من سير الصحابة

محمد بن سليمان المهنا
عناصر الخطبة
  1. من فضائل الخلفاء الراشدين .
  2. من سيرة أبي ذر رضي الله عنه .
  3. دروس وعِبر مستفادة من سيرة أبي ذر العاطرة .

اقتباس

ثم إن أبا ذر ذهب إلى قومه مؤمناً بالله ورسوله، ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم؟ فذهب أبو ذر إلى قومه فدعا أخاه أنيساً فأسلم، ثم أتيا أمهما فأسلمت وصدّقت، ثم أتيا قومهم غفاراً فأسلم نصفهم، وقال نصفهم الآخر إذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا ..

أيها المسلمون: عندما يُذكر الصالحون تتشنف الآذان، وتتشوف القلوب، وتتشوق الأنفس إلى معرفة سيرهم وأخبارهم، ومآثرهم وآثارهم.

يا لها من لحظات جميلات تلك التي تُقضَى مع سِير أولئك الأفذاذ الكرام، والأئمة الأعلام! وما ألَذَّها من أوقات تلك التي يُذكر فيها أئمة الدين، وقادة الإسلام.

ولعل من المسلَّمات التي يعتقدها كل مسلم أن أفضل القرون قرنُ النبي صلى الله عليه وسلم والذي عاش فيه أولئك العظماء من أصحابه، من أمثال العشرة، وأهل الشجرة الذين أرضَوا اللهَ ورضُوا عنه؛ فرضِي عنهم، فأعلى ذكرهم، وشرّف قدرهم.

ألم يكن فيهم أبو بكر؟ ذلك الإمام الكبير الذي أعز الله به الدين، بعد أن أعزه بالدين؟ ذلك الرجل الذي صبر وصابر، وفدى رسول الله بكل ما يستطيع، فأورثه الله عز الدنيا؟ فهو خير هذه الأمة بعد نبيها، ووعَدَه بعِزِّ الآخرة، وما عند الله خيرٌ وأبقى.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ذات يوم فقال: "إن الله -عز وجل- خيَّر عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عنده". فبكى أبو بكر، فتعجب الصحابة! لماذا بكى؟ قال أبو سعيد الخدري راوي الحديث: فعجبنا لبكائه.

وفي رواية الترمذي فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ -يعنون أبا بكر- يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل خيَّره الله فيبكي ويقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا!.

قال أبو سعيد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر هو أعلمَنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى بكاء أبي بكر: " إن من أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوّة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد بابٌ إلا سُد، إلا باب أبي بكر" متفق عليه.

وإن تعجب فعجبٌ سيرة الإمام الثاني وهو الذي يلي أبا بكر في الفضل، إنه الفاروق عمر والذي تعجب منه النبي صلى الله عليه وسلم وأُعجب بقوته وهيبته فقال -كما في الحديث المتفق عليه- من حديث سعد بن أبي وقاص: " إيهٍ يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده، ما لقِيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك!".

ثم ثلِّثْ بذكر الإمام الكريم المعطاء، ذي الجود والسخاء، والعفة والحياء: عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، أخرج الإمام مسلمٌ من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيته كاشفاً عن ساقيه، فاستأذن أبو بكر ثم استأذن عمر فأذن لهما وهو على تلك الحال، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوّى ثيابه! فعجبَتْ عائشة وسألته عن سبب اهتمامه بعثمان -رضي الله عنه-؟ فقال: "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة؟".

ومن أولئك القوم الكرام: صاحبُ الفضائل البطل العالم العابد المجاهد: عليُ بن أبي طالب، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم كما في رواية مسلم: "أنت مِنِّي بمنزلةِ هارونَ من موسى، إلا أَنَّه لا نبيَّ بَعدي".

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:100].

أيها المسلمون: ولقد كان من أولئك السابقين الأولين رجلٌ من خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنه الإمام العابد الزاهد ذو العلم والورع والذي عُرف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبأنه لا يخاف في الله لومة لائم.

وسجَّلَ له التاريخ أنه من أكبر الدعاة المصلحين، حيث هدى الله على يديه أمماً من عباده المؤمنين، إنه أبو ذر، جندبُ بنُ جنادة الغفاري -رضي الله عنه-، ذلك الذي أسلم يوم كان الإسلام غريباً، ونال من جرّاء ذلك ما نال من التعذيب والنكال.

لنستمع إلى قصة إسلامه من المصادر الأصلية، ولنستمتع بها مفصَّلة، كما أوردها الإمام مسلمٌ في صحيحه، مع التصرف اليسير.

قال عبد الله بن الصامت -رحمه الله-: قال لي أبو ذر -رضي الله عنه-: قد صليتُ يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين. قلتُ: لمن؟ قال: لله. قلت؟ فأين توجَّه؟ قال أتوجه حيث يوجهني ربي.

ثم إن أُنيساً أخا أبي ذرٍ عرضت له حاجة في مكة فسافر إليها، ولم يكن أبو ذر وقومه من سكان مكة، فلما رجع أنيسٌ من سفره حدَّثه بما رآه في مكة فقال: لقِيتُ رجلاً بمكة يزعم أن الله أرسلهُ والناس يقولون عنه إنه شاعر وكاهن وساحر؛ ولقد سمعتُ قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شاعر. ثم قال أنيس: والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون!.

ثم إن أبا ذر أراد أن يقف على الأمر بنفسه، فذهب إلى مكة فلقي رجلاً من أهلها فسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاح الرجل بالناس وقال: الصابئ! فجاء الناس إلى أبي ذر، وعلموا أنه يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربوه ضرباً شديداً حتى خر مغشياً عليه وهو مضرجٌ بالدماء كأنه نُصُبٌ أحمر.

قال أبو ذر: فأتيت زمزم فَغَسَلتُ عني الدماء وشربت من مائها، ولقد لبثتُ ثلاثين بين ليلة ويوم ما كان لي طعامٌ إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسَّرت عُكَنُ بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع!.

وفي ليلة من الليالي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر إلى الكعبة، وكان أبو ذر جالساً عندها، فلما جاء صلى الله عليه وسلم استلم الحجر وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلى، فلما قضى صلاته قال له أبو ذر: السلام عليك يا رسول الله. فقال: "وعليك ورحمة الله"، قال أبو ذر: فكنت أنا أول من حياه بتحية الإسلام، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن اسمه وقبيلته وعن وقت مقدمه، ثم ضيَّفه أبو بكر -رضي الله عنه- في بيته.

ثم إن أبا ذر ذهب إلى قومه مؤمناً بالله ورسوله، ثم أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى الله أن ينفعهم بك، ويأجرك فيهم؟ فذهب أبو ذر إلى قومه فدعا أخاه أنيساً فأسلم، ثم أتيا أمهما فأسلمت وصدّقت، ثم أتيا قومهم غفاراً فأسلم نصفهم، وقال نصفهم الآخر إذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلمنا، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة أسلموا.

ثم جاءت قبيلة أسلم وكانوا أخوة لغفار فقالوا: يا رسول الله! نُسلم على الذي أسلم عليه إخوتنا فأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غفارٌ غفر الله لها، وأسلم سالمها الله".

تلكم القصة وهاتيك الأحداث جزءٌ يسير من أحداث حياة أبي ذر العامرة بالخير والصلاح، المؤذنة بحسن العاقبة والفلاح.

ولنا أن نقف مع ما سمعنا من أحداث حياته -رضوان الله عنه- لنأخذ الحكمة، ونستفيد العبرة، فإن من الدروس التي تستفاد من قصته العامرة ماحدَّث به عن نفسه أنه كان حريصاً على عبادة ربه، اجتهاداً من عند نفسه، فكان يصلي يوم أن خلت الأرض ممن يصلي إلا ما ندر؛ وما ذلك إلا لأنه فُطِر كغيره من الناس على معرفة الله، وحبه، واعتقاد وجوب طاعته، والانقياد له، وعبوديته.

أما أبو ذر فاستمرت فطرته على السلامة حتى حظي بالإسلام، وأما أكثر الناس فاجتالتهم الشياطين، ففي صحيح مسلم عن عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: "إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين".

وفي الصحيحين " كل مولود يولد على الفطرة"، ويصدق ذلك قول الله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف:172].

فالله عز وجل قد فطر القلوب على توحيده، وأنه هو المعبود بحقٍّ وحده لا شريك له، ثم أقام الأدلة والشواهد على ذلك بما خلق من عظيم المخلوقات، وما أبدع من عجائب الكائنات.

وفِي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ *** تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الواحِدُ
فيَا عَجَبَاً كيْفَ يُعْصَى الإل *** هُ أم كيف يجحدُهُ الجاحدُ

وبعد كل ذلك أرسل الرسل لئلا يكون للناس على الله حجة بعدهم، فمَن لم يؤمن بعدَ ذلك فقلبه خبيث لا يقبل الطيب، فاستحق النار دار الخبثاء، وحُرم الجنة دار الأتقياء.

ومن العبر المستفادة أن نعلم فضل ذلك الصحابي الكريم -رضوان الله عليه-، وكيف عمل وحاول حتى هدى الله على يده قبيلته غفاراً وإخوانَهم قبيلةَ أسلم، فكان -رضي الله عنه- السبب في إسلامهم جميعاً.

الله أكبر! ما أعظم همته! وما أشق مهمته! إذ لم يكتف بهداية أخيه وأمه، بل دعا إلى الله حتى تم على يده هذا الفتح الكبير.

ثم العجب منا نحن الذين نشأنا في دار الإسلام وبين أهل الإسلام ثم لا تجد لدينا من الهمة شيئاً كثيراً ولا يسيراً لأن ندعو إلى الله، ونرشد عباد الله!.

تجد أحدنا ربما أمضى في الإسلام عشرات السنين ولم يهد الله على يديه أحداً، بل ولم يفكر في الدعوة أبداً!.

والأهم من ذلك، بل والأطم، أنه يقدم علينا في بلادنا أقوام ٌ من غير المسلمين ثم يرجعون إلى ديارهم كما أتوا، وربما رجعوا ناقلين عن ديننا ما لا يليق، سبحان الله! أبلَغَتْ بنا الهمم إلى هذا الحد؟ أهان علينا ديننا حتى لم نبال آمَن به الناس أم لم يؤمن به أحد؟!.

إن أمم الكفر لتبذل الأموال الطائلة، والأتعاب الهائلة، وترسل دعاتها إلى البلدان، هذا وهم على الضلال، فما بالنا لا نفيق؟!.

وفي هذه السنين تفضل الله على الناس بانتشار المطبوعات، ووجود المكاتب التي تعنى بدعوة غير المسمين، وتجددت سبل الدعوة، كإنشاء المواقع الإسلامية، وإرسال الإيميلات الدعوية، وغير ذلك من الأسباب الميسرة بحمد الله.

إذن، لم يعد لأحد حجة بعد ذلك، فهبُّوا -يا عباد الله- من الرقاد، وانشروا دينكم طلباً لمرضاة ربكم، فلعل الله أن يهدي بك رجلاً فتحظى بأجر كل عمل صالح يعمله، و"لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمر النّعم".

بارك الله لي ولكم....


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي