العزة في زمن اليأس

هلال الهاجري

عناصر الخطبة

  1. قصة إسلام عدي بن حاتم
  2. العزة في القصة
  3. مواقف تربوية من القصة
  4. مقارنة بين موقفي أهل الإيمان والمنافقين

الخطبة الأولى:

إِنَّ الحَمدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِهِ مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا، مَن يَهدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِل فَلَا هَادِيَ لَه، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).

أما بعد:

كَانَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ يَقُولُ: مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدَّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ سَمِعَ بِهِ مِنِّي، فَقَدْ كُنْتُ امْرَأً شَرِيفًا، وَكُنْتُ نَصْرَانِيًّا، وَكُنْتُ أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ -أيْ يأخذُ رُبْعَ غنائمِ الحَرْبِ-، وَكُنْتُ مَلِكًا فِي قَوْمِي، فَلَمَّا سَمِعْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَرِهْتُهُ، فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لِي رَاعِيًا لِإِبِلِي: أَعْدِدْ لِي مِنْ إبِلِي أَجَمَالًا ذُلُلًا سِمَانًا، فَاحْتَبِسْهَا قَرِيبًا مِنِّي، فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشٍ لِمُحَمَّدٍ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ الْبِلَادَ فَآذِنِّي، فَفَعَلَ، ثُمَّ إنَّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ: مَا كُنْتَ صَانِعًا إذَا غَشِيَتْكَ خَيْل مُحَمَّدٍ فَاصْنَعْهُ الْآنَ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَايَاتٍ، فَسَأَلْتُ عَنْهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: فَقَرِّبْ إلَيَّ أَجْمَالِي، فَقَرَّبَهَا، فَاحْتَمَلْتُ بِأَهْلِي وَوَلَدِي، ثُمَّ قُلْتُ: أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنْ النَّصَارَى بِالشَّامِ، وَخَلَّفْتُ بِنْتًا لِحَاتِمٍ فِي الْحَاضِرِ؛ فَلَمَّا قَدِمْتُ الشَّامَ أَقَمْتُ بِهَا.

فَأَصَابَتْ خَيْلُ المُسلِمينَ ابْنَةَ حَاتِمٍ فِيمَنْ أَصَابَتْ، فَقُدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَبَايَا مِنْ طَيِّئٍ، فَلَما عَرَفها َأَكرَمَها رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكَسَاها وَحَمَلَها على بَعِيرٍ وَأَعْطَاها نَفَقَةً، وبَعَثَها مع نَفَرٍ ثِقاتٍ من قَومِها حَتَّى قَدِمْتْ إلى أَخِيهَا في الشَّامَ.

قَالَ عَدِيٌّ: فَوَاَللَّهِ إنِّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي، إذْ نَظَرْتُ إلَى ظَعِينَةٍ تَصُوبُ إلَيَّ تَؤُمُّنَا، قَالَ: فَقُلْتُ: ابْنَةُ حَاتِمٍ، قَالَ: فَإِذَا هِيَ هِيَ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيَّ انْسَحَلَتْ -أي تلومُه وتُعاتبُه- تَقُولُ: الْقَاطِعُ الظَّالِمُ، احْتَمَلْتَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ، وَتَرَكْت بَقِيَّةَ وَالِدِكَ عَوْرَتَكَ، فاعْتَذرتُ منها، قَالَ: ثُمَّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي، فَقُلْتُ لَهَا: -وَكَانَتْ امْرَأَةً حَازِمَةً- مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟! قَالَتْ: أَرَى وَاَللَّهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعًا، فَإِنْ يَكُنْ الرَّجُلُ نَبِيًّا فَلِلسَّابِقِ إلَيْهِ فَضْلُهُ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا فَلَنْ تَذِلَّ فِي عِزِّ الْيَمَنِ، وَأَنْتَ أَنْتَ. قُلْتُ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا الرَّأْيُ.

ودعونا نبدأُ هذه الرحلةَ العجيبةَ خُطوةً بخطوةٍ؛ قَالَ عَدِيٌّ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَنْ الرَّجُلُ؟! فَقُلْتُ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِهِ، فَوَاَللَّهِ إنَّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ، إذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ، فَاسْتَوْقَفته، فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلِّمُهُ فِي حَاجَتِهَا، فانظروا كيفَ انطلقَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعديِّ بنِ حاتمٍ إلى بيتِه ليقومَ بضيافةِ سَيِّدٍ من ساداتِ طَيْءٍ!! ولم يمنعْه ذلك من أن يقفَ إلى تلكَ المرأةِ الضعيفةِ الكبيرةِ الوقتَ الطويلَ تكلِّمُه في حاجتِها ولا يُقاطِعُها ولا يعتذرُ لها بوجودِ شخصيَّةٍ عظيمةٍ في ضيافتِه يحتاجُ أن لا يتأخرَ عليه، فماذا كانَ أثرُ ذلك على عَدِيٍّ؟! يقولُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاَللَّهِ مَا هَذَا بِمَلِكِ.

قَالَ: ثُمَّ مَضَى بِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ، تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوَّةٍ لِيفًا، فَقَذَفَهَا إلَيَّ؛ فَقَالَ: اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ، قُلْتُ: بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا، فَقَالَ: بَلْ أَنْتَ، فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْأَرْضِ، وهذا المشهدُ الثاني في بيتِ النُّبُوَّةِ، حُجْرةٌ صغيرةٌ، أفضلُ أثاثِها، وسادةٌ من جِلْدٍ حَشوُها ليفُ نخلٍ يَجعلُها لضيفِه مَجْلِساً، فماذا كانَ أثرُ ذلك على عَدِيٍّ؟! يقولُ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: وَاَللَّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ.

ثُمَّ قَالَ: إيِهِ يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيًّا؟! -وهو دِينٌ بين النصرانيةِ والصابئةِ- قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: أَوْ لَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِكَ بِالْمِرْبَاعِ؟! قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ؛ قُلْتُ: أَجَلْ وَاَللَّهِ، وهذا الموقفُ الثالثُ، جِدالٌ بالتي هي أحسنُ، فكلُ علمٍ فهو في كتابِ اللهِ تعالى وفي سُنةِ نبيِّه -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، فأنت تستطيعُ أن تُخبرَ اليهودَ والنصارى بأصولِ أديانهم، وأخبارِ أنبيائِهم، وأحوالِ آبائهم، وما حدثَ لهم في غَابرِ أيَّامِهم، بما تقرأُ في الكتابِ والسُنَّةِ، فماذا كانَ أثرُ ذلك على عَدِيٍّ؟! يقولُ: وَعَرَفْتُ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ.

ثُم حدثَ شيءٌ لم يَكن في الحُسبانِ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَى إِلَيْهِ الْفَاقَةَ -أيْ الفقرَ-، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، فكأنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قرأَ في وجهِ عديٍّ تساؤلاتٍ عديدةً، فلو كانَ هذا دِينُ اللهِ حقاً، فلماذا لم يُطعمْهم من جوعٍ، ولم يُؤمِّنهم من خوفٍ؟! فأرادَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أن يُزيحَ عنه هذه الشُبهاتِ، فَقَالَ له في الخوفِ: "يَا عَدِيُّ: هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟!"، قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا وَقَدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا، قَالَ: "فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ فَلَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ -هي المرأةُ في الهَوْدجِ- تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ".

فمن شِدةِ الأمنِ حتى المرأة -التي من طبيعتِها الخوفُ- لا تخافُ شيئاً وهي تُساقُ على بعيرِها مع القافلةِ، قُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي: فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيْءٍ -قُطَّاعُ الطَّرِيقِ- الَّذِينَ قَدْ سَعَّرُوا الْبِلَادَ -أَي مَلَأوا الأَرضَ شَراً وَفَساداً؟!

وقالَ له في الفقرِ: "وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى"، قُلْتُ: كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟! قَالَ: "كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ"، وليسَ هذا فقط، بل قالَ له: "لَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مَنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَقْبَلُهُ مِنْهُ".

لم تكنْ الوقائعُ في ذلك الزمانِ تدلُّ على شيءٍ من ذلك، وإنما هو الإيمانُ باللهِ تعالى، والثِّقةُ بوعدِه تعالى، وقوةِ يقينِ النبيِّ بربِّه سبحانَه، والعِزةُ باللهِ تعالى وبدينِه الحقِّ، كلُّ ذلك جعلَ لهذه الكلماتِ وَقعٌ عظيمٌ في قلبِ عديٍّ.

ثم قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "يا عديُّ: ما تقولُ؟! أَيَضُركَ أن يُقالَ: اللهُ أكبرُ؟! فهل علمتَ شيئاً أكبرُ من اللهِ؟! ما يَضُركَ؟! أَيَضُركَ أنْ يُقالَ: لا إلهَ إلا اللهُ؟! فهل تعلمُ إلهاً غيرَ اللهِ؟! ثم دعاهُ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- إلى الإسلامِ، فأسلمَ وشِهِدَ شهادةَ الحقِّ، قالَ عَديٌّ: فلقد رأيتُ وجهَ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- استبشرَ.

ثم مرتْ السِنونَ، وماتَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ولم يتحققْ شيءٌ من ذلك، وعاشَ عَدِيٌّ بعد ذلك سنواتٍ عديدةً، فبدأَ يُحدِّثُ أصحابَه بقصتِه مع النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- ويقولُ لهم: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَكُنْتُ مِمَّنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "يُخْرِجُ مَلْءَ كَفِّهِ".

ثم يموتُ عديٌ -رضيَ اللهُ عنه-، فيأتي عهدُ الخليفةِ عمرَ بن عبد العزيزِ -رحمَه اللهُ تعالى-، فيقولُ عمرُ بنُ أسيدٍ -رحمَه اللهُ-: إنما وَليَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ سنتينِ ونِصفاً، لا واللهِ ما ماتَ عُمرُ حتى جعلَ الرجلُ يأتينا بالمالِ العظيمِ، فيقولُ: اجعلوا هذا حيثُ ترونَ للفقراءِ، فما يبرحُ حتى يرجعَ بمالِه يتذكرُ من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجعُ بمالِه؛ قد أغنى عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ الناسَ.

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ القاهرِ بقدرتِه، الظاهرِ بعزِّتِه، الغالبِ بقوَّتِه، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمداً عبدُه ورسولُه بعثَه اللهُ للعالمينَ هدىً ورحمةً، وجعلْ رزقَه تحتَ ظِلِّ رمحِه، والعزِّةَ والنصرَ لمن أطاعَه واتَّبعَه، والذِّلةَ والصَغَارَ لمن خالفَ أمرَه، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وصحابتِه والتابعينَ لهم إلى يومِ الدينِ.

أما بعد:

فلقد كانت لغةُ العِزةِ هي لغة النبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- حتى في أحلكِ الظروفِ، فها هو مُحاصرٌ في المدينةِ بعشرةِ آلافِ مُقاتلٍ في غزوةِ الخندقِ، في بَردٍ قارسٍ، وجوعٍ قاتلٍ، في موقفٍ لا يُمكنُ التعبيرُ عنه إلا بما وصفَ اللهُ تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)﴾، ﴿تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾، فما هي تلك الظُنُّونَ؟!

أما أهلُ الإيمانِ، فكانَ ظَنُّهم أن هذا هو الابتلاءُ الذي وعدَ اللهُ تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾، كما في قولِه تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، فماذا قالوا؟! ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾، وها هو سيِّدُهم وإمامُهم قد ربطَ على بطنِه حَجَرينِ من الجوعِ وقد عَرَضتْ لأصحابِه صخرةٌ وهم يحفرونَ الخندقَ فاستعصتْ عليهم، تناولَ المِعْوَلَ بيَّدِه فَقَالَ -وهو في ذلك الموقفِ العصيبِ-: "بِاسْمِ اللَّهِ"، فَضَرَبَ ضَرْبَةً، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا"، ثُمَّ قَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ"، وَضَرَبَ أُخْرَى، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا"، ثُمَّ قَالَ: "بِاسْمِ اللَّهِ"، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا".

وأما المنافقونَ، فماذا كانَ ظنُّهم في أيامِ الضَعْفِ والأزَماتِ؟! ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾، ثم الفِرارُ: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾، ثم التربُّصُ بهزيمةِ المؤمنينَ وعدمِ تمني الخيرَ لهم: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾، ثم طعنٌ في الإسلامِ وأهلِه: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾، وهكذا تتكررُ مثلُ هذه المواقفِ والظُنّونِ في كلِ زَمانٍ، يُبتلى في أهلُ الإيمانِ، فتَجدُ أهلَ نفاقٍ وأهلَ إحسانٍ، فيثبتُ أهلُ الإيمانِ على الحقِّ، منتظرينَ وعدَ اللهِ الحقِّ، وتتساقطُ أقْنِعةُ أهلِ النفاقِ، مُوالينَ لأهلِ الكُفرِ والشِقاقِ، ويبقى: ﴿لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.

اللهم أعزَ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعزَ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أعزَ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم وأذلَ الشركَ والمشركينَ، اللهم دَمِّرْ أعداءَك أعداءَ الدِّينِ، اللهم وأرنا فيهم يومًا عجيبًا يا ربَّ العالمين، اللهم انصرْ أُمَّةَ محمدٍ وأَخرجْهم من الظلماتِ إلى النورِ، اللهم احفظ المسلمينَ في كلِ مكانٍ يا ربَّ العالمينَ، اللهم ارفعْ كُرباتِهم، اللهم وبَدِّلْ ذلَّ المسلمينَ عِزًا وتمكيناً، ونُصرةً وتأييدًا، اللهم أصلحْ أحوالَ المسلمينَ في كلِ مكانٍ، اللهم ثبتْ قلوبَهم على الولاءِ لك ولرسولِك محمدٍ ولجميعِ المؤمنينَ.


تم تحميل المحتوى من موقع