استقبال رمضان وتدارك الأعمار

إبراهيم بن محمد الحقيل
عناصر الخطبة
  1. انقضاء الأيام والأعمار .
  2. طول العمر خير للمؤمن وشر على الفاجر .
  3. المسابقة في الخيرات .
  4. ضرورة استغلال أوقات شهر رمضان .
  5. كيفية الاستعداد لشهر الصيام .

اقتباس

تنتظرون قدوم شهر من أشهر الله تعالى؛ تعظم فيه الخيرات، وتكثر الحسنات، وتتنزل الرحمات، وتفتح أبواب الجنان فلا يغلق منها باب، وتغلق أبواب النار فلا يفتح منها باب، وتغل مردة الشياطين فلا يصلون إلى ما يصلون إليه في غير رمضان؛ فأعدوا لهذا الشهر عدته، وفرغوا أنفسكم للعمل الصالح الذي يقربكم من ربكم؛ فإنه سيمضي كما مضى غيره من الأشهر والأعوام ..

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واتبعوا ما أنزل من الهدى، واحذروا الهوى، فإنه يسلك بمن اتبعه طرق الردى (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ) [البقرة:197].

أيها الناس: تمر الليالي والأيام، وتنقضي الشهور والأعوام على العباد سواء بسواء؛ فمنهم مكتسب خيرًا، ومنهم حامل وزرًا، فلا الطاعة أبطأت باليوم على صاحبه فلم ينقض عليه، ولا المعصية أسرعت بالليل على أهل الشهوات فأدركوا النهار قبل غيرهم، فشروق الشمس هو شروقها على الأبرار والفجار، والمؤمنين والكفار، والمتهجدين والخُمَّار، وغروبها هو غروبها على جميعهم، ولكن العبرة بالأعمال؛ فإن الأوقات أوعيتها، والوعاء يحفظ ما فيه من حسن وقبيح.

ومن هنا كان طول العمر خيرًا للمؤمنين الأخيار؛ لأنهم يكتسبون فيه ما يقربهم إلى الله تعالى، ويُنيلهم رضوانه وجنته، وكان وبالاً على الكفار والفجار؛ لأنهم يعملون فيه ما يوجب لهم النار وغضب الجبار -جل وعلا-، وقد سأل رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أيُّ الناسِ خَيْرٌ؟! قال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ"، قال: فأيُّ الناسِ شَرٌّ؟! قال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ". روا الترمذي وقال: حسن صحيح.

والاستباق إلى الخيرات، والمنافسة على الباقيات الصالحات أصل من الأصول الثابتة في القرآن الكريم، أمرنا الله تعالى به في عدد من الآيات: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ) [المائدة:48].

وأمرنا -سبحانه وتعالى- أن نسارع إلى مغفرته وجنته، ولا يكون ذلك إلا بالمسارعة في الأعمال الصالحة؛ لأنها ثمن المغفرة والجنة: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]، وفي الآية الأخرى أمرنا -عز وجل- بالمسابقة عليها؛ لأن أهل الإيمان يتسابقون على مغفرة الله تعالى وجنته سبحانه: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ) [الحديد:21].

وأخبرنا سبحانه أن المسابقين إلى الإيمان والعمل الصالح يسبقون إليه سبحانه، ويظفرون بالقرب منه في الدار الآخرة، وكفى بذلك شرفًا وفضلاً للمسابقين في الخيرات: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة:10-12].

والسابقون إلى الإيمان والهجرة والنصرة من الصحابة -رضي الله عنهم- ليسوا كمن تأخر إسلامهم مع صحبتهم وفضلهم وعظيم منزلتهم؛ ولذا كان أبو بكر -رضي الله عنه- أفضل الصحابة، وهو أولهم تصديقًا ونصرة، وكان من المسابقين إلى الخيرات حتى قال عمر -رضي الله عنه-: "يَرْحَمُ الله أَبَا بَكْرٍ؛ ما سبقته إلى خَيْرٍ قَطُّ إلا سبقني إليه". وفي رواية قال عمر -رضي الله عنه-: "ما بادرني أبو بَكْرٍ إلى شيء إلا سبقني إليه".

وأخبر الله تعالى في القرآن أن من آمنوا قبل فتح مكة أعظم أجرًا ممن آمنوا بعده: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) [الحديد:10].

ومن رزقه الله تعالى عافية في بدنه، وفراغًا في وقته؛ تسنى له من العمل ما لم يتسنَّ لغيره؛ فكان ذلك خيرًا له إن شَغَلَ وقته بالطاعات، وعمر أيامه ولياليه باكتساب الحسنات، أو كان شرًّا عليه إن صرف أوقاته في معصية الله تعالى، والإنسان المعافى الذي عنده فراغ لا بد أن يكون من أحد الفريقين؛ ولذا جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ من الناس: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ". رواه البخاري.

قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله تعالى فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله تعالى فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم". اهـ.

وإهدار العمر، وإضاعة الوقت في معصية الله تعالى هي الموت، بل هي أشد من الموت؛ لأن الموت يقطع الإنسان عن العمل كله خيره وشره، وأما صرف الوقت في المعصية فإنه يقطع عمل الخير، ويزيد عمل الشر، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "إضاعة الوقت أشد من الموت لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله تعالى والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها". اهـ.

وأهل الإيمان والتقوى في جهاد شديد دائم؛ لأنهم يجاهدون نفوسًا أمارة بالسوء، ويجاهدون قلوبًا نزاعة إلى الهوى، ويجاهدون زهرة الدنيا وزينتها، ويجاهدون أهلاً وولدًا وقرابة هم من فتنتها، ويجاهدون جيوشًا من شياطين الجن والأنس يراودنهم على المعاصي، ويزينون لهم الشهوات، ويحولون بينهم وبين عبادة الله تعالى؛ فكان جهادهم هذا من أعظم الأعمال وأجلها، وهو سبب توفيق الله تعالى وهدايته لهم، وتثبيته إياهم؛ فإنه سبحانه قد وعد بذلك في قوله -عز وجل-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].

قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "المؤمنون في دار الدنيا في سفر جهاد يجاهدون فيه النفوس والهوى، فإذا انقضى سفر الجهاد عادوا إلى وطنهم الأول الذي كانوا فيه في صلب أبيهم، وقد تكفل الله تعالى للمجاهد في سبيله أن يرده إلى وطنه بما نال من أجر أو غنيمة". اهـ.

ولأهمية الوقت والعمل في حياة الإنسان ومصيره بعد الموت كان سلفنا الصالح يحاسبون أنفسهم على أوقاتهم، فلا يقضونها إلا فيما يعود عليهم بالنفع العاجل والآجل، ويحاسبون أنفسهم على أعمالهم فيجتهدون في الباقيات الصالحات، وهم على وجل أن لا يقبل منهم.

كان إبراهيم النخعي -رحمه الله تعالى- يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه ويقول: "اليوم تعرض أعمالنا على الله -عز وجل-".

وكان الضحاك -رحمه الله تعالى- يبكي آخر النهار ويقول: "لا أدري ما رُفع من عملي!! يا من عمله معروض على من يعلم السر وأخفى: لا تبهرج فإن الناقد بصير".

أسأل الله تعالى أن يأخذ بنواصينا للبر والتقوى، وأن يوفقنا للعمل الصالح الذي يرضيه عنا، إنه سميع مجيب.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

بارك الله لي ولكم في القرآن...

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، نحمده على نعمه العظيمة، ونشكره على آلائه الجسيمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا من صحتكم لمرضكم، ومن فراغكم لشغلكم، ومن حياتكم لموتكم، ومن دنياكم لآخرتكم؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقَّة:18].

أيها المسلمون: تنتظرون قدوم شهر من أشهر الله تعالى؛ تعظم فيه الخيرات، وتكثر الحسنات، وتتنزل الرحمات، وتفتح أبواب الجنان فلا يغلق منها باب، وتغلق أبواب النار فلا يفتح منها باب، وتغل مردة الشياطين فلا يصلون إلى ما يصلون إليه في غير رمضان؛ فأعدوا لهذا الشهر عدته، وفرغوا أنفسكم للعمل الصالح الذي يقربكم من ربكم؛ فإنه سيمضي كما مضى غيره من الأشهر والأعوام، والسعيد من قضى أوقاته في طاعة الله تعالى، والشقي من أضاعها في المعاصي، ويوم القيامة يجد كل عامل عمله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ) [آل عمران:30].

إن من الناس من يستعدون لرمضان بالملاهي والمحرمات، ويعينهم على ذلك شياطين الجن بالوسوسة والتثبيط، ويتسلط عليهم شياطين الإنس بما يعدونهم به في فضائياتهم من مسلسلات وملهيات تصدهم عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، وتزين لهم السوء، فتقسو بها قلوبهم، ويتثاقلون عن الطاعات، وربما كان في بعض مشاهدها سخرية بدين الله تعالى أو بحملته من العلماء والمحتسبين وعباد الله الصالحين، ولا يحل لمسلم يؤمن بالله تعالى أن يحضر تلك المجالس، ولا أن يستمتع بتلك المشاهد وإلا كان شريكًا لهؤلاء المجرمين الساخرين في سخريتهم بدين الله تعالى أو بعباده الصالحين: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء:140].

أيها المسلمون: كم من مفرط على نفسه في الأعوام السابقة قد وعد ربه إن أدرك رمضان القابل أن يجتهد اجتهادًا لا مزيد عليه، ولكنه ينسى موعدته تلك، ولا يتذكرها إلا في آخر الشهر حين يرى الناس سبقوه بالأعمال الصالحة وهو لم يبارح مكانه، فليتذكر من الآن وعوده في الأعوام السابقة، ولا يجعل رمضان هذه السنة كما مضى من رمضانات أضاعها في اللهو والعبث، والنوم والغفلة.

إن أعمارنا تمضي بنا سراعًا إلى قبورنا ونحن لا نشعر، ومواسم الخير تمر بنا كل عام ونحن كما نحن لم نزدد إيمانًا ولا عملاً صالحًا، وهذا من إطباق الغفلة، وتسويف النفس، وتزيين الشيطان؛ فلنحذر ذلك يا عباد الله، ولننتبه من غفلتنا، ولنستيقظ من رقدتنا، ولندحر شياطيننا، ولنستعد لرمضان القابل بما يليق به كونه موسمًا من مواسم الآخرة، وشهرًا من أشهر الله المباركة، فلنُرِ الله تعالى من أنفسنا خيرًا؛ فعسى أن نحظى بنفحة من نفحاته المباركة نسعد بها فلا نشقى أبدًا.

وصلوا وسلموا على نبيكم...


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي