عندَمَا يظِلّ المسلمين زمانُ هذا الشهر المبارك رمضان، يقِف أولو الألبابِ بين جمالِ المناسبة وجلالها، وبين الفَرحَةِ الغامرة باستقبالها وقفةً يذكرون فيها أيضًا تلك الفرحَتَين اللَّتين أَخبرَ بهما رسول الهدى في قوله: "للصّائم فرحتان يفرحُهُما: إذا أفطَرَ فرح، وإذا لقِيَ ربَّه فرح بصومه". الحديث.
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله -عبادَ الله-: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أيّها المسلِمون: عندَمَا يظِلّ المسلمين زمانُ هذا الشهر المبارك رمضان، يقِف أولو الألبابِ بين جمالِ المناسبة وجلالها، وبين الفَرحَةِ الغامرة باستقبالها وقفةً يذكرون فيها أيضًا تلك الفرحَتَين اللَّتين أَخبرَ بهما رسول الهدى -صلوات الله وسلامُه عليه- في الحديثِ الذي أخرجه البخاريّ ومسلم في صحيحَيهما واللفظ للبخاري -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله قال: "للصّائم فرحتان يفرحُهُما: إذا أفطَرَ فرح، وإذا لقِيَ ربَّه فرح بصومه". الحديث. وفي لفظٍ لابن خزيمة في صحيحه: "فرح بجزاء صومه".
وإنَّ هذا التذكُّر ليحمِلهم على التفكُّر في بواعث هذا الفرحِ وأسباب وقوعه وحقيقةِ الصوم المتعلِّق به، إنهم يعلَمون أنَّ صوم من لم يَدَع قولَ الزور والعمل به والجهلَ ومَن لم يحفَظ سمعه وبصرَه وجوارحه عن التلوُّث بأرجاسِ الخطايا ليس المقصود، كيف وقد قال رسول الله: "رُبّ صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوعُ والعطش، ورُبّ قائمٍ حظُّه من قيامِه السَّهَر". أخرجه النسائي في سننه الكبرى وابن ماجه واللفظ له بإسنادٍ صحيحٍ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وقال -عليه الصلاة والسلام- أيضًا: "مَن لم يدع قول الزور والعَمَلَ به فليس لله حاجة في أن يدَعَ طعامه وشرابَه". أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ويعلمون أيضًا أنَّ صومَ من يصوم عادةً لأنّ أهلَ بَلَده صاموا فكان لِزامًا عليه أن يصومَ مجاراةً لهم، ليس المقصود أيضًا، وأنَّ صوم من يصوم متبرِّما مُتأفِّفًا متضجِّرًا منه مستثقِلاً له مسرِفًا على نفسه ببُغضه والنفور منه مُتمنِّيًا سرعةَ انقضائِه لِيعودَ إلى ما كان عليه من ضَلال السّعي الذي يورِث عِظَمَ الخسران، يعلمون أنَّ هذا الصوم ليس المقصودَ أيضًا.
إنه عندهم شيءٌ آخر مختلف، إنه صومُ أولئك الذين ينهَجون فيه نهجًا سَديدا، ويسلُكون فيه مسلكًا قويمًا يبلِّغهم أسمى الغايات وأرفعَ الدّرجاتِ عند ربهم يومَ يَلقونه؛ إنه صيامُ الذين يستَقبِلون شهرَهم عاقدي العزمِ على اغتنامِ فرصَتِه في كلّ ما تزكو به نفوسُهم وتطهُر به قلوبهم وتُحفَظ به ألسنتهم وأبصارُهم وكافّة جوارحهم، إنه صومُ من يصوم إيمانًا بأنه حقٌ وطاعةٌ وقربى يزدَلِف بها إلى مولاه، واحتِسابًا للأجر عنده تعالى وحدَه، وأمَلا في الحظوَة بالجزاءِ الضّافي والأجر الكريم الوارِدِ في الحديث الذي أخرَجَه البخاريّ ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه".
لكنه -يا عباد الله- غفرانٌ مخصوصٌ عند جمهور أهلِ العلم بما دونَ الكبائر، أمّا الكبائر فلا تكفِّرها إلا التوبةُ النصوح ورَدّ الحقوق إلى أهلها إذا تعلّقت بحقوقِ العبادِ؛ لقوله: "الصلواتُ الخمس والجمعةُ إلى الجمعة ورمضان إلى رمضانَ مكفرِّات ما بينهنّ إذا اجتُنبَ الكبائر" أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وصيامُ الذين يعدّون ما لله تعالى في هذا الشهر من فَيضِ العطاء وسَعَة الفضل وكريم الإنعام ومَنعِ الشياطين من التسلُّط على الصائمين صومًا حُوفظ على شروطِه وروعِيَت آدابُه واجتُنِبَ كلُّ ما يقدَح فيه، يعدون ذلك باعثًا على شدّة الاجتهاد وكمالِ الحرصِ على التعرُّض لنفحاتِ الربّ تعالى التي أخبر بها رسول الله في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما واللفظ للبخاري -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله قال: "إذا دخل رمضانُ فتِّحَت أبواب الجنة، وغلِّقت أبواب جهنّم، وسلسلت الشياطين"، ويجعلون من هدي نبيهم -صلوات الله وسلامه عليه- في هذا الشهر خيرَ عدّة وأفضَل زاد؛ فإنّه -كما قال الإمام ابن القيم- أكمل الهدي وأعظمُ تحصيلٍ للمقصود وأسهلُه على النفوس.
وكان من هديه الإكثارُ من أنواع العبادات، فكان يكثر فيه من الصّدَقَة والإحسان وتلاوةِ القرآن والصلاة والذّكر والاعتكاف، وكان يخصّ رمضانَ من العبادة ما لا يخصّ غيرَه به من الشهور، وكان جبريل يدارسه القرآنَ كلَّ ليلة، وكان إذا لقِيَه جبريل أجوَدَ بالخير من الريح المرسلة، أي: المتّصلة الدّائمة بلا انقطاع.
عبادَ الله: إنّ أولئك الذين ينهجون هذا النهجَ في صيامهم ويهتدون بهذا الهَدي همُ الذين تكون لهم العقبى بكمالِ السرور وعظيمِ الفرحَة حين يلقَون ربهم؛ لما يجدون عنده من كريم الجزاء وحُسن الثّواب ونزولِ رَفيع الجنان، وحُقَّ لمن أحسَن الحرثَ وانتقَى البَذرَ وأطاب الغَرس أن يفرح بحصادِه يومَ الحصاد، أمّا من لم يحسِن حرثَه ولم يُطِب غرسَه فأنّى لمثلِه أن يفرحَ يومَ يفرح المؤمنون بفضلِ الله وبرحمته.
فاتقوا الله -عبادَ الله- واعملوا على كلّ ما يبلِّغكم أكملَ سرور وأعظمَ فرح من حُسن استقبال شهركم بكلِّ ما يليق به من جِدٍّ واجتِهادٍ واستباقٍ للخيرات، وأَروا الله مِن أنفسكم فيه خيرًا، فإنها والله فرصةٌ ما أعظمها! وما أعظم فوزَ من اغتنمها!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفُسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، اللّهمّ صلِّ وسلِّمْ على عبدك ورسولك محمدٍ وعلى آله وصحبه.
أمّا بعد:
فيا عبادَ الله: إنّ فرحةَ الصائم بصومِه لا تقتصِر على مَعرفتِه بما أعدَّ الله للصائمين من كريمِ الجزاء وحُسنِ الثواب، بل لأنَّ الصيامَ أيضًا من أعظم أسبابِ التقوَى كما أخبرَ سبحانه عَن ذلك بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
فالصيامُ -كما قال بعض أهل العلم- هو الطريق الأعظم للوصول إلى هذه الغاية التي فيها سعادة العبد في دينه ودنياه وآخرته، فالصائم يتقرَّب إلى الله بترك المشتَهَيات تقديمًا لمحبّة ربِّه على محبّة نفسه؛ ولهذا اختصَّه الله من بين الأعمال فأضافه إلى نفسه كما جاء في الحديثِ الصحيح الذي أخرجه الشيخان واللفظُ للبخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله قال: "قال الله -عزّ وجلّ-: " كلّ عمل ابنِ آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به". الحديث.
وفيه من زيادةِ الإيمان والتمرّن على الصبر والمشقّات، وأنه سبب لكثرة الطاعات من صلاةٍ وقراءةٍ وذكرٍ وصدقةٍ وغيرها ما يحقّق التقوى، وفيه من ردع النفس عن الأمور المحرمة من أقوال وأفعال ما هو من أصول التقوى، ومنها أن فيه من مراقبة الله تعالى بترك ما تهوى النفس مع القدرة عليه لعلمه باطلاع الله تعالى ما ليس في غيره، وهذا بلا ريب من أعظم العون على التقوى.
ومنها أنّ الصيام يضيِّق مجاري الشيطان؛ فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه وتقلّ سطوته، فتقلّ معاصي العبد، فلا عجبَ إذًا أن يشعر المسلم بالفرحة الغامرة كلّما قدم عليه شهر الصيام وأن يستقبله خيرَ استقبال.
ألا فاتقوا الله -عباد الله-، واحرصوا على الانتفاع بفرصة الصيام واغتنام أوقاته والحذَر من تفويتها.
واذكروا على الدوام أن الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم رسل الله محمد بن عبد الله، فقال سبحانه: (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي