نعيش وإياكم هذه الأيام، آخر موسم من مواسم الخير والرحمة, أيام تضاعف فيها الحسنات، وتفتح فيها أبواب الرحمات، وتقال فيها العثرات, يغفر الله فيها للمستغفرين، ويجيب فيها السائلين, عشر ذي الحجة الأيام الفاضلة، التي عظّم الله شأنها ورفع مكانتها وأقسم بها في كتابه.
أما بعد: نعيش وإياكم هذه الأيام، آخر موسم من مواسم الخير والرحمة, أيام تضاعف فيها الحسنات، وتفتح فيها أبواب الرحمات، وتقال فيها العثرات, يغفر الله فيها للمستغفرين، ويجيب فيها السائلين.
عشر ذي الحجة الأيام الفاضلة، التي عظّم الله شأنها ورفع مكانتها وأقسم بها في كتابه، فقال جل وعلا: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) [الفجر:1-3] فالليالي العشر هي ليالي عشر ذي الحجة، والشفع هو يوم النحر، والوتر هو يوم عرفة.
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد في سبيل الله، ففي البخاري وغيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله منه في هذه الأيام العشر" قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء".
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ أَيَّامِ الْدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ، يَعْنِي عَشْرُ ذِي الحْجَّةِ" أخرجه البزار وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وصححه الألباني.
فطوبى لعبد استقبل هذه الأيامَ بالتوبة الصادقة النصوح, طوبى لعبدٍ اغتنم مواسم الخيرات بالعمل الصالح، الذي يقربه إلى ربه ويرفع درجته في الجنة.
ومما يشرع في هذه الأيامِ المباركة الصيام، فعن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أول اثنين من الشهر وخميسين" رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وهذا الحديث وإن كان قد صححه الألباني، فقد ذهب بعض أئمة الحديث إلى أنه ضعيف، بل هو منكر بدليل ما جاء في مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صائمًا في العشر قطّ, وعلى كل حال هذا الخلاف العلمي في صحة الحديث وكون النبي -صلى الله عليه وسلم- صام أو لا، لا يؤثر على التشريع العملي، فقد اتفق العلماء على استحباب صيام العشر إلا يوم العيد؛ لإنه لا يصام فمن قال بعدم مشروعية صيام العشر؛ كما يقول بعض أنصاف المتعلمين فقد خالف إجماع العلماء, يكفي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حث على العمل الصالح في أيام العشر، والصيام من أفضل الأعمال.
وآكد هذه الأيام يوم عرفةَ، فيشرع صيامه لغير الحاج، فقد سُئِل النبي -صلى الله عليه وسلم عن صومه- فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية" أخرجه مسلم في صحيحه.
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة الإكثار من ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد وقراءة القرآن والاستغفار، فقد جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام أعظمُ عند الله ولا أحبُ إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتسبيح" أخرجه أحمد وصححه أحمد شاكر.
وأما التكبير فهو نوعان: الأول: تكبير مطلق، من أول شهر ذي الحجة إلى آخر أيام التشريق.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، في المساجد والمنازل والطرقات، يجهر به الرجال وتخفيه النساء، إظهارًا للعبادة، وإعلانًا بتعظيم الله –تعالى- وهو لا يتقيد بمكان، في الأسواق وعلى الفراش والمجلس وأثناء المشي, ولا يتقيد بزمان، ليلاً ونهارًا، سفرًا وحضرًا, ولا يتقيد بحال، قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا.
النوع الثاني: تكبير مقيد -يعني بعد الصلوات المكتوبات- ويبدأ من فجر يوم عرفة لغير الحاج، ويستمر إلى غروب شمس آخر أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر, وأما الحاج فإنه يشتغل حال إحرامه بالتلبية، فإذا شرع في التحلل يوم العيد أو ليلة العيد برمي جمرة العقبة شرع في التكبير، ويبدأ التكبير المقيد في حقه من صلاة الظهر يوم النحر.
وهذا التكبير المقيد ليس فيه نص صريح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه آثار عن الصحابة، واجتهادات للعلماء، والأمر فيه واسع.
وقد ذهب جماهير العلماء إلى استحبابه بعد المكتوبات المؤداة في جماعة، ومن صلى الفريضة منفردًا فيكبِّر كذلك عند مالك وأحمد, وأما الصلوات النوافل فذهب جمهور العلماء إلى عدم استحبابه بعدها.
ومحل التكبير بعد الصلاة، قبل الأذكار والأقرب أن يكبر بعد الاستغفار ثلاثًا وقوله "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" كما قرره ابن عثيمين رحمه الله.
عباد الله: ألا وأن أعظم الأعمال في هذه الأيام المباركة، وأجلَّها وأزكاها عند الله: حجُ بيت الله الحرام, ركن الإسلام الخامس وهو واجب على كل مسلم بالغ عاقل حر مستطيع، ووجوبه على الفور في أصح أقوال العلماء، ويحرم على القادر تأخيره.
وقد حذرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- من تأخير الحج مع الاستطاعة أشد تحذير، فقد ثبت في المسند عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له".
وعند ابن حبان وصححه الألباني عن أبي سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تعالى يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم".
عباد الله: ومما يشرع في هذه الأيام المباركة: ذبح الأضاحي.
والأضحية هي: ما يذبح من بهيمة الأنعام في أيام الأضحى تقربًا إلى الله -عز وجل- وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين: فذهب الجمهور إلى أنها سنة مؤكدة، وذهب الأوزاعي والليث وأبو حنيفة إلى وجوبها على القادر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختاره ابن تيمية، ومن أبرز أدلتهم قوله صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" رواه أحمد وابن ماجه وحسنه الألباني، ولكن رجح الأئمة أنه لا يصح مرفوعًا، بل هو موقوف على أبي هريرة -رضي الله عنه- والأقرب في حكم الأضحية -والله أعلم- أنها سنة مؤكدة، وهو اختيار شيخنا العلامة ابن باز واللجنة الدائمة، ومع هذا فالخلاف قوي، ولا ينبغي للقادر ترك الأضحية.
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها, والأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم، وأما ما يظنه بعض العامة من اختصاص الأضحية بالأموات فلا أصل له, إلا أن يضحي عن الأموات بمقتضى وصاياهم تنفيذًا لها, وإذا ضحى الرجل من ماله عن نفسه وأهله شمل أهله الأحياء والأموات.
والأفضل من الأضاحي جنسًا: الإبل ثم البقر إن ضحى بها كاملة، ثم الضأن، ثم المعز، ثم سبع البدنة ثم سبع البقرة.
والأفضل منها صفة: الأسمن الأكثر لحمًا الأكمل خلقة.
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يضحي بكبشين أقرنين أملحين.
أقول ما تسمعون، وأسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا هو، إنه على كل شيء قدير, والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه.
عباد الله: ومن الأحكام المتعلقة بالأضحية: شروط الأضحية.
ويشترط للأضحية ستة شروط:
أحدها: أن تكون من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها.
الثاني: أن تبلغ السن المحدود شرعًا بأن تكون جَذَعة من الضأن، أو ثَنِيَّة من غيره, فالثَّنِي من الإبل: ما تم له خمس سنين، والثني من البقر: ما تمّ له سنتان, والثني من الغنم ما تمّ له سنة، والجَذَع: ما تم له نصف سنة.
الثالث: أن تكون خالية من العيوب المانعة من الإجزاء وهي أربعة: العور البين، المرض البين: وهو الذي تظهر أعراضه على البهيمة، العرج البين: وهو الذي يمنع البهيمة من مسايرة السليمة في المشي، الهزال المزيل للمخ، لقول -النبي صلى الله عليه وسلم- حين سئل ماذا يتقي من الضحايا: قال:"أربعًا: العرجاء البين ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى" رواه مالك في الموطأ من حديث البراء بن عازب، ويلحق بهذه العيوب ما كان مثلها أو أشدّ، فلا تجزئ العمياء، أو المصابة بما يميتها من خنق وسقوط ونحوه، أو مقطوعة اليد أو الرجل.
الشرط الرابع: أن تكون ملكًا للمضحي أو مأذونًا له فيها.
الشرط الخامس: أن لا يتعلق بها حق للغير كالمرهونة.
الشرط السادس: أن تذبح في الوقت المحدود شرعًا وهو من بعد صلاة العيد يوم النحر إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة.
لما روى البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله وليس من النسك في شيء".
لكن لو حصل له عذر بالتأخير مثل أن تهرب الأضحية أو ينسى الوكيل، فلا بأس أن تذبح بعد خروج الوقت للعذر.
متى يتعين الحيوان أضحية؟
تتعين الأضحية بواحد من أمرين: إما باللفظ بأن يقول: هذه أضحية, أو بالفعل وهو نوعان: أحدهما أن يذبحها بنية الأضحية، والثاني شراؤها بنية الأضحية إذا كانت بدلاً عن معينة.
وإذا تعينت الأضحية تعلقت بها أحكام الأضحية:
الأول: أنه لا يجوز التصرف بها بما يمنع التضحية بها من بيع وهبة ورهن وغيرها.
الثاني: أنه إذا مات بعد تعيينها لزم الورثة تنفيذها.
الثالث: أنه لا يستغل شيئًا من منافعها فلا يستعملها في حرث ونحوه، ولا يركبها إلا إذا كان لحاجة.
الرابع: أنها إذا تعيبت عيبًا يمنع من الإجزاء بفعله أو تفريطه فيجب عليه إبدالها بمثلها على صفتها أو أكمل، أما إن تعيبت بلا تفريط منه فإنه يذبحها وتجزئه.
الخامس: أنها إذا ضاعت أو سرقت بتفريط منه فيجب عليه إبدالها بمثلها على صفتها أو أكمل، فإن لم يكن منه تفريط فلا شيء عليه.
السادس: أنها إذا تلفت بأمر لا صنع للآدمي فيه كالمرض فلا ضمان عليه، أما إن تلفت بفعل مالكها فيجب عليه أن يذبح بدلها على صفتها أو أكمل.
ماذا نفعل بالأضحية؟
ويشرع للمضحي أن يأكل من أضحيته ويهدي، ويتصدق لقوله تعالى: (فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ) [الحج:28].
وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلّم- قال: "كلوا وأطعموا وادخروا" رواه البخاري والإطعام يشمل الهدية للأغنياء والصدقة على الفقراء.
اختار بعض العلماء التثليث، أن يأكل ثلثًا ويهدي ثلثًا، ويتصدق بثلث، والأمر في ذلك واسع.
ويحرم أن يبيع شيئًا من الأضحية لا لحمًا ولا غيره حتى الجلد، ولا يعطي الجازر شيئًا منها في مقابلة الأجرة أو بعضها لأن ذلك بمعنى البيع.
وإذا أراد أحد أن يضحي ودخل شهر ذي الحجة فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئًا من شعره أو أظفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة" وفي لفظ: "إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره" رواه أحمد ومسلم وفي لفظ: "فلا يمس من شعره ولا بشره شيئًا" ومن نوى الأضحية أثناء العشر أمسك من حين نيته، ولا إثم عليه فيما أخذه قبل النية.
وهذا الحكم خاص بمن يضحي "يعني مالك الأضحية" أما من يضحَّى عنه فلا يتعلق به المنع، وعلى هذا فيجوز لأهل المضحي أن يأخذوا من شعورهم في أيام العشر.
وإذا عصى من يريد الأضحية فأخذ شيئًا من شعره أو ظفره أو بشرته فعليه أن يتوب إلى الله –تعالى- ولا كفارة عليه، ولا يمنعه ذلك عن الأضحية.
وإذا أخذ شيئًا من ذلك ناسيًا أو جاهلاً، أو سقط الشعر بلا قصد فلا إثم عليه، وإن احتاج إلى أخذه فله أخذه ولا شيء عليه مثل أن ينكسرَ ظفره فيؤذيَه فيقصَه، أو ينزلَ الشعر في عينيه فيزيلَه، أو يحتاجَ إلى قصه لمداواة جرح ونحوه.
فاتقوا الله -يا عباد الله- وبادروا أعماركم بخير أعمالكم، وإياكم أن تشغلكم الدنيا عن طاعة ربكم، فإن ذلك هو الخسران المبين في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون:9].
اللهم صل على محمد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي