إن اللسان ترجمان القلوب والأفكار، وهو آلة البيان، وطريق الخطاب، له في الخير مجال كبير، وله في الشر باع طويل، فمَن استعمله للحكمة والقول النافع، وقضاء الحوائج، وقيَّده بلجام الشرع، فقد أقر بالنعمة، ووضع الشيء في موضعه، وهو بالنجاة جدير؛ ومن أطلق لسانه وأهمله سلك به الشيطان كل طريق ..
الحمد لله مُعِزُّ مَن أطاعه واتَّقاه، ومُذِل من خالف أمره وعصاه, وفَّق أهل طاعته للعمل بما يرضاه، وكتب على أهل معصيته ما قدره عليهم وقضاه, هو الأولُ والآخر، والباطن والظاهر، عالم الغيب والشهادة المطلع على السرائر والضمائر, أحمده -سبحانه- على خفيّ لطفه، وسعة عفوه، وجزيل بره المتظاهر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا رب لنا سواه، ولا نعبد إلا إياه، وهو الذي في السماءِ إله وفي الأرض إله.
حُكْمُ المنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جَارِي *** مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدارِ قَرَارِ
بَيْنَا يُرَى الإنسانُ فِيهَا مُخْبِرَاً *** ألفيتَهُ خَبَرَاً مِنَ الأَخْبَارِ
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُريدُها *** صَفْوَاً مِن الأقْذَارِ وَالأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفِ الأيامَ ضِدَّ طِبَاعِهَا *** مُتَطَلِّبٍ في الماءِ جَذْوَةَ نَارِ
وَإِذَا رَجَوْتَ المُسْتَحِيلَ فَإنَّمَا *** تَبْنِي الرَّجَاءَ عَلَى شَفِيرٍ هَارِ
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كمل به عقد النبوة، فطوبى لمن والاه وتولاه، اللهمَّ صَلِّ عَلى عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وكان هواهم تبعاً لهداه، وسلِّم تسليما كثيراً.
أمَّا بَعْد: لقد ميّز الله بني آدم عن سائرِ المخلوقات بنعمة اللسان، وبه تفضّل عليهم، قال الله -جل وعلا-: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) [البلد:8-9]، وقال تعالى ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن:1-4]، أي يبين عن ما في نفسه بلسانه، فبهذا اللسان ينطق الإنسان بكلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، خير قولٍ وأفضله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بِضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله" رواه البخاري.
وباللسان يتعارف الناس على بعضهم البعض، وعن طريق اللسان يتعلم الناس العلوم الشرعية، والعلوم الدنيوية، وعن طريق اللسان يعرف الحق من الباطل، والصحيح من الخطأ، والصدق من الكذب، والأمانة من الخيانة؛ وباللسان يؤمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقال الحق، ويُعبَد الله بتلاوة كتابه، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ وباللسان يُعرف الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، والمسلم من الكافر، والبر من الفاجر، والتقي من الشقي.
باللسان يبلغ الفرد المنازل العالية في قلوب الخلق، وبه أيضاً يكتب عليه السخط في قلوبهم إلى يوم القيامة، وباللسان يبلغ العبد الدرجات العلى عند الله، وبه يسقط في دركات النار، وسخط الجبار، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يهوي بها في النارِ أبعدَ مما بين المشرِق والمغرب؛ وإنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من رضوانِ الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يَلقاه" رواه البخاري.
إن اللسان ترجمان القلوب والأفكار، وهو آلة البيان وطريق الخطاب، له في الخير مجال كبير، وله في الشر باع طويل، فمَن استعمله للحكمة والقول النافع، وقضاء الحوائج، وقيده بلجام الشرع، فقد أقر بالنعمة، ووضع الشيء في موضعه، وهو بالنجاة جدير؛ ومن أطلق لسانه وأهمله سلك به الشيطان كل طريق.
لذلك فقد دعا الإسلام إلى حفظ اللسان واستعماله في الخير، وحذر من الغفلة عن هذا العضو الصغير في جسد الإنسان والذي قد يكون سبباً في سعادته أو سبباً في تعاسته في الدنيا والآخرة، فقد روى الترمذي وغيره، وصححه الألباني، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ بن جبل: "كُفَّ عليك هذا" وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكُبّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!"؛ وروى الترمذي وغيره، وصححه الألباني، عن سفيان الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ قال: فأخذ رسول الله بلسان نفسه، ثم قال: "هذا".
عباد الله: عند الفتن وحدوث المصائب والأزمات، وظهور المشاكل والصراعات والاختلافات بين الناس ينبغي للمسلم أن يكون أكثر حرصاً على ما ينطق به لسانه، فلا يقول إلا خيراً، ولا يأمر إلا بمعروف، ولا ينهى إلا عن منكر، ولا يكون كلامه سبباً في تأجيج الصراعات والخلافات، والخوض في الأعراض بالغيبة والنميمة، ولا ينبغي للمسلم أن يكون كلامه سبباً في وغر الصدور، وإثارة العداوات بين المسلمين، قال تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فذكر له عن رجل شيئا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات:6]، وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم:11]، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين! لا أعود إليه أبدا.
وينبغي للمسلم إلا يكون كلامه ومنطقه في مثل هذا الأحوال سبباً لطمس الحقائق، وتزوير الوقائع، ونشر الأكاذيب، وتلفيق التهم بدون علم، أو وجه حق، وهذا -والله- هو الإفلاس الذي حذر منه -صلى الله عليه وسلم-!.
فقد ياتي المرء بأعمال صالحة كالجبال، وفجأةً بزلة لسانه وسوء منطقه فيخسر ذلك كله، روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ و لا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَ صِيَامٍ وَ زَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَ قَذَفَ هَذَا، وَ أَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَ ضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْه، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ" رواه مسلم.
والله -عز وجل- يقول: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء:53].
لقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خطورة اللسان عند الفتن والأزمات إذا تحولت إلى معول هدم، وجعل خطرها كخطر السيف الذي تسفك به الدماء، وتزهق به الأرواح، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ستكون فتنة صماء (بكماء) عمياء، من أشرف لها استشرفت له، وإشراف اللسان فيها كوقع السيف" رواه أبو داود.
فلا إله إلا الله! كم أحدث هذا اللسان من فتن! وكم سفكت بسببه من دماء! وكم ظهر بسببه من صراعات! وكم قطعت من أرحام! وكم سلبت بسببه من حقوق وأموال! ولا إله إلا الله! ما أجرأ كثير من الناس على بعضهم البعض بالقيل والقال، والكذب، والغيبة والنميمة، والسخرية والاستهزاء، والوشاية، وتعمد الأذية للآخرين، والسب والقذف، وخاصة عند حدوث المشاكل عندما يزين إبليس هذه الأمور ويجعلها فاكهة المجالس، ومادة الزمان، ووسيلة للتكسب والربح.
فأين نحن من قوله -عليه الصلاة والسلام-: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذيء" رواه الترمذي وحسنه. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر" متفق عليه. وعن أبي الدَّرْدَاءَ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَكُونُ اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" أخرجه مسلم.
لقد وصف الله -عز وجل- ذوي الإيمان وأرباب التقى بالإعراض عن اللغو، ومجانبة الباطل من القول، فقال -عز شأنه-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ * وَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ) [المؤمنون:1-3]، وقال سبحانه: (وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَلُكُمْ سَلَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَهِلِينَ) [القصص:55].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
عباد الله: في اللسان آفتان عظيمتان، إن خلُصَ من أحدهما لم يخلص من الأخرى: آفة الكلام، وآفة السكوت؛ وقد يكون كل منهما أعظم إثماً من الأخرى في وقتها؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاص لله، مُراءٍ مداهن إذا لم يكن مضطراً وخاف على نفسه.
والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاص لله، يجاهر الله بالمعصية، والسعيد من عمل بالحق، وسعى لإرضاء ربه، والله -عز وجل- يقول: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
وإن من القول السديد أن يستعمل المرء لسانه في التواصي بالحق، وجمع القلوب، وتآلف الأرواح، وتصالح النفوس، ورأب الصدع، والدعوة إلى الأخوة بين المسلمين؛ ما أجمل أن يستعمل المرء لسانه في إزالة البغضاء والشحناء من الصدور! والدعوة إلى التراحم! فما عند الله خيرٌ وأبقى؛ ما أجمل أن يستعمل المرء لسانه في نشر الخير، وبذر المعروف، والتقريب بين وجهات النظر، وإصلاح فساد ذات البين بين المسلمين! وما أجمل أن تلهج ألسنتا بذكر الله وتعظيمه وقراءة كتابه؛ لعل الله أن يرفع عنا البلاء والمصائب والفتن!.
فاللهم إنا نسألك خير القول، وخير العمل، وخير الذكر، وخير الدعاء، برحمتك يا أرحم الراحمين، ألِّفْ على الخير قلوبنا، وأَصْلِحْ فسادَ ذات بيننا، وآمِنَّا في أوطاننا، وانشر رحمتك على البلاد والعباد يا أرحم الراحمين.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي