الله عليه وسلم- أرض الإيمان والطهر والبركة: فلسطين، فإذا نظرت إلى حالهم وجدت منهم مَن لا يعرف الصلاة، أو يتهاون فيها!.
عجيب والله! كيف نرجو زوال الغمة وانكشاف الكرب ونحن قد قطعنا العهد والميثاق بتركنا للصلاة؟!.
إذا كان تحرير بيت المقدس هَمـــَّاً في قلبك فتقرب إلى مولاك القويّ العزيز سبحانه وبحمده، وأصلِح معه حالك، وأنزِل به حاجتك، واجعل إليه شكايتك.
كيف يحمل هم الأمة أولئك الذين لا هم لهم إلا دنياهم؛ يأكلون ويتمتعون، لا يدرون كيف دخلت عليهم أموالهم من حلال أم من حرام؟! كيف يحمل الهمَّ أهلُ الشهوات، والبحث عن الملذات؟! كيف يحمِل همّ الأمة أولئك الذين قضوا أوقاتهم في السهو واللهو والغفلة؟!.
إن هؤلاء وغيرهم من الـــمُصِرِّين على الغفلة والذنوب والمعاصي لا يحملون هَمَّ الأمَّة، وليسوا أهلاً لذلك إلا أن يتوبوا إلى ربهم، ويرجعوا إلى رشدهم؛ فإنهم عندئذ عُدَّة الأمة وعتادها، وقوتها، وأملها، وفجرها المشرق بإذن الله.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي