وفي الدعاء خير الدنيا والآخرة، والله تعالى يحب أن يسمع دعاء عبده وهو يدعوه، سواء أكان طلبه من مطالب الدنيا أو الآخرة؛ ولهذا تعجب الصحابة -رضوان الله عليهم- وهم يسمعون قولـه صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض مسلمٌ يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم"، فقال رجل: يا رسول الله! إذن نُكْثِر. فقال: "الله أكثر".
أما بعد:
أيها المسلمون: فإن الله تبارك وتعالى -من فضله وإحسانه- فتح لعباده باباً عظيماً إليه، ووعد من طرق هذا الباب بأن يرضى عنه، ويكرمه، ويعطيه ما سأل. قال تعالى: (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر:14]، فهذا الباب هو الصلة العظيمة بين العبد وربه.
إنه الدعاء الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن عظم شأنه فقال: "الدعاء هو العبادة" أخرجه الترمذي وصححه .
لذا كان شأن الدعاء عظيماً، وكان صاحبه عند الله كريماً، فالله عز وجل يحب عبده الذي يدعوه، ويلح عليه ويرجوه، ووعد ذلك العبد الداعي بالإجابة، فمن أُلهم الدعاء فقد أُريد به الخير والإجابة، فالله تعالى يقول: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].
لَوْ لَمْ تُرِدْ نَيْلَ ما أرجو وأطْلُبُهُ *** مِنْ جُودِ كَفَّيْكَ مَا عَلَّمْتَنِي الطَّلَبَا
واستمعوا -يا عباد الله- إلى هذه النداءات العظيمة من الله -سبحانه وتعالى-، إذ يقول في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم: "يا عبادي! إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه فاستهدوني أَهْدِكم، يا عبادي! كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه فاستطعموني أُطعِمْكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوتُه فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم".
بل إنه تبارك وتعالى حثنا على الدعاء، ثم بين لنا كيفيته فقال: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:55-56].
فتأملوا في هذه الآيات الكريمة، ربنا العظيم يدعونا نحن العباد الضعفاء المساكين إلى أن نسأله ونطلب منه ما نريد، ثم هو يضمن لنا الإجابة، أي فضل أكبر من هذا؟!.
بل إنه -تعالى- قد دعا أولئك الذين بارزوه بالمعاصي فتمرَّدوا على أمره وعملوا على ما يغضبه، قد دعاء هؤلاء المتمردين قائلاً: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:110].
إن من عباد الله أناساً يتقلبون في ذكر الله، ويعيشون حياتهم كلها متوكلين عليه، سائلين فضله العظيم، يدعونه في الرخاء كما يدعونه في الشدَّة، إذا أحس أحد منهم بتقصير في الطاعة أو غفلة عن العبادة نادى ربه وتضرع إليه: لا إله إلا أنت سبحانك إنك كنت من الظالمين. وإذا جن عليهم الظلام ونامت عيون الخلائق قاموا في محاريبهم وتضرعوا إلى ربهم، وأسبلوا الدموع في خشوع وخضوع، أولئك هم المحسنون الذين (كَانُوا قَلِيلَاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات:17-18].
إخوة الإسلام: وفي الدعاء خير الدنيا والآخرة، والله تعالى يحب أن يسمع دعاء عبده وهو يدعوه، سواء أكان طلبه من مطالب الدنيا أو الآخرة؛ ولهذا تعجب الصحابة -رضوان الله عليهم- وهم يسمعون قولـه صلى الله عليه وسلم: "ما على الأرض مسلمٌ يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم"، فقال رجل: يا رسول الله! إذن نُكْثِر. فقال: "الله أكثر" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
أيها المسلمون: لعلَّ كل واحد منكم الآن قد تاقت نفسه إلى سؤال الله ودعائه والتضرع إليه، ولعلنا قبل أن نطبق ذلك عملياً لعلنا أن نتعرف على شيء من أحكام الدعاء؛ فما هي آدابه؟ وما هي صفته؟ وما هي شروط قبوله؟ وأفضل أوقاته؟ كل هذا مما سنعرف في هذه الخطبة إن شاء الله.
وقبل أن نعرِض إلى آداب الدعاء أحب التنبيه إلى مسألة هي أصل أصول هذا الدين، ألا وهي الإخلاص لله وحده لا شريك له؛ فمن ثوابت الدين، ومسلَّمات الملّة التي يجب أن يعلمها العبد: وجوب الإخلاص لله -عز وجل- في العبادات كلها، ومن أجَلِّها الدعاء.
فيجب أن يكون دعاء العبد خالصاً لله، فلا يدعو إلا الله، ولو كان المدعو ملَكاً أو نبياً أو صالحاً أو ولياً. قال -عز وجل-: (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر:14]، (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:3]، (وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) [القصص:88]..
فمن دعا غير الله فقد أشرك بالله، واستحق مقت الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلْنتعلم ذلك، ولنجعله حاضراً في قلوبنا، ولننكر على كل من تورط في شيء منه، كمن يدعو الأنبياء أو الأولياء أو أصحاب القبور، أو يدعو النبي الأكرم، أو يدعو علياً أو الحسين -رضي الله عنهما-، أو يدعو الجيلاني أو السيدة زينب أو غيرهم من المخلوقين. كل ذلك من الشرك الأكبر الذي لا يقبل الله من صاحبه صرفاً ولا عدلاً..
هذا ما أردت التنبيه إليه، وهو -وإن كان معلوماً راسخاً عند كثير من المسلمين- إلا أنه مما ينبغي كثرة التواصي به؛ لأهميته، وعظيم وجليل قدره عند الله.
ولنشرع الآن -يا عباد الله- في بيان ما نحن بصدده من آداب الدعاء وشروطه وموانعه:
أما آداب الدعاء؛ فمنها الثناء على الله قبل الدعاء، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته، فلم يُصَلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عَجِلَ هذا"، ثم دعاه فقال له: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بعد ما شاء" إسناده صحيح.
ثم يبدأ الإنسان في عرض حاجته، وبيان ضعفه ومسكنته، وهو في ذلك لا يرفع صوته رفعاً شديداً، بل يخفضه بين المخافة والجهر.
ويجب على الداعي أن يجزم في الدعاء ويوقن بالإجابة، ففي الصحيحين: "إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت. وارحمني إن شئت. ليعزم مسألته؛ فإن الله يفعل ما يشاء، ولا مُكْرِهَ لـه".
وبالمناسبة فإني أنبه على أن هذه المسألة يقع فيها أكثر الناس اليوم وهم لا يشعرون، فترى أحدهم إذا أراد أن يشكر صاحبه قال: "جزاك الله خيراً إن شاء الله"، وهو خطأ ينبغي اجتنابه.
ومن الآداب أيضاً أن يلحّ في الدعاء، فإن الله سبحانه يحب ذلك.
ومن الآداب المهمة أن يسأل الله بأسمائه الحسنى، (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا) [الأعراف:180].
ولا يجوز أن نسأله بحق أحد من خلقه، ومن ذلك قولهم أسألك بنبيك أو بحق نبيك أو بجاه فلان، فكل هذا محرم لا يجوز.
ومن الآداب أن يجتنب الداعي التكلفَ في السجع؛ فإن هذا ينافي كلام حضور القلب.
ويستحب للداعي أن يسأل الله بصالح الأعمال، فيقول مثلاً: اللهمَّ إن أسألك بأني أحبك وأحب نبيك، أو بأني أحافظ على الصلوات مع الجماعة، أو غير ذلك من الأعمال الصالحة، لما ورد في قصة أصحاب الغار في الصحيحين.
أما صفة الدعاء فالمشروعُ للداعي أن يرفع يديه ويدعو ربه وهو كذلك، وإن دعا بدون رفع يديه فلا بأس، ولكنه بالرفع أفضل.
ولا يشرع مسح الوجه بعد الدعاء؛ لأنه ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في أحاديث ضعيفة.
أما شروط قبول الدعاء؛ فمنها الابتعاد عما يغضب الله تعالى، والتوبة إليه، ومن أهم ذلك الابتعاد عن الكسب الحرام أياً كانت صوره ومصادره، سواءً كان سببه الربا أو الغش أو بيع المحرمات كمن يبيع الخمر أو الدخان، وكمن يبيع هذه المجلات المليئة بالصور الفاتنة، كل أولئك من أصحاب الكسب الحرام.
ألا وإن تأجير المحلات لأولئك ولغيرهم ممن يعصون الله فيها ويبيعون الحرام، إن تأجيرهم من الكسب الحرام، وفي صحيح مسلم مرفوعاً : "ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام. فأنى يستجاب لذلك؟".
ومن شروط الدعاء أن يدعو الإنسان بخير، فلا يدعو بإثم ولا قطيعة رحم.
ومن شروطه أيضا عدم استعجال الإجابة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: "لا يزال يستجاب لأحدكم ما لم يستعجل" قيل: يا رسول الله! فما الاستعجال؟ قال يقول: "قد دعوتُ وقد دعوتُ فلم يُستجَب لي، فيستحسر عند ذلك ويدَع الدعاء". فإذا دعوتَ الله فأيقِنْ بالإجابة، ولا تستعجل، وادع ولا تضجر، وسترى الإجابة بإذن الله.
أما بعد: عرفنا شيئاً من آداب الدعاء، وأحكامه، فبقيت علينا معرفة أوقات إجابته ومواضعه؛ فمن الأوقات الفاضلة التي يرجى فيها قبول الدعاء جوف الليل، حيث السكون والهدوء والناس نيام في سبات عميق، إلا ذلك العبد الصالح الذي وُفِّق لقيام الليل ليذكر ربه، ويصلي له وحده لا شريك له، فقد قام يمد يديه إلى السماء يسأل مولاه ويرجوه ويدعوه، وفي الصحيحين: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حيث يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: مَن يدعوني فأستجيب لـه؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر لـه؟".
ومن ذلك الساعة التي في الجمعة، وعلى المسلم أن يدعو الله في سائر اليوم ليوافقها، وأرجى أوقاتها بعد صلاة العصر من يوم الجمعة.
ومن أوقات الإجابة الوقت الذي بين الأذان والإقامة، فعن أنس مرفوعاً: "لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة". وكذلك الصائم عند فطره، وأثناء صيامه.
ومن أهم مواضع الإجابة السجود، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" أخرجه مسلم.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي