احتاج أحد الناس إلى عمل معين، فاستأجر عاملًا مقابل إنهاء العمل, بذل العامل دمه ووقته، واستفرغ وسعه ونشاطه, اشتدت الشمس، وسال العرق، والتهب الوجه، ولما تم العمل ذهب الأجير لاستلام أجره وحقه؛ فما كان من صاحب العمل إلا أن راغ وتنكر، وضاق وتنمّر، وادّعى الرداءة والضعف في الصنعة بلا دليل، وطرد الأجير..
أما بعد: احتاج أحد الناس إلى عمل معين، فاستأجر عاملًا مقابل إنهاء العمل, بذل العامل دمه ووقته، واستفرغ وسعه ونشاطه, اشتدت الشمس، وسال العرق، والتهب الوجه، ولما تم العمل ذهب الأجير لاستلام أجره وحقه، فما كان من صاحب العمل إلا أن راغ وتنكر، وضاق وتنمّر، وادّعى الرداءة والضعف في الصنعة بلا دليل، وطرد الأجير بعدما أكل قوته والْتهم جهده وتعبه، وتبجح باستعداده للذهاب للمحكمة في حال شكوى الأجير، وما علم الجاهل المسكين أنه لا يخاصم أجيرًا خاملًا ولا قاضيًا غائبًا، ولا مؤسسة نائية، إنه يخاصم رب العالمين وقاصم الظالمين وديان الخلق أجمعين.
وقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله -عز وجل-: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
عباد الله: إن من حِكمة الربّ -جلّ وعلا- أن فَاضل بين الخلق في أخلاقهم وفي أرزاقهم، وفي هذا التفاضل أوّلًا دليل على كمال قدرة الربّ، و ثانيًا مصالح عامّة للعباد، ليُسَخِّر هذا لخدمة هذا، ويسَخِّر هذا بالبَذْل لهذا، كما قال تعالى: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ), [الزخرف:32].
ولقد تَفَشَّتْ اليوم –وللأسف- صور ظلم العمال والأجراء والخدم، تفشَّتْ هذه الصور وعظُمتْ، وبانت أحوالها وأحزنت, حينما نُزعت الرحمة من قلوب بعض الكفلاء، وهانت عرى إسلامهم، وتمزقت خيوط إنسانيتهم، فعاملوا العمال الأجراء شرَّ معاملة، واستعملوهم أشد استعمال، وجازوهم أبشع جزاء.
هل سمعتم بأظلم ممن لم يعط العمال رواتب سنة أو سنتين؟! وهل أتاكم خبر بخس الأجور؟! وهل رأيتم سوء حياتهم ومعاشهم؟!.
من صور ظلم العمال الشائعة كما تقدم، بخسُهم حقوقَهم ورواتبَهم، نحن لا ننكر وجود طائفة في العمال ضعيفة الدين والأمانة، لكن الأصل أن يعطى المكفولُ أو العاملُ حقَّه بموجب العقد والشرط، ولا تُبخَس الأجور ولا تؤخّر، وقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عَرقُه" رواه ابن ماجه في سننه وحسنه الألباني -رحمه الله-.
فيا قبحَ مَنِ استأجر أجيرًا وأكل جهده ولم يعطه حقه, أتعلم أيها الظالم من تخاصم؟, إنك لا تخاصم العامل ولا المؤسسة ولا الوزارة، إنك تخاصم الله -عز وجل- والله تعالى يرى هذا المظلوم -ولو كان فاجرًا- يرفع يديه إلى السماء، فيعظم دعوته ويقول: "لأنصرنك ولو بعد حين".
ولا ننسى -في المقابل- أن نوصي إخواننا العمال بتقوى الله في مصالح كفلائهم، وأن لا يخونوهم ولا يغشوهم ولا يغدروا بهم، وأن يقوموا بالعمل في وقته وشروطه وحدوده.
ومن صور ظلم العمال إكلالهم وإتعابهم في العمل، وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكلَّف العامل فوق طاقته، فلا يطلب منه ما يعجز عنه أو يتعبه، روى مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلَّف من العمل ما لا يطيق".
ومن صور ظلم العمال تغيير عقود العمل، فيأتي العامل من بلده على أنه سائق مثلًا، فيفاجأ بتغيير العقد، فيصبح مضطرًا لقبول المهنة الجديدة ولو كانت رديئة.
ومن صور الظلم تحصيل الفيز والتأشيرات وبيعها على العمال بمبالغ باهظة، لا يستطيعها الموظَّف فضلًا عن عامل فقير غريب، وهذا يحصل لبعض المتنفذين وأصحاب الواسطة، الذين لا يأكلون في بطونهم إلا النار، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ), [الشعراء:227].
ومن صور ظلمهم استقدام عشرات العمال بل قلْ: المئات، وإلقاؤهم كالبهائم في الشوارع والطرقات، ومطالبتهم بدخل شهري، ولا يوفّر لهم الكفيل أو المؤسسة السكن المناسب، ولا الخدمات الضرورية التي ينصّ عليها نظام العمل والعمال في المملكة، بل يُجْمَعون في غرف ضيقة لا تفي بأدنى متطلبات الحياة، مما يهيئ الفرص لحصول الجرائم الاجتماعية والأخلاقية.
ومن صور ظلمهم عدم دعوتهم وحضِّهم على الطاعة كالصلاة، فيمكث العامل في بلادنا سنين ولا يأمره كفيله بالصلاة، بل قد يأمره بالعمل وقت الصلاة، ويرى منه أخلاقًا سيئة فينقل ما يراه ويشاهده إلى بلاده، فإن كان مسلمًا كان التقصير في تعليمه، وإن كان كافرًا كان التقصير في دعوته، بل قد يرى من الأقوال والأفعال ما يشوِّهُ صورة الإسلام في نفسه.
فلنحرص على دعوة هؤلاء جميعًا، وإهداؤهم الكتب والأشرطة الملائمة للغتهم عن طريق مكاتب الجاليات وغيرها.
ومن صور ظلم العمال الاستقطاع من كدهم وتعبهم شهريًا أو سنويًا مقابل الكفالة، وهذا ظلم صريح لا يجوز.
ومن صور ظلمهم التسلط عليهم واحتقارهم وسبُّهم وشتمهم، بل ضربهم في بعض الأحيان دون مخافة الله.
روى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: "كنت أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي: "اعلم أبا مسعود"، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله، فإذا هو يقول: "اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك على هذا الغلام"، فقلت: "لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا" وفي رواية: "فسقط السوط من يدي هيبةً له" وفي رواية: فقلت: "يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله –تعالى-" فقال: "أما لو لم تفعل لَلَفَحَتْك النار" أو: "لمسَّتك النار".
عباد الله: إن الأمة لتهون عند الله وتحرم كثيرًا من الخير بسبب ظلمها الضعيف وتسلِّطها على المسكين، روى ابن ماجه بسند حسن عن جابر -رضي الله عنه- قال: لما رجَعَتْ إلى رسول الله مهاجرةُ البحر قال صلى الله عليه وسلم: "ألا تحدثوني بأعاجيبَ ما رأيتم بأرض الحبشة؟" قال فتية منهم: "بلى يا رسول الله، بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم تحمل على رأسها قُلّة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلّتها، فلما ارتَفعت التفَتَت إليه فقال: "سوف تعلم -يا غُدَر- إذا وضع الله الكرسي وجمع الأولين والآخِرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "صدقت صدقت، كيف يقدِّس الله أمةً لا يؤخذُ لضعيفِهم من شديدِهم".
فاتقوا الله -عباد الله-، وراقبوه في جميع أعمالكم، صغيرها وكبيرها، واتقوا يومًا قال الله تعالى فيه: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ), [الأنبياء:47].
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه...
عباد الله: كم مِنَ العمال الذين سُرقت أموالهم؟ وكم من المساكين الذين بخست حقوقهم؟ وكم من الضعفة الذين أهنت كرامتهم؟ ما أشدّ حسرات العمال وزفراتهم بسبب تأخّر الرواتب أو مماطلة المؤسسة أو احتيال الكفيل! مع أنّ هذا العامل ما جاء إلى هذه البلاد تاركًا أهله ووطنه إلا ليعفّ نفسه وعائلته بالكسب الحلال ولو شاء لسلك طرق الحرام.
إن أداء حقوق العمّال بصدق، سبب لإجابة الدعاء والنجاة من الكربات والأزمات، أخبرنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- عن قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المَبِيتُ إلى غار، فانحدرت صخرة سدّت عليهم الغار، فلمَّا ضاقت بهم الحيلُ اِلْتَجؤوا إلى الله، وتوسّلوا إليه بصالح أعمالهم، فقال أحدهم قال: "اللهم إنك تعلم أني استأجرت أُجَراء، فأعطيتهم حقوقهم إلا واحدًا ترك الذي له ومضى، فثَمّرتُه حتى حصل منه إبل وبقر وغنم ورَقِيق وحَرْث، فجاء ذلك العامل بعد حين فقال: "يا عبد الله: أعطني حقي" قال: "كل ما ترى من إبل وبقر وغنم وحَرْث ورَقِيق فهو لك", قال: "أتستهزئ بي؟" قال: "لا" قال: "يا رب" فأخذه كله، ولم يُبقِ منه شيئًا، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فخلّصنا مما نحن فيه" فارتفعت الصخرة، وخرجوا يمشون.
أين هذا ممن يحاول التهرّب عن الحقوق، وما أحرى أن يصاب بمَحْق في مكاسبه، وخسارة في صفقته التجارية، مع ما عند الله له من الوعيد في الآخرة.
وفي حديث أبي ذر، قاعدة عظيمة يرسمها نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- في التعامل مع الأجراء، فقد روى الإمام البخاري ومسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم".
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه، فإن لم يجلِسه معه، فليناوِله لقمةً أو لقمَتين، أو أكلة أو أكلتين، فإنه وليَ علاجَه" أي: تولى صنعه وعمله.
إنّ حُسنَ التعامل مع الضعيف دليلٌ على قوّة الإيمان، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- أحسنَ الخلق خلُقًا وتعاملًا مع الخدم، كما في الصحيحين عن أنس بن مالك –رضي الله عنه- قال: قدِم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة، فأخذني أبو طلحةَ -زوجُ أمّه- وقال: "يا رسول الله، هذا أنَس رجلٌ لبيب لِيَكن خادمًا لك" قال: "خدَمتُه حَضرًا وسفرًا" فما قال لي لشيءٍ فعلتُه: "لمَ فعلتَه؟ ولا لشيءٍ لم أفعَلْه: لمَ لَم تفعله؟".
أيها الإخوة: ومما يتصل بهذا الموضوع قضية الخادمات في البيوت، وهي قضية هامة لعلنا نفردها بخطبة مستقلة بإذن الله.
فاتقوا الله -عباد الله-، واطلبوا المال الحلال، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، وترفَّقوا بهم، وأحسنوا إليهم، فإنكم بعدلكم وإحسانكم يبارك في أموالكم، وتنشرح نفوسكم، وترضون ربكم، واحذروا الظلم فإنه ظلماتُ يوم القيامة، وموجب لِلَعنة الله، وسببٌ لمحق المال، وفسادِ النفس والعيال.
لا تَظْلِمنَّ إذا ما كنـتَ مَقْتَـدرًا *** فالظُّلمُ آخرُه يأتيـك بالندَمِ
تنامُ في الليل والْمظلـومُ منتبِـهٌ *** يدعو عليك وعينُ اللهِ لَمْ تنمَِ
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي