علم الكريم أن عباده الصالحين يحبون القرب منه، والزلفى لديه، ففتح لهم الأبواب الموصلة إلى رحمته، وبين لهم الطرق المؤدّية إلى جنته، وعدَّدها، ونوَّعها؛ لئلا يمل هؤلاء المحبون ويكلّوا فيقطعوا، وسهَّلها؛ لئلا يتثاقلوا ويتركوا فيُحرموا، وهذا من رحمته وتيسيره لعباده، إنه هو البر الرحيم ..
أما بعد:
أيها الناس: فإن الله جل ذكره وتقدست أسماؤه قد سمى نفسه بأحسن الأسماء وأجلها، وأعلاها وأكملها، (وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180].
ومن جملة ذلك أنه سبحانه قد سمى نفسه بالكريم، ووصف نفسه سبحانه بأنه ذو الجلال والإكرام، فسبحانه ما أكرمه! وما أعظم فضله على عباده!.
وإذا ذُكر الكرام عُدَّ من أنبل صفاتهم وأكرم نعوتهم أنهم يفتحون أبوابهم ليدخل إليهم مَن يريدون القِرى، وينشدون الفضل والإحسان.
والله عز وجل، وله المثل الأعلى، قد علم أن بعباده إليه حاجة، وأنهم مفتقرون إليه، لا غنى لهم عنه، يريدون فضله، ويطمعون في عطائه ونواله، ويرغبون في القرب منه، والزّلفى لديه، ففتح لهؤلاء العباد أبوابًا كثيرة مُشرَعة؛ ليدخلوا منها إلى فضله وإحسانه، وإلى رحمته ورضوانه.
نعم، علم الكريم أن عباده الصالحين يحبون القرب منه، والزلفى لديه، ففتح لهم الأبواب الموصلة إلى رحمته، وبين لهم الطرق المؤدّية إلى جنته، وعدَّدها، ونوَّعها؛ لئلا يمل هؤلاء المحبون ويكلّوا فيقطعوا، وسهَّلها؛ لئلا يتثاقلوا ويتركوا فيُحرموا، وهذا من رحمته وتيسيره لعباده، إنه هو البر الرحيم.
والناظر في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- يجد هذه الطرق أكثر من أن تحصر، ومن رام عَدها رام أمرًا عسيرًا، ولكن حسبنا أن نعمل بما نعلم، وأن نتذاكر فيما بيننا فيما لا نعلم، وأن نجتهد في ذلك، فمن اجتهد وجد، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حدّث أصحابه عن الزكاة، فسأله الصحابة عن الإبل والخيل، فأخبرهم بحقها وأجرها، ثم سألوه عن الحُمُر، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما أنزل الله عليَّ في الحُمُر شيئًا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه) [الزلزلة:7-8].
وهذا الجواب تقعيدٌ مفيدٌ لمسألة عظيمة ذاتِ شعب متكاثرة، فبين للسائل أن الله -عز وجل- جعل على نفسه أن يعطي كل ذي حق حقه، فمن عمل صالحًا فسوف يراه، ومن عمل سيئًا فسوف يراه، وما ربك بظلام للعبيد.
وفضل الله واسع، وعطاؤه جزيل، فربما عمل العبد عملاً يظنه يسيرًا ولكنه عند الله عظيم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة أيضًا أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما كلبٌ يُطيف بركية قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها -أي: حذاءها- فاستقت له به، فسقته، فغفر الله لها به".
الله أكبر! امرأةٌ زانية اشُتهرت بالبغي والإفساد، عملت عملاً صالحًا أخلصت لله فيه فغفر الله ذنوبها، سبحانه هو الغفور الرحيم! فما ظنكم بمــَن رحم مؤمنًا مسكينًا ففرَّج عنه أو أطعمه وسقاه؟!.
ومثل هذا ما أخرجه مسلم عنه -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد رأيت رجلاً يتقلَّب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين"، وفي رواية: "مرَّ رجلٌ بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: والله لأنحينَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة".
ولا عجب؛ فإن ذلك الرجل وتلك المرأة لم يتعاملا مع مخلوق يعتريه الضعف والفقر والبخل، وإنما كانت معاملتهما مع خالق كريم عظيم يحبّ من عباده أن يتقربوا إليه بالأعمال ولو قلّت؛ لينميها لهم، ويدخلهم بها جنات النعيم.
وسأشير في هذا المقام إلى أنواعٍ من طرق الخير لا يجمعها بابٌ، ولم يراعَ في عدِّها ترتيب، وإنما هي أعمال صالحة تُذَكِّر بما عداها، وتدل على ما سواها، وتزيد المؤمنين إيمانًا، وتبعث في نفوسهم الهمم؛ ليرتقوا إلى أعالي القمم، فسلعة الله غالية، ومَن طلب الحسناء لم يَغْلهُ المهرُ.
فمن ذلك ما أدرك به الصحابيُ الجليلُ بلالُ بنُ رباح -رضي الله عنه- المنازلَ العاليةَ في جنات النعيم، فقد جاء في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم-سأل بلالاً فقال: "يا بلالُ، حدثني بأرجى عمل عمِلتَه في الإسلام"، لماذا سأله؟ إنما سأله ليعلم الأمر الذي أوصله إلى أعالي الجنان.
"يا بلال، حدِّثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دفَّ نعليك بين يديَّ في الجنة"، فقال بلال: يا رسول الله، ما عملتُ عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليتُ بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي.
وفي رواية لابن خزيمة عن بريدة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل بلالاً -رضي الله عنه- فقال: "يا بلالُ، بمَ سبقتني إلى الجنة؟ إني دخلت البارحة الجنةَ فسمعت خشخشتك أمامي". فما أسعد بلالاً إذ جاءته البشارة! لا بدخول الجنة فقط وإنما بكونه سابقًا إليها!.
ثم ما هذا العمل؟ وهل يعجز أحدنا أن يصلي ركعتين كلما توضأ تقربًا إلى مولاه عز وجل؟! يا له من عملٍ عظيمٍ يورثُ صاحبه الجنة، مع سهولته ويسره على من أراده!.
ومن الأعمال الصالحة ذلك العمل الذي غفل عن عظيم أجره أكثرنا، ألا وهو الذهاب إلى المسجد والرجوع منه، فأكثرنا يظن أن الأجر يكون على الذهاب إلى المسجد فقط، أما الرجوع من المسجد فلا أجر فيه، وهذا من الجهل بفضل الله وإحسانه إلى عباده المقبلين على طاعته سبحانه.
فعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كان رجلٌ من الأنصار لا أعلم أحداً أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة، فقيل له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء وفي الرمضاء، فقال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قال الرجل، فقال: "قد جمع الله لك ذلك كله" أخرجه مسلم.
ومن الأعمال الصالحة أيضًا ذلك العمل الذي قلّ اهتمام الناس به وتسابقهم إليه، ألا وهو الأذان، فربما اجتمع قومٌ في مكان أو خرجوا في سفر ثم حضرت الصلاة فلم تجد بينهم من التنافس والحرص على التأذين ما يليق بهذا العمل العظيم.
ولهؤلاء نسوق حديثًا أخرجه البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال له: يا عبد الرحمن، أني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذَّنْتَ للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوتِ المؤذِّن من حجَرٍ ولا شجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وربما كان العمل واجبًا على العبد بمقتضى الطبع والفطرة والعادة، ومع ذلك فقد جعل الله لصاحبه أوفر الثواب وأوفاه، ولعل أقرب مثال على ذلك إنفاق الرجل على زوجه وعياله، فإنه واجب عليه لا مِنّة له فيه، ولو لم يقم به لناله الذم، وربما العقاب؛ ومع ذلك جعل الله لمن قام به، محتسبًا، الأجرَ العظيمَ، والثوابَ الكريمَ.
ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك".
فالحمد لله الذي جعل لنا في ما لابد لنا منه أجرًا، ويا لخسارة أولئك الذين ينفقون أموالهم ثم لا يحتسبون أجرها إذا صارت يوم القيامة هباءً منثورًا.
ثم إنها دعوة لكل مسلم أن يخلص نيته ويستحضر احتساب الأجر في جميع أحواله؛ لئلا يُحرم فضل ربه سبحانه.
ومن هذا الباب ما جهله أو غفل عنه بعض المسلمين من ثواب من أحسن إلى بنياته واحتسب في ذلك فضل ربه، فمن فعل ذلك كانت بُنَيَّاتُهُ سترًا له من النار، كما جاء في الصحيحين حديث عائشة -رضي الله عنها-، وعن أنس مرفوعًا: "من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو وضمَّ أصابعه" أخرجه مسلم والترمذي وفيه: "من عال جاريتين كنت أنا وهو في الجنة كهاتين".
وقد جاءت إلى عائشة -رضي الله عنها- مسكينة تحمل ابنتين لها، فتصدقت عليها عائشة -رضي الله عنها- بثلاث تمرات، فأعطت المرأة كل واحدة من البنتين تمرة، ورفعت الثالثة إلى فمها لتأكلها، ولكن البنتين طلبتا تلك التمرة من أمهما، فرحمتهما الأم، وشقت التمرة نصفين، وأعطت كل واحدة نصفًا.
فتعجبت عائشة -رضي الله عنها- من صنيع هذه المرأة، فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما صنعت المرأة فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قد أوجب لها بهما الجنة" أو: "أعتقها بهما من النار" أخرجه مسلم.
ومن أصلحِ الأعمال وأعظمها نفعًا في العاجل والآجل ذلك العمل الذي كثر التفريط فيه إلا من رحم الله من المسلمين، إنه زيارة الإخوان في الله من غير غرض ولا عرض إلا لمحبتهم في الله، وابتغاء مرضاة الله.
ففي الحديث، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن رجلاً زار أخًا له في الله، فأرصد الله على من مدرجته -أو قال: على طريقه- ملَكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك من نعمة تَربُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال المــَلَك: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبَّك كما أحببته فيه" رواه مسلم.
فانظر -يا عبد الله- وتفكر كيف كانت زيارة هذا الرجل لأخيه سببًا في محبة الله لذلك الرجل! وأي فضل وشرف أعظم من محبة الله للعبد؟! وماذا ستكون درجته في الآخرة؟! فنسأل الله من فضله ورحمته.
فحريٌ بنا -يا عباد الله- أن نعمل بما نعلم، وأن نتعلم ما لم نعلم، والله عنده أجر عظيم.
أيها المسلمون: فإن العبد المؤمن إذا سمع الآيات والأحاديث التي يُذكر فيها عظيم فضل الله وعظيم ما أعده للعاملين من عباده فإن نفسه تتوق إلى العمل الصالح، وقلبه يشتاق إلى ما أعده الله لمن أحسن عملاً، (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة:16-17].
وذلك النشاط، وتلك القوة التي تنبعث عند سماع الذكر، دليلٌ على الإيمان، ومحبة الرحمن، فمِن صفات المؤمنين أنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فبشَّرَهم الله بالخير، وذكرهم بأشرف الذكر: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) [الزمر:18]؛ فما أسعد ذلك العبد الذي يستمع القول! فإذا بك تجده أول العاملين به، المشمرين إليه، الداعين إليه.
فأَجِلْ -أيها المسلم المحبُّ- نظرك، وتلفَّتْ يمينًا وشمالاً لترَ فئامًا من عباد الله كيف يتقربون له، ويتحببون إليه، فمنهم من يقوم الليل، يحرِم نفسه لذة النوم والراحة؛ لأنه سمع قول الصادق المصدوق: "وصلُّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام".
ومنهم من يصوم الهواجر صابرًا على الجوع والعطش والتعب، لماذا؟ لأنه سمع قول من لا ينطق عن الهوى: "مَن صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا".
وثالثٌ لسانه رطب بالقرآن، ورابعٌ لا يفتر من دعوة الناس إلى الخير وتعليمهم دين الله... وهكذا في صفوة من المتعبدين الطالبين فضل رب العالمين.
فتأمل أنت -يا عبد الله- حالَك: كيف حالُك؟ وأين أنت من تلك الأعمال؟ وأين أنت في أولئك الرجال؟ أم أن نصيبك سماعُ أخبار الأخيار، وقيام حجة الله عليك؟!.
أَتَرْضَى أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ *** لَهُمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ؟
اللهم اهدنا صراطك، وأعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي