ولاحت بشائر النصر لجند الله، وفرح المسلمون بنصر الله، ينصر من يشاء، ونزل الرماة من مواقعهم لما رأوا تقهقر المشركين، ولم يبق على جبل الرماة إلا عبد الله بن جبير في عشرة من الرماة، وهنا انقلبت موازين المعركة، والتف سلاح الفرسان بقيادة خالد بن الوليد على جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفهم، ورجع المنهزمون من المشركين لما توقف القصف من جبل الرماة، وارتفعت معنويات المشركين، وتزعزعت معنويات المسلمين ..
الحمد لله رب العالمين، يا رب! يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة ولا يهتك الستر، يا حسَن التجاوز، يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، يا كريم الصفح، يا عظيم المن، يا مبتدئ النعم قبل استحقاقها.
يا ربنا، ويا سيدنا، ويا مولانا، ويا غاية رغبتنا، نسألك يا الله، باسمك العظيم الأعظم، الذي إن دعيتَ به أجَبت، وإن سئلت به أعطيت، نسألك يا الله، نسألك يا الله، نسألك أن ترفع الذل عن أمة محمد أجمعين، اللهم ارفع الهوان عن أمة محمد يا رب العالمين، اللهم ارفع البلاء عن أمة محمد يا أرحم الراحمين، اللهم اكشف الكرب عن أمة محمد يا أكرم الأكرمين، آمين، آمين، آمين يا رب العالمين.
وأشهد ألَّا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، هو الأول فلا شيء قبله، والآخر فلا شيء بعده، الظاهر فلا شيء فوقه، الباطن فلا شيء دونه.
يقول الصديق أبو بكر رضي الله عنه: قرأت القرآن كله فلم أجد أرجى من قول المولى جل وعلا: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلَاً) [الإسراء:84].
وقال الفاروق عمر رضي الله عنه: قرأت القرآن كله فلم أجد أرجى من قول المولى جل وعلا: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر:3].
وقال ذو النورين عثمان رضي الله عنه: قرأت القرآن كله فلم أجد أرجى من قول المولى جل وعلا: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الحجر:49].
وقال بطل الإسلام علي -كرم الله وجهه-: قرأت القرآن كله فلم أجد أرجى من قول المولى جل وعلا: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
وأشهد أن حبيبنا و نبينا ورسولنا وعظيمنا وقائدنا وقدوتنا محمداً رسول الله، سيد المجاهدين، وإمام المخلصين، وأشجع الناس أجمعين؛ يقول سيدنا علي رضي الله عنه: كنا إذا اشتد القتال، وحمي الوطيس، نحتمي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيكون أقربنا على العدو.
حبيبي يا رسول الله:
يَا أيُّهَا البَطَلُ ... الَّذِي *** أظْهَرْتَ نُورَ الحَقِّ فِي دَعْوَاكَا
خُضْتَ المعاركَ كُلَّهَا بِجَدَارةٍ *** واللهُ بالنَّصْرِ المُبينِ حَباكا
صلى عليك الله يا علم الهدى ما هبت النسائم، وما ناحت على الأيك الحمائم.
أما بعد: فيا حملة القرآن، ويا حراس العقيدة، اسمحوا لي أن أنتقل بحضراتكم اليوم إلى مشهد من مشاهد سيرة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ لنتوقف قليلاً بين يدي مشهد عظيم نعيش اليوم ذكراه العشرين بعد المائة الرابعة عشرة من هجرة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-، نتوقف بين يدي هذا المشهد العظيم، لا للتسلية، ولا للتباكي، وإنما نتوقف لنستلهم بعضاً من الدروس والعبر.
أيها المؤمنون الأعزاء: أوجه إليكم الدعوة العاطرة من الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- لزيارة طيبة الطيبة، المدينة المنورة، وها نحن نأخذ مقاعدنا خلف كبار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهم ملتفون حوله بمسجد قباء، يترقبون ما يصدر عنه من أقوال أو أفعال، ليجعلوها دستوراً لحياتهم.
كيف لا؟ وهو الذي يتلقى الوحي من السماء، قوله وحيٌ، وفعله وحيٌ، وسمته وحيٌ، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4].
وبينا نحن كذلك إذا برجل أشعث أغبر من طول السفر، تبدو عليه علامات التعب الإرهاق، قطع في ثلاثة أيام ما يقرب من خمسمائة كيلو متر ما بين مكة ومدينة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقبل أن يرتاح الرجل من عناء السفر الطويل، يسلم الحبيب محمداً -صلى الله عليه وسلم- رسالة مختومة من العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
تسلم الحبيب الرسالة، وسلمها للصحابي الجليل أبيّ بن كعب رضي الله عنه ليقرأها عليه، وبعد أن قرأها أبي على الرسول الأعظم أمره بالكتمان، وتوجه من فوره إلى المدينة هو ومن معه من أصحابه الكرام.
وفور وصول الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى طيبة، أعلن حالة الطوارئ العامة، وأعلن الاستنفار العام بألا يفارق رجال المدينة السلاح، حتى وهم في الصلاة، وشُكلت سبع مجموعات:
المجموعة الأولى: من الأنصار بقيادة، سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة، مهمتها حراسة الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم-.
المجموعة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة: على مداخل المدينة من جهاتها الأربع.
المجموعتان السادسة والسابعة: عبارة عن دوريات متجولة داخل وخارج المدينة المنورة.
وفوق كل هذا عقد جلسة طارئة للمجلس الاستشاري برئاسة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ ماذا كانت تحمل رسالة العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ وما الذي دعاه إلى إعلان حالة الطوارئ في المدينة المنورة؟ وما الذي حمله على إعلان الاستنفار العام؟ وما الذي جعله يعقد جلسة طارئة للمجلس الاستشاري؟ كل هذه الأسئلة، والإجابة عليها، وغيرها من الأحداث، ستكون محور حديثنا لهذا اليوم المبارك الأغر.
أيها المؤمنون الأفاضل: أيتها المؤمنات الفاضلات: لقد كانت رسالة العباس بن عبد المطلب تحمل معلومات سرية خلاصتها:
- قريش تحرك جيشاً كبيراً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل مشرك بقيادة أبي سفيان بن حرب، للقيام بغزو المدينة، واستئصال الدعوة الإسلامية في مهدها.
- عدة الجيش: سلاح النقليات: ثلاثة آلاف بعير، سلاح الفرسان: مائتا فرس بقيادة البطلين خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، سلاح الوقاية: سبعمائة درع حديدي، سلاح التحريض: خمس عشرة امرأة من حرائر قريش بقيادة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان.
- اللواء لبني عبد الدار.
أيها المؤمنون الأعزاء: على ضوء هذه المعلومات الواردة من مكة، فعل الرسول ما فعل، ولكن تعالوا لنرى: ما الذي دار في الجلسة الطارئة للمجلس الاستشاري العسكري الأعلى برئاسة القائد الأعلى للقوات المسلحة الإسلامية؟.
وهاهو ذا حبيب الحق وسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- يفتتح الجلسة باسم الله الرحمن الرحيم. ثم يقول -بأبي هو وأمي-: "إني قد رأيت والله خيراً، رأيت بقراً يذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة"، هذه رؤيا رآها النبي في المنام، ورؤيا الأنبياء حق، فما تأويل هذه الرؤيا؟.
أوّل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هذه الرؤيا على النحو الآتي: أما البقر، فنفر من أجَلِّ الصحابة يُقتَلون، بل يستشهدون؛ وأما الثلمة في سيفه، فرجل يصاب من أهل بيته؛ وأما الدرع الحصينة، فهي المدينة المنورة.
ثم طرح الحبيب رأيه على أعضاء المجلس كأي عضو من أعضاء المجلس، وكان رأيه -صلى الله عليه وسلم- أن يتحصنوا بالمدينة، فإن أقام المشركون بمعسكرهم خارجها أقاموا بشَرِّ مقام، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت.
وطُرح في الجلسة رأي آخر تبناه المتحمسون من شباب المسلمين الذين فاتهم الخروج في بدر، خلاصته ضرورة الخروج إلى المشركين، وقتالهم خارج المدينة.
وبعد أن طرح الرسول الأعظم رأيه، وطرح المتحمسون رأيهم، وضع الرأيان للتداول داخل المجلس، وكان رأي أغلبية الأعضاء الخروج لقتال المشركين خارج المدينة، وها نحن نرى سيدنا حمزة بن عبد المطلب يرفع يده طالباً السماح له بالحديث، ويقوم الحمزة رضي الله عنه قائلاً: يا رسول الله! والذي أنزل عليك الكتاب بالحق، لا أطعم طعاماً حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة.
ثم يرفع عضو آخر من أعضاء المجلس يده طالباً السماح له بالحديث، فنهض قائلاً -وأمارات الشوق إلى الجنة بادية في وجهه-: يا رسول الله! أنا أشهد أن البقر المذبوح قتلى من أصحابك، وإننا منهم، فلم تحرمنا الجنة؟ فوالذي لا إله إلا هو لأدخلنَّها! قال له الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "بم"؟ فأجاب الرجل: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف. قال الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-: "صدقت"؛ ولما سألنا عن اسم هذا البطل الهمام قيل لنا: هو النعمان بن مالك بن ثعلبة، أخو بني سالم.
و أمام هذا الإصرار الكبير من قبل غالبية أعضاء المجلس على ضرورة الخروج لملاقاة المشركين، يرفض الحبيب محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- رأيَه أمام رأي الأغلبية! فهو لم يكن دكتاتوراً، لم يكن حاكماً عسكرياً، ولم يكن ملكاً عنيداً، ولم يكن أميراً مغروراً، ولم يكن رئيساً مستبداً،لم يحمل شعار: أنا ومن ورائي الطوفان!.
لقد كان يحمل شعاراً منزلاً من فوق سبع سموات، نزل به الروح الأمين، من لدن رب العالمين، على سيد الأولين والآخرين: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159].
أيها المؤمنون الأماجد، أيتها المؤمنات الماجدات: وبعد التعبئة العامة، والتنظيم الدقيق، وفي يوم السبت السابع من شهر شوال للسنة الثالثة من الهجرة، خرج قائد الأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في جيش قوامه ألفٌ من أصحابه ومن أهل المدينة، حتى إذا كانوا خارج المدينة حدثت مفاجأة كبيرة لم تكن في الحسبان! أتدرون ما المفاجأة؟ ومن أحدثها؟.
أما المفاجأة فكانت رجوع ثلاثمائة من قوام الجيش الإسلامي إلى المدينة، والذي أحدث هذه المفاجأة هو رأس النفاق، وأمين عام حزب المنافقين، عبد الله بن أبي بن سلول، الطابور الخامس! أتدرون ما الطابور الخامس؟ إنه طابور المنافقين، إنه طابور المخذِّلين، إنه طابور الاستسلام، إنه طابور الخيانة، إنه طابور الغدر؛ أخطر شيء على الأمم هو الطابور الخامس، يندس بين الصفوف، وينخر في جسد الأمة من الداخل، فيدمر، ويمزق، ويحطم، ويفرق.
وهل فرَّقَ أمةَ محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا الطابورُ الخامس؟ هل أذل أمة (لا إله إلا الله) إلا الطابور الخامس؟ وهل نشر الظلم والجور والكبت والسجون في دول الإسلام إلا الطابور الخامس؟ وهل زيَّنَ للظالمين ظلمهم، وللمفسدين فسادهم، وللبغاة بغيهم، وللطغاة طغيانهم، إلا الطابور الخامس؟ وهل حارب الإسلام، وأتباع الإسلام، وتلاميذ الإسلام، ودعاة الإسلام إلا الطابور الخامس؟ وهل غير المناهج، وبدل المفاهيم، وحارب العقيدة، إلا الطابور الخامس؟ وهل أشاع الفاحشة، وفسّخ الأخلاق، وحرم الحلال، وأحل الحرام، إلا الطابور الخامس؟ طابور المنافقين! طابور عبد الله بن أبي بن سلول! الطابور الأمريكاني! الطابور الماسوني!.
وعقب هذه المفاجأة، يرسل المولى -جل جلاله- أمين وحي السماء، جبريل عليه السلام، بمذكرة تفسيرية لما حدث، تسلمها الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- فإذا فيها: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) [آل عمران:88].
أيها المؤمنون الأعزاء: بعد انسحاب الطابور الخامس بقي مع الرسول الأعظم -صلى الله عليه وسلم- سبعمائة موحد، كل واحد منهم يتمنى ألا يعود، كل واحد منهم يشم رائحة الجنة من وراء أُحُد، كل واحد منهم يرى مقامه في الجنة أمام عينيه.
عسكر بهم قائدهم -صلى الله عليه وسلم- أمام جبل أحد، وهناك قام بتنظيم الجيش الموحد:
أولاً: سلاح القاذفات (سلاح الرماة): ويتكون هذا السلاح من خمسين رامياً من أمهر الرماة بقيادة اللواء رام/ عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري رضي الله عنه، وأمرهم بالتمركز على جبل الرماة، وحثهم على حماية ظهر المسلمين؛ وشدد عليهم الحبيب -صلى الله عليه وسلم- ألا يتركوا موقعهم مهما حدث.
ثانياً: سلاح الميمنة بقيادة اللواء الركن/ المنذر بن عمرو رضي الله عنه.
ثالثاً: سلاح الميسرة بقيادة اللواء الركن/ الزبير بن العوام رضي الله عنه.
رابعاً: سلاح القلب والمقدمة وفيه من أبطال الصحابة الأسد الركن/ حمزة بن عبد المطلب، والبطل الركن/ علي بن أبي طالب، والفريق الركن/ مصعب بن عمير (حامل لواء المسلمين )، واللواء الركن/ أبو دجانة.
خامساً: شعار المسلمين أثناء المعركة ( أمتْ، أمتْ )
والتقت الفئتان: فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة؛ والتحم الفريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير، واندفع فرسان المسلمين، اندفع أبطال الإسلام، ولسان كل واحد منهم يقول: وعجِلتُ إليك ربِّ لِترضى؛ فصالوا، وجالوا، بحول الله وقوته، رموا النبال فسدد الله رميهم، وضربوا بالسيوف فثبت الله ضرباتهم، وطعنوا بالرماح فأصابت بإذن الله عدوهم.
وقُتل حامل لواء المشركين، طلحة بن أبي طلحة، قتله بطل الإسلام/ علي رضي الله عنه، فحمل لواءهم أخوه عثمان بن أبي طلحة، وسرعان ما قتله أسد الله/ حمزة، ثم حمل اللواء أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه/ سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حلقه فقتله، وتعاقب بنو عبد الدار على حمل لواء الشرك والإلحاد حتى قتل منهم سبعة، وتزعزت صفوف المشركين، وخارت قواهم، ولاذوا بالفرار أمام أبطال الإسلام، وتركوا وراءهم الغنائم الوفيرة، والأسلاب الكثيرة.
ولاحت بشائر النصر لجند الله، وفرح المسلمون بنصر الله، ينصر من يشاء، ونزل الرماة من مواقعهم لما رأوا تقهقر المشركين، ولم يبق على جبل الرماة إلا عبد الله بن جبير في عشرة من الرماة، وهنا انقلبت موازين المعركة، والتف سلاح الفرسان بقيادة خالد بن الوليد على جيش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خلفهم، ورجع المنهزمون من المشركين لما توقف القصف من جبل الرماة، وارتفعت معنويات المشركين، وتزعزعت معنويات المسلمين بعدما أشيع مقتل الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فأصيب المسلمون إصابة بليغة، واستشهد سبعون من خيرة الأصحاب، على رأسهم حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وسعد بن الربيع، وغيرهم، وغيرهم.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ أشهد ألا إله إلا الله، ولي الصالحين، واشهد أن محمداً عبد الله ونبيه ورسوله، إمام المتقين، وخاتم الرسل أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أيتها الأخوات المؤمنات: نعود من هنا إلى هناك، من هنا حيث مدرسة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-، إلى هناك حيث أصيب المسلمون إصابة بليغة في أحد.
أيها المسلمون الأماجد: ولما جن الليل توقف القتال، عن نتيجة قدرها سبعون شهيداً من جيش المسلمين، وسبعة وثلاثون قتيلاً من جيش المشركين؛ وعَدَّ المشركون هذا نصراً لهم، فتقهقروا عائدين إلى مكة، فرحين بما جرى، وكأنهم حازوا الدنيا وما فيها!.
وعاد الحبيب -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بعد أن دفن الشهداء، وحمل الجرحى، عاد بجيش منهك، متعب، جريح، كسير؛ وبات النبي -صلى الله عليه وسلم- حزيناً، لما أصاب أصحابه، فلما أصبح الصباح، أذن مؤذن الجهاد: ألا يتخلف أحد ممن شهد أحداً عن ركب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمطاردة جيش المشركين، حتى لا تسول لهم أنفسهم العودة إلى المدينة.
وما هي إلا لحظات حتى اجتمع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما تخلف منهم رجل واحد، جاءوا بجراحاتهم، ومآسيهم، ملبين داعي الجهاد؛ وعلم أبو سفيان بعودة المسلمين إلى مطاردتهم، فأسرع الخطى نحو مكة، وغذ السير، حتى ينجو بما عده نصراً في أحد؛ وعسكر الرسول بجيشه ثلاثة أيام في حمراء الأسد على بعد ثلاثة عشر كيلو متراً من المدينة.
أيها المؤمنون الأحبة: لن أستطيع في لقاء واحد معكم أن أحيط بأحداث ملحمة أحد، فذلك يتطلب عدة لقاءات، فلن أتحدث عن بطولات (أُسد أحد) في أحد، ولن أتحدث عن تضحيات (أُسد أحد) في أحد.
لن أتحدث عن مقتل أسد الله وأسد رسول الله سيدنا حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، ولن أتحدث عن صاحب العصابة الحمراء، أبي دجانة، ولن أتحدث عن بطولات علي، ولا أنس بن النضر، ولا سعد بن الربيع، ولا سعد بن أبي وقاص، ولا أبي عبيدة بن الجراح، ولا الملتفين حول الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- للدفاع عنه، بل لفدائه، ولا عن جهاد أم عمارة، ولن أتحدث عن إصابات الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-.
سأترك الحديث عن تلك البطولات، وتلك التضحيات، لأطرح سؤالين هامين، والإجابة عليهما:
السؤال الأول: ما الأسباب التي أدت إلى انتكاسة المسلمين في أحد؟.
السؤال الثاني: هل تسمى تلك الانتكاسة هزيمة للمسلمين، ونصراً للمشركين، طبقاً للقواعد العسكرية المعروفة؟.
أيها المؤمنون الأعزاء: أما الإجابة عن السؤال الأول فتتلخص في نقطتين هامتين، وسببين واضحين، أديا إلى انتكاسة المسلمين في أحد: عصيان الرماة، وإشاعة مقتل النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
أما السبب الأول، وهو عصيان الرماة لتوجيهات قائدهم -صلى الله عليه وسلم- التي تقضي بعدم مغادرة مواقعهم مهما حدث، فقد كان أمْر الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- واضحا وضوح الشمس في ضحاها، جلياً جلاء القمر إذا تلاها: "إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزَمنا القوم ووطئناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم".
ولكن الرماة -عفا الله عنهم- لما رأوا الدائرة تدور على المشركين في بادئ الأمر، خالفوا الأمر، وعصوا الرسول، ظناً منهم أن المعركة قد انتهت؛ وأسمِه عصياناً؛ لأن الله -تعالى- سماه عصياناً، وحباً للدنيا: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ (أي بالنبل) حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ (اختلفتم حول البقاء أو النزول) وَعَصَيْتُمْ (أمر الرسول) مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ (النصر) مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا (الغنائم) وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ، ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ، وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْكُمْ، وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤْمِنِينَ) [آل عمران:152].
والسبب الثاني هو إشاعة قتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذه الإشاعة حققت دوراً كبيراً في زعزعة معنويات المسلمين، كيف يُقتل رسول الله، وهو المعصوم المحفوظ من المولى -جل جلاله-؟ كيف يقتل الحبيب ولمّا يتحقق نصر الله الذي وعدنا؟ كيف يقتل قائدنا ومعلمنا وهادينا، ودعوته لا زالت وليدة الأمس؟.
كل هذه التساؤلات، وغيرها، دارت في خلد معظم أفراد الجيش المحمدي، فزعزعت المعنويات، وأنهكت القوى، وأسلمت رقاب المسلمين للقتل، ودفعت الكثير إلى الهروب؛ وفي ذلك يعاتب المولى -جل جلاله- عباده المؤمنين فيقول: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144].
أما قصة الهروب والتولي فيتحدث عنها مولانا فيقول: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْرإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران:155].
تلكم -أيها المؤمنون الأفاضل- إجابة السؤال الأول، أما إجابة السؤال الثاني: هل تسمى تلك الانتكاسة هزيمة للمسلمين، ونصراً للمشركين، طبقاً للقواعد العسكرية المعروفة؟ فلكي تتضح الإجابة على هذا السؤال يجب أن نتعرف سوياً على الشروط العسكرية المعروفة للحكم على جهة محاربة بالنصر أو الهزيمة، فما هي شروط النصر؟ وما هي معايير الهزيمة؟.
الشرط الأول: احتلال الأرض: لا يحكم على جهة بالهزيمة إلا إذا احتل العدو أرضها أو جزءاً منها،
كما حدث أيام الاستعمار في مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، والجزائر، والمغرب، والأردن، وفلسطين، وغيرها، فقد كانت هذه الدول دولاً منهزمة؛ لأنها كانت محتلة احتلالاً كلياً، وكما هو حاصل اليوم في الدول التي يتواجد فيها الجنود الأمريكيون، المارينز الأمريكي، أو توجد على أراضيها قواعد عسكرية لألد عدو للإسلام والمسلمين، هذه الدول، دول مهزومة، لماذا؟ لأن العدو الأمريكي محتل لجزء من أراضيها بالقوة العسكرية، والتواجد العسكري، والاحتلال الجزئي، في الأعراف العسكرية، أشد هزيمة من الاحتلال الكلي.
كيف ذلك؟ الاحتلال الكلي للأرض، يقاوَم، يجاهَد، كما هو حاصل في فلسطين، أما الاحتلال الجزئي للأرض، فهو يتم بموافقة المهزوم، وتحت حماية المهزوم، والمنتصر يفرض على المنهزم السياسة التي يريد، ويملي عليه الشروط التي يريد؛ فهل حدث ذلك لدولة الإسلام في عهد الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- بعد معركة أحد؟.
هل احتل جيش المشركين مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟ أو أي جزء منها؟ الإجابة: لا، بل رجع جيش المشركين إلى مكة بخفي حنين.
الشرط الثاني: إبادة الجيش: فلا يحكم على جهة بالهزيمة إلا إذا أبيد جيشها إبادة كاملة، وأصبحت الدولة المنهزمة بلا جيش! كما حدث لألمانيا في الحرب العالمية الثانية، عندما خرجت من الحرب بلا جيش فحكم عليها بالهزيمة، فهل أبيد جيش محمد -صلى الله عليه وسلم- في معركة أحد؟ الإجابة: لا، كل الذين قتلوا من المسلمين في هذه المعركة سبعون، سبعون شهيداً، من جيش قوامه سبعمائة مجاهد، أي ما نسبته عشرة بالمائة من قوام الجيش! فهل تسمى هذه إبادة؟.
وقُتل من جيش المشركين سبعة وثلاثون مشركاً، (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء:104]. فكيف نسمي ما حدث للمسلمين في أحد هزيمة وقد رجع الرسول بتسعة أعشار الجيش المحمدي؟.
الشرط الثالث: تبديل العقيدة، تبديل المبادئ، تغيير الفكر، وهذا ما لم يحدث للمسلمين بعد أحد، فقد خرج الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو رسول الله، وعاد إلى المدينة بعد أحد وهو رسول الله، خرج المسلمون إلى أحد وهم مؤمنون بالله ورسوله، وعادوا من أحد وهم أشد إيماناً بالله وبرسوله، فكيف نحكم عليهم بالهزيمة؟.
الشرط الرابع: الاستسلام للعدو: عندما تستسلم دولة لأخرى تسمى دولة مهزومة، عندما يستسلم جيش لآخر يسمى الجيش المستسلم جيشاً منهزماً، كما حدث لليابان عندما استسلمت لأمريكا بعد قنبلة هيروشيما الإرهابية التي قتلت أكثر من مائة ألف ياباني مدني، فأصبحت اليابان بعد استسلامها لأمريكا لعبة صغيرة بيد أمريكا، لا تفعل إلا ما تريد أمريكا، فهل استسلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمشركين في أحد؟.
الإجابة: لا، وألف لا، ما استسلم رسول الله، إلا لله، وما سلم رسول الله إلا لله، وما ركع رسول الله إلا لله، وما انحنى رسول الله إلا لله؛ بالله عليكم! هل سمعتم بجيش منهزم يطارد ويلاحق الجيش المنتصر؟ أيها العسكريون، أيها القادة، يا ألوية الجيوش، يا أركان حرب المعارك، في زمن خلا من المعارك إلا على الإسلام، وأهل الإسلام؛ أيها المفكرون، أيها الكتاب، أيها العباقرة، هل سمعتم عبر التأريخ بجيش منهزم يطارد الجيش المنتصر؟ فكيف تسمون ما حدث لجيش المسلمين في أحد هزيمة ساحقة وقد تعقب جيش المشركين إلى حمراء الأسد؟.
كيف تصفون جيشاً يقوده المعصوم -صلى الله عليه وسلم- بالجيش المنهزم؟ هل يُهزم جيش فيه رسول الله؟ هل يُهزم جيش يدافع عن عقيدة لا إله إلا الله؟ هل يُهزم جيش يقاتل فيه الله جل في علاه؟ عودوا إلى رشدكم، فما حدث للمسلمين في أحد، ليس هزيمة، ما حدث للمسلمين في أحد ليس هزيمة، إنما نسميه (امتحاناً) أو (إصابة)، كما سماها مولانا -جل جلاله-: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران:166].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي