شائعة الزئبق الأحمر

سامي بن خالد الحمود
عناصر الخطبة
  1. ما حقيقة الأمر؟ .
  2. ما حكم بيع هذه الماكينات بالمبالغ العالية؟ .
  3. إلى متى تصدق كل شائعة .
  4. لماذا يسهل نشر الإشاعة والنصب والاحتيال في مجتمعنا؟ .
  5. ما منهج الإسلام في التعامل مع الشائعات؟ .
  6. وسائل للتصدي للشائعات .

اقتباس

إن الإشاعة -يا عباد الله- لها أثر خطير على الإنسان، على دينه وخلقه وماله، بل إن خطرها يمتد إلى المجتمعات والدول، وقيامها وسقوطها , ومن هنا، كانت عناية الإسلام بالتحري والتثبت في نقل الأخبار بالاعتماد على أخبار الثقات العدول، والبعدُ عن السّماع مِن الفسّاق والمجاهيل أو المتسرّعين في النقل أو المبالغين في التفسير والتحليل..

عباد الله: إن في ما يقع حولنا لعبرا، وإن في سلوك الناس لمدَّكرا.

سمعنا وسمعتم بالشائعات التي جابت شوارع المدن في السعودية وقبلها في الأردن عن وجود مادة الزئبق الأحمر في بعض أنواع ماكينات الخياطة، ورغم ما يقال عن هذه الأخبار أنها (كذبة إبريل) كما يقال فقد انتشرت في الناس انتشار النار في الهشيم، وتناقلها الناس عبر مواقع الأنترنت ورسائل الجوال، واكتظت الأسواق بماكينات الخياطة وبيعت الماكينة الواحدة بعشرات الآلاف، حتى قال بعضهم: ثراء البرية في سنجر الزئبقية.

وما كنت -والله- سأتحدث عن هذا الموضوع لولا انتشاره الشديد، ورؤيتي بنفسي الزحام الشديد على الطريق الدائري قرب سوق الحراج، والهوس الذي أصاب الناس بسبب شائعة الماكينات.

بعض الجدات والأمهات وقعن في احتيال بعض الأولاد والأقارب للاستيلاء على الماكينة, وأخريات يستغربن قدوم أقاربهن للزيارة بعد مدة طويلة، ليكتشفن أن سبب صلة الرحم وهذا الود المفاجئ هو البحث عن الماكينة الزئبقية.

وحتى اللصوص قادهم هوس الماكينات لسرقة محلين للخياطة في حي النسيم بحثًا عن الماكينات.

وينشب خلاف بين عدد من الإخوة بسبب ماكينة خياطة ورثوها عن والدتهم المتوفاة منذ عدة سنوات، عندما طلب الأخ الأكبر البحث عن الماكينة في مستودع المنزل فرفض أخوته، فوقع الشجار بين الأخوة حتى تدخل الجيران لفضّ هذا الشجار.

وفي بعض مراكز الشرطة والمحاكم، أقيمت الشكاوى والدعاوى بسبب النزاع على الماكينات ونقض البيع ممن علموا بالإشاعة ومطالبتهم باسترجاع الماكينة أو رفع المبلغ.

ما حقيقة الأمر؟

قبل أن أتحدث عن الدروس الشرعية والتربوية من هذه الحادثة، بودي أن ندرك حقيقة الأمر بإيجاز.

يقول المختصون: هناك خلاف في وجود مادة تدعى (الزئبق الأحمر) وربما تكون موجودة في ملفات سرية للغاية ربما تمس الأمن القومي لدول كبرى، وأنها ربما تستخدم في الصناعة الحربية أو النووية, وقد ذكر بعض المختصّين أن هذه المادة تدخل في صناعة بعض الأسلحة, أما استخدامها في التحنيط والشعوذة غير مثبت علميًّا.

أما أن يقال إن هذه المادة النادرة جدًّا موجودة في ماكينات الخياطة فهو من سابع المستحيلات؛ إذ يتطلب الحصول عليها جهدًا كبيرًا عبر مفاعلات ذرية خاصة ضخمة في أمريكا وروسيا، وليس في حديد الماكينات الرخيص.

ثم نقول: حدث العاقل بما لا يُعقل فإن صدق فلا عقل له، هل صانع الماكينة غبي إلى هذه الدرجة، يضع مادة تعادل قيمتها مئات الآلف في آلة لا يتجاوز سعرها مائتي ريال.

الشركة المصنعة للماكينة أكدت على لسان مديرها العام في أفريقيا والشرق الأوسط انتشار الإشاعة في شمال المملكة والأردن، وأن الشركة قامت بإبلاغ السلطان الأردنية التي تبحث وراء شخص يعتقد أنه المطلق الأول للإشاعة بهدف بيع مخزون من ماكينات الخياطة القديمة لديه, ويؤكد وكيل ماكينات الخياطة بالمملكة أن قضية الزئبق إشاعة، وأن الآلة مصـنوعة من الحديد المصهور مع رمل الزهر، وليس فيها أية مواد مشعة أو فعالة، وأن سعر الآلة بوضعها الراهن لا يتجاوز 30 دولارا.

وفي الأردن يؤكد الناطق الإعلامي في مديرية الأمن العام أن الموضوع بكامله نصب واحتيال من عصابة تقوم ببث إشاعات كاذبة في هذا الخصوص، ثم يقوم أحدهم بشراء ماكينة بمبلغ من المال، وبعدها يقوم آخرون من العصابة ذاتها بتوفير عدد من الماكينات من ذات المواصفات المطلوبة، لبيعها على المواطنين ثم تنكشف القضية ويتورط فيها آخر المشترين.

ويذكر بعض المتابعين أن الإشاعة أطلقها بعض الباحثين عن الذهب في مكان سري في الأردن، وأن أحد المحتالين, قال إن الكنز محمي بواسطة الجن، ولا بد من الزئبق الأحمر لاستخراج الكنز، وهو موجود في ماكينات الخياطة الفلانية, ولم تقتصر هذه الكذبة على الباحثين عن الذهب الموهوم، بل انتشرت في الأردن ثم انتقلت إلى المملكة، بدءًا من المناطق الشمالية، ووصولاً إلى بقية مناطق المملكة.

وبعد انتشار الشائعة في بلادنا، صرح المتحدث الأمني في وزارة الداخلية أن قضية الزئبق الأحمر شائعة هدفها الاحتيال، وأثبتت المعامل الجنائية والتحاليل المخبرية في إدارة الأدلة الجنائية في جدة عدم وجود هذه المادة.

هذه التحذيرات الأمنية المتوالية ساهمت في الإحجام عن الشراء، ومحاولة المتورطين تصريف الماكينات بأقل الخسائر، ومع هذا فلا يزال هناك من يشكك في الأمر ويلهث وراء الزئبق الموهوم.

وههنا سؤال: ما حكم بيع هذه الماكينات بالمبالغ العالية؟

إذا علمنا أن ما ذكر عن وجود الزئبق في هذه الماكينات هو من باب الكذب والإشاعة، فإنه لا يجوز بيع هذه الماكينات بهذه المبالغ العالية، لما في هذا البيع من الغرر والجهالة المنافية لصحة البيع، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الغرر، وفي الصحيحين من حديث حكيم بن حزام -رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما, وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما" وإذا لم يصح البيع فإنه يجب على البائع إعادة المال إلى صاحبه إن عُرف، فإن اجتهد ولم يعرفه فعليه إخراج المال الزائد على قيمة المكينة الحقيقية ويصرفه في وجوه البر بنية التخلص من المال الحرام لا بنية التقرب.

وههنا سؤال آخر: إلى متى نصدق كل شائعة؟

عباد الله: كذبة الزئبق الأحمر لا نشك أن وراءها محتالين يخدعون بها من عطل قدرته على التفكير واستسلم لوهم الثراء السريع.

وحتى تنكشف الحقائق وراء هذه الشائعة ستبقى قائمة الضحايا تتواصل، وستزداد القضايا المطروحة أمام المحاكم، وسيضاف إلى الأموال التي أهدرتها الغفلة ملايين الريالات.

وليست إشاعة الزئبق الأحمر بأول الإشاعات, فهناك إشاعات كثيرة مرت بنا خلال سنوات مضت.

شركات أسهم أفلست وخسرت، بينما سهمها في سوق التداول يصل لآلاف الريالات، ومساهمات عقارية بمئات الملايين انكبّ عليها الناس، وفي النهاية نصب واحتيال وإفلاس، ومساهمات سوا والبيض والذهب والزيت وغيرها كثير.

فهل سنبقى ضحايا لعمليات نصب مقبلة، كما كنا ضحايا لكل عمليات نصب ماضية.

لماذا يسهل نشر الإشاعة والنصب والاحتيال في مجتمعنا؟

ما سرّ انقياد الناس بسهولة لكل خبر، واتباعهم لكل إشاعة دون تثبّت أو تحقق؟ أناس تدفع الملايين مقابل كلمة في مجلس، أو رسالة جوال, وقضايا كثيرة ومطالبات مالية في أروقة المحاكم، كلها بسبب السماحة أو قل السذاجة الزائدة وعدم التثبت والتروي.

هل أصبح مجتمعنا مصدر رزق لكل محتال، وأرضًا خصبةً لنشر شائعات الذهب والثراء، والاحتيال على السذج بالقدرات الخارقة، والأرباح الخيالية.

بل إنك تعجب من شائعات تخالف أصل المعتقد بأن القيامة تقوم في اليوم الفلاني بالتاريخ الفلاني، أو بأن فلانًا من الناس يموت في يوم كذا، أو أن هذا العام سيشهد موت الزعيم الفلاني، رجمًا بالغيب، وكذبًا بل ريب.

أين عقيدتنا، بل أين عقولنا, وهذه العقول الطائشة لو خرج فيها المسيح الدجال بخوارقه التي تبهر العقول ماذا ستصنع؟ نسأل الله السلامة والثبات.

الخطبة الثانية

عباد الله: ما هو منهج الإسلام في التعامل مع الشائعات؟

إن تاريخ الإشاعة قديم قدم هذا الإنسان، وقد سجل القرآن وتاريخ الأنبياء عليهم السلام الكثير من الإشاعات والأكاذيب التي انتشرت في الأزمنة المختلفة، ولا تزال تتجدد حتى يومنا هذا.

ولخطر الإشاعة فإننا نرى دول العالم كلها تهتم بها، وتسخر أجهزة استخباراتها لرصد وتحليل ما يبث وينشر منها.

إن الإشاعة -يا عباد الله- لها أثر خطير على الإنسان، على دينه وخلقه وماله، بل إن خطرها يمتد إلى المجتمعات والدول، وقيامها وسقوطها.

ومن هنا، كانت عناية الإسلام بالتحري والتثبت في نقل الأخبار بالاعتماد على أخبار الثقات العدول، والبعدُ عن السّماع مِن الفسّاق والمجاهيل أو المتسرّعين في النقل أو المبالغين في التفسير والتحليل.

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع" وصحّ عند أحمد وأبي داود عن حذيفة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بئس مطية الرجل زعموا".

وفي المنهج الإسلامي وسائل كثيرة للتصدي للشائعات في المجتمع، منها:

1/ تذكير مصدر الإشاعة بالله إذا كان معروفاً، وتحذيره من مغبة الكذب ونشره بين الناس.

2/ عدم التعجل في قبول الإشاعة دون استفهام أو اعتراض أو نظر في الموضوع.

3/ عدم ترديد الإشاعة ونشرها لأن ترديدها ونشرها يضخمها ويرسخها في المجتمع، وكما قيل في المثل الروسي: "الكذبة كرة ثلجية تكبر كلما دحرجتها" فالإعراض عن الإشاعة، وعدم الاكتراث بها سبب رئيسي في إخماد الإشاعة.

كما قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى: "الإعراض عن القول المطرح أحرى لإماتته وإخمال ذكر قائله، وأجدر أن لا يكون ذلك تنبيهًا للجهال عليه".

4/ إذا انتشرت الإشاعة يجب الرد عليه والتحذير منها علنًا في المجامع وفي وسائل الإعلام المختلفة.

5/ اقتفاء خط سير الإشاعة وتتبع مسارها للوصول إلى جذورها، ووضع اليد على مطلقيها ومحاسبتهم بحزم، ولا سيما إذا كان لهم أطماع واحتيال على الناس وأكل لأموالهم بالباطل.

6/ إحالة الأمر إلى أهل الاختصاص والخبرة:

كما قال تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَـافًا كَثِيرًا * وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَـانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:82-83].

قال الشيخ ابن سعدي -رحمه الله تعالى- في كلام نفيس: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو الخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور، ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطًا للمؤمنين وسرورًا لهم، وتحرزًا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا ما ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته لم يذيعوه، ولهذا قال: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء:83] أي يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.

وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه: إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولي من هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب للصواب، وأحرى للسلامة من الخطأ، وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة فيقدم عليه الإنسان أم لا فيحجم عنه. اهـ

وإنَّ ممّا يحسُن التنبيهُ إليه في هذا البابِ أن يلاحِظ ولاة الأمر والجهات المختصة الحكمة في الرد على الشائعات، والتأنّي والمشاورةُ لاتّخاذ الموقف المناسب، كما ينبغي تحرّي الدّقّة وسلوك مسلك العَقل والصّدق مع القوّة ممّا يزرَع الثقة ويرسّخ المصداقية؛ كما ينبغي إهمالُ الشائعات الخامِلة، فليس كلّ شائعة تستحقُّ الردَّ.

ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرية.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي