إن المتوكل لما أيقن أن الأمور كلها بيد الله -جل وعلا-، جمع قلبه كله على الله -عز وجل-، ولم يلتفت قلبه إلى غير الله -جل وعلا- طرفة عين، فإذا اجتمع قلب العبد على الله -جل وعلا- تعلق قلبه بالله -عز وجل- أيما تعلق، وتبرأ كُلية من كل ما سوى الله، فقوي نور التوحيد في قلبه، وكلما ترقى العبد في تلك المرتبة، رسخت شجرة الإيمان في قلبه، وحقق من التوحيد ما يجعله محلاً لمزية ونعمة لا تضاهيها نعمة.
أما بعد: فإن من رحمة الله -جل وعلا- بهذه الأمة أن جعل أبواب الخير وأعمال البر واسعة متعددة ومتنوعة، فمنها أعمال بدنية، وأخرى قلبية.
فأعمال الجوارح متوقفة على أعمال القلب، صحة وفسادًا، ثوابًا وعقابًا: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، أعمال القلوب -يا عباد الله- أعظم خطرًا وأكثر أهمية من أعمال الجوارح؛ ذلك أن القلب هو منبع الإيمان أو الكفر، ومحل الصحة والفساد، قال تعالى: (أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَـافِلُونَ * لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخِرَةِ هُمُ الْخَـاسِرونَ) [النحل:108، 109]، وقال -جل من قائل-: (فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ) [البقرة:10].
وعلى سلامته رتّب الله الفلاح فقال ذاكرًا دعاء إبراهيم -عليه السلام-: (وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء:87-89]، وهو سيد الأعضاء، "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب". قاله من لا ينطق عن الهوى –صلى الله عليه وسلم-.
وكسب القلب هو مناط الثواب والعقاب؛ قال -تبارك وتعالى وعلا-: (لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِلَّلغْوِ فِى أَيْمَـانِكُمْ وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [البقرة:225].
إن الحديث عن القلب وأعمال القلوب يطول، لا يمكن أن تأتي به كلمة أو كلمات أو مقالة أو مقالات.
ومع الأسف الشديد، فعلى الرغم من أهمية أعمال القلوب، إلا أنها لم تلقَ الاهتمام الكافي من المسلمين، سواء في جانب العلم أم العمل.
وفي هذه الخطبة سنتكلم عن عمل من أهم أعمال القلوب، إلا وهو التوكل.
التوكل -يا عباد الله- من أعظم المقامات، وأرفع الدرجات، وأجلّ الأعمال الصالحة، وأنبل أعمال القلوب، ولهذا ورد عن سعيد بن جبير -كما روي أيضًا عن ابن عباس- قال: "التوكل جماع الإيمان".
فضائل التوكل وثمراته تنال العبد في الدنيا قبل الآخرة، ثم إن ثمراته الدنيوية تشمل النفع الروحي، والنفع المادي.
أما منافع التوكل الروحية: فأولها طمأنينة القلب وسكون النفس، لِما يعلم المتوكل أن الأمور كلها بيد الله تعالى، فلا يحصل له إلا ما قدره الله له، وكتبه، وعندئذ تحصل له القناعة، وهي من أعظم كنوز هذه الدنيا، فيعيش قرير العين، هادئ البال، وهذه نعمة عظيمة لا يقدرها إلا من حرمها، نسأل الله السلامة.
لا تجزعن متى اتكلت على الذي *** مازال مبتدئًا يجود ويفضل
ولقـد يريح أخو التوكل نفسه *** إن المريح لـعمرك المتوكل
عباد الله: إن المتوكل لما أيقن أن الأمور كلها بيد الله -جل وعلا-، جمع قلبه كله على الله -عز وجل-، ولم يلتفت قلبه إلى غير الله -جل وعلا- طرفة عين، فإذا اجتمع قلب العبد على الله -جل وعلا- تعلق قلبه بالله -عز وجل- أيما تعلق، وتبرأ كُلية من كل ما سوى الله، فقوي نور التوحيد في قلبه، وكلما ترقى العبد في تلك المرتبة، رسخت شجرة الإيمان في قلبه، وحقق من التوحيد ما يجعله محلاً لمزية ونعمة لا تضاهيها نعمة، وهي دخول الجنة من غير حساب، ولعل هذا هو السر الذي نال به المتوكل كمال التوكل هذه المزية.
أيها المؤمنون: ولأجل ما تقدم كان التوكل من أعظم الطرق الموصلة إلى الله -عز وجل-، يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- معلقًا على قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [المائدة:23]، "فجعل التوكل على الله شرطًا في الإيمان، فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه، وفي الآية الأخرى: (وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ)، فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وقال: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [إبراهيم:11] فذِكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل، وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفًا فهو دليل على ضـعف الإيمان ولا بد".
أيها المؤمنون: ومن أهم ما ورد في فضل التوكل، حديث ابن عباس في السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، فقال في وصفهم: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون"، وسيأتي تمام سياقه.
عباد الله: فيما تقدم بعض الآثار الدنيوية المعنوية المترتبة على التوكل.
أما آثاره الدنيوية المادية فهي كذلك كثيرة، فمن أهم تلك الآثار:
حصول المطلوب للإنسان بأدنى الأسباب وأيسر السبل، ولهذا جاء في حديث عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى- عنه عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا".
يقول ابن رجب: "ويدل الحديث على أن الناس إنما يؤتون من قلة تحقيق التوكل ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم ومساكنتهم لها، فلذلك هم يتعبون أنفسهم في الأسباب ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد ولا يأتيهم إلا ما قدر لهم، فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب، كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير"، ثم نقل عن ابن أبي حاتم قوله: "هذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يستجلب بها الرزق".
فليس لنا غير التوكل عصمة *** على ربنا إن التوكـل نافـع
أيها الإخوة: لقد طغت الحياة المادية على البشر؛ كل البشر، مسلمين وغيرهم، لا سيما في هذه البلاد، فتراهم يبالغون في ملاحظة الأسباب وأخذ الاحتياطات، وصرف جُل الأوقات في ملابسة الأسباب المادية، ويهملون أعظم الأسباب، وهو التوكل على الله -عز وجل- خالق الأسباب، ومرتب النتائج عليها.
لقد انغمس الناس في حمأة الحياة الدنيا، وتعلقوا بأسبابها، فلهذا وكَلهم الله إليها، فلهذا أنزل الله من المصائب والمحن، ما ازداد الناس بها شغلاً، يبحثون لها عن الحلول، فلا يكادون يجدون حلاً ماديًا حتى يبتليهم الله بمعضلة أكبر من سابقتها، وهكذا فلا يخرجون من حفرة إلا وقعوا في أكبر منها، وما ذاك إلا لبعدهم عن الله -عز وجل-، واعتمادهم على أنفسهم، ووقوفهم عند الأسباب المادية، وصدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- إذ يقول: "من جعل الهموم همًّا واحدًا؛ هم المعاد، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أوديتها هلك".
انظر إلى ذلك الرجل المسكين الذي يكد ويتعب في البحث عن لقمة العيش، لا يسمع عن طريق لكسب المال إلا وطَرقه، يعيش في هم ونكد، بسبب هذه اللقمة، لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال، إذا جمع ما يكفيه يومه، فكر في جمع ما يكفيه شهره، وإذا فعل ذلك فكر في جمع ما يكفيه سنته، بل ما يكفيه عمره، بل ما يكفيه ويكفي أبناءه، بل إنه لا يفكر في مجرد الكفاية، وهكذا إلى نهاية حياته.
وينسى هذا المغرور المسكين أن يكل الأمور كلها لله، ويعتمد عليه ويثق به، ويسأله من خيري الدنيا والآخرة، فلن يأتيه من رزقه إلا ما كتب له، ألم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب".
إن الـمقاسـم أرزاق مقـدرة *** بين العبـاد مـحروم ومدخر
فمـا رزقـت فإن الله جـالبه *** وما حرمت فما يجري به القدر
فاصبر على حدثان الدهر منقبضًا *** عـن الدناءة إن الحُر يصطبر
ولا تبيـتن ذا هـمٍّ تعـالـجه *** كأنه النار في الأحشاء تستعر
فالهمّ فضل وطول العيش منقطع *** والرزق آتٍ وروح الله منتظر
يقول حاتم الأصم -الذي كان يقال له: لقمان هذه الأمة لِما له من كلام الحكمة والمواعظ-: "لي أربعة نسوة وتسعة أولاد، ما طمع شيطان أن يوسوس إليّ في أرزاقهم"، وها هو يسأل شقيقًا البلخي، فيقول: "مذ صحبتني أي شيء تعلمت مني؟! فقال: ست كلمات: وذكر منها: رأيت الناس في شك من أمر الرزق، فتوكلت على الله، قال الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود: 6].
قضية تشغل العالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، يهتم بها الصغير قبل الكبير، جندت لها الدول من الطاقات البشرية والمادية، ما يكفي لإطعام جياع العالم، ألا وهي الأمن الغذائي، أتعبتهم هذه القضية، ونسوا ربهم وخالقهم، بل كأنهم خلقوا من غير خالق، وكلوا أنفسهم لغير الله -عز وجل- فوَكَلهم الله إلى أنفسهم فاستحوذ عليهم الشيطان، فساق إليهم حيلة خبيثة من صنعه، ألا وهي تحديد النسل، حسَبوا غلات الأرض، ونسبة التكاثر، فوجدوها غير متناسبة، إذًا لابد من التوازن حتى تعيش الأجيال القادمة حياة كريمة، هكذا يزعمون، ونسوا الله، فأنساهم أنفسهم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيـامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ ايَـاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه:124-126].
قال أبو حاتم: "الواجب على العاقل لزوم التوكل على من تكفل بالأرزاق؛ إذ التوكل هو نظام الإيمان وقرين التوحيد وهو السبب المؤدي إلى نفي الفقر ووجود الراحة، وما توكل أحد على الله -جل وعلا- من صحة قلبه، -حتى كان الله جل وعلا بما تضمن من الكفالة أوثق عنده بما حوته يده- إلا لم يكله الله إلى عباده وآتاه رزقه من حيث لم يحتسب".
توكل على الرحمن في كل حاجة *** أردت فإن الله يقضـي ويقدر
متى مـا يريد ذو العرش أمـرًا *** بعبد يصبه وما للعبد ما يتخير
وقد يهلك الإنسان من وجه أمنه *** وينجو بإذن الله من حيث يحذر
أيها المؤمنون: بعد أن عرفنا شيئًا من فضل التوكل، وألمحنا بسرعة خاطفة لبعض ثمراته في الدنيا والآخرة، فلا بد لنا من تجلية حقيقته، وتوضيح معناه، وبيان مدلوله: معنى التوكل في اللغة والشرع.
عباد الله: أما أصل معنى كلمة التوكل في اللغة فإنه يدور على إظهار العجز والاعتماد على الغير.
ولهذا فإن من أجمع وأحسن تعريفات العلماء للتوكل أنه: اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، وكلت الأمور كلها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضـر ولا ينفع سـواه.
فالتوكل -يا عباد الله- أن تتخذ الله وكيلاً، سئل بعض السلف: متى يكون الرجل متوكلاً، قال: إذا رضي بالله وكيلاً.
عباد الله: لا يمكن لأحد أن يتخذ أحدًا وكيلاً إلا إذا وجد في هذا الوكيل القوة والأمانة على ما سيتوكل عليه فيه، وهذا لا يمكن إلا إذا علم بأحوال هذا الوكيل علمًا دقيقًا، وبعد ذلك يثق فيه، ثم يعتمد عليه اعتمادًا كليًا، ولهذا كان التوكل من أعظم المقامات تعلقًا بالأسماء الحسنى، فأدت إلى نتائجها، وإن أراد سلب هذه الأسباب القدرة على التأثير، فانعدمت نتائجها.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
فحيث تناولنا في هذه الخطبة معنى التوكل ومدلوله، فإن حقيقته لا تتضح اتضاحًا كليًا حتى نبين علاقة التوكل بالأسباب.
إن علاقة التوكل بالأسباب هي السبب الرئيس للخلاف في حقيقة التوكل ومدلوله، الأمر الذي جعل كثيرًا من الناس يقفون مع الأسباب وعلاقتها بالتوكل على طرفي نقيض.
فطائفة جردت التوكل عن الأسباب بالكلية؛ فلا يصح التوكل عندها إلا إذا ترك الإنسان الأسباب كلها توكلاً على الله وثقة به، وزعمت هذه الطائفة أنه لا يدرك أحد حقيقة التوكل إلا إذا لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى من سبع أو عدو، وحتى يترك السعي في طلب الرزق ثقة بضمان الله تعالى له رزقه، فهذه الطائفة قد عطلت الأسباب.
وفي المقابل: ظهرت طائفة بالغت في الأخذ بالأسباب والاعتماد عليها، بل التفتت إليها التفاتًا كاملاً، حتى ظنت أنها الفاعلة والمؤثرة من دون الله -جل وعلا-، فغفلت عن قدرة الله، وأنه هو مسبب الأسباب، فهؤلاء قد عطلوا التوكل، وربما وقعوا في الشرك، صغيره، وكبيره.
قال سهل بن عبد الله: "من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان".
أيها المؤمنون: أما الطائفة الوسط فقالت: حد التوكل الثقة بالله تعالى والإيقان بأن قضاءه نافذ، واتباع سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- في السعي فيما لابد منه من المطعم والمشـرب، والتحرز من العدو كما فعله الأنبياء -صـلوات الله تعالى عليهم أجمعين-.
أيها الإخوة: هناك بعض التنبيهات التي يجب ذكرها حتى لا يقع الإنسان في انحراف إحدى الطائفتين:
أولاً: ليُعلم أن التوكل عمل قلبي محض، يقول الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "التوكل عمل القلب"، قال ابن القيم: "ومعنى ذلك أنه عمل قلبي، ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات".
فالتوكل -يا عباد الله- عمل قلبي محض، ثم إن الحركة بالجوارح ومنها الأخذ بالأسباب، ليست من ماهية التوكل، لكن قد يتعين على العبد الأخذ بالأسباب من حيث أنه أُمِر بتعاطيها، ولأنها سنة الأنبياء والمرسلين، ولأن تعطيلها تعطيل للأمر والحكمة كما قال ابن القيم -رحمه الله-، فيأخذ العبد بالأسباب من هذه الوجوه، لا لأن الأسباب بذاتها مؤثرة في النتائج، ولهذا فإنه لا يركن إليها، ولا يعتمد عليها، ولا يلقي بثقله متكئًا على قوتها، قلبه معتمد على الله، واثق به، موقن أنه إن أراد يسر هذه الأسباب.
أيها الإخوة: ومع إيجابنا للأخذ بالأسباب على الجملة إلا أننا نقول: إن الأسباب المادية ليست على درجة واحدة في وجوب الأخذ بها، وإنما تنقسم بحسب أدائها إلى نتائجها، إلى ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: نتائج لا يمكن أن تحصل إلا بالأخذ بأسبابها، مثل إنجاب الولد لا يحصل إلا بلقاء الرجل والمرأة، والشبع لا يحصل إلا بالطعام، وعلاج كسر القدم لا يحصل إلا بالتجبير، هذا بالنسبة للنتائج الدنيوية، وكذا النتائج الأخروية، فدخول الجنة والنجاة من النار لا يحصل إلا بالعمل الصالح. وهكذا، فهذا النوع من الأسباب التي رتب الله عليها نتائجها، يجب الأخذ به، وإهماله وترك تعاطيه تعطيل للأمر والقدر، وهو سفه وضلال.
الدرجة الثانية: النتائج التي لا تحصل في الغالب إلا بالأخذ بأسبابها، مع أنها يمكن أن تحدث بغير أسبابها، ولكن نادرًا، مثل الرزق، لا يحصل إلا بالكد والعمل، والنصر لا يأتي إلا بالجهاد، والنجاة لا تحصل إلا بأسبابها المادية والمعنوية، وقد تحصل هذه الأمور بغير هذه الأسباب، فهذه الأسباب يجب الأخذ بها لأنها سنة الأنبياء والمرسلين، وقد عمل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأعد العدة للقتال، ولبس درعًا، وهكذا مضى الصحابة والتابعون على هذه السيرة.
الدرجة الثالثة: نتائج قد تحصل بتلك الأسباب، وقد تحصل بدونها، كالشفاء من بعض أنواع الأمراض التي لم يعرف دواؤها، أو لم يجزم بفائدة ما يعطى لها من أدوية، وإنما هي مجرد احتمالات وظنون، وكالسلامة بسبب المبالغة في بعض الاحتياطات المتوهمة، من مخاطر متوهمة أيضًا، وكالشفاء بالكيِّ، وبطلب الرقية من الآخرين دون أن يرقي نفسه.
فهذه الدرجة من الأسباب يندب تركها، وذلك حتى يحقق الإنسان كمال التوكل، ويكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
وإذا علمت بأنه متفاضل *** فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل
عباد الله: خلاصة ما تقدم: أن التوكل -وهو من الإيمان- تتفاوت درجاته كما تتفاوت درجات الإيمان، فمنه ما هو واجب، يأثم من قصّر فيه، بل قد يخرج من الإيمان إن أتى بما ينافي أصله، ومنه ما هو مستحب، لا يستطيعه أكثر المسلمين، فلا إثم على من لم يحققه.
فأعلى درجات التوكل من اتصف بصفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهؤلاء لهم صفات هي:
لا يباشرون الأسباب المكروهة مثل الكي والاسترقاء مع حاجتهم لها، ثقة وتوكلاً.
يتركون الأسباب التي يتوهم إفضاؤها إلى مسبَباتها، وهي الأسباب الداخلة في القسم الثالث حسب التقسيم السابق، توكلاً على الله.
لا يسترقون، ولا يكون عندهم نوع توجه ولجوء بالسؤال أو غيره إلى المخلوقين، في قضاء مطلوب ما.
فهذا التوكل غير واجب، لا يأثم من لم يحقق شروطه هذه، مع أننا ندعو الناس إليه.
وأما التوكل الواجب فحده أن لا يلتفت قلب المؤمن إلى أي سبب وإن تعاطى أي سبب مشروع، مع وجوب الاعتماد على الله -عز وجل- وحده في حصول المطلوب.
أيها المؤمنون: ما أحوج المسلمين اليوم وقد تمالأت عليهم قوى الطغيان والكفر على اختلاف مللها ونحلها، وعجز المخلصون منهم عن دفع هذا الطغيان والتجبر الذي اشترك فيه بنو جلدتهم، وقد كبلتهم سلاسل التنكيل التي مارسها ضدهم الصديق قبل العدو، عليهم أن يتوجهوا إلى الله عاملين بهذا السبب الذي هو من أعظم الأسباب في حصول النصر، التوكل على الله، والاعتماد عليه، ولن يخيب الله من يلتجئ إليه.
توكلنا على الرحـــمن إنا *** وجــدنا الخير للمتوكلينَ
ومن لبس التوكل لم تجــده *** يخاف جــرائر المتجبرينَ
(إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:160].
اللهم ربنا عزَّ جارُك وتقدست أسماؤك، اللهم لا يردُّ أمرك، ولا يُهزم جندك، سبحانك وبحمدك، اللهم انصر جندك وأيدهم في فلسطين وكل مكان، اللهم آمن خوفهم، وفك أسرهم، ووحد صفوفهم، وحقق آمالنا وآمالهم، وبارك في حجارتهم، واجعلها حجارة من سجيل على رؤوس اليهود الغاصبين، وغيرهم من الكافرين الظالمين، اللهم اجعل قتلهم لليهود إبادة، واجعل جهادهم عبادة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي