لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت تصلي بين يديه، كيف ستكون صلاتك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت تتلو القرآن، كيف ستكون تلاوتك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت صائم ، كيف سيكون صومك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت تتصدق، كيف سيكون رضاك عن صدقتك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت تؤدي فريضة الحج، كيف سيكون حجك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت واقف على جبل عرفات ..
الحمد لله رب العالمين، يا رب: يا ربّ اجعل جمعنا هذا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده معصوما، ولا تدع فينا شقياً ولا محروما.
اللهم وسِّع أرزاقنا، وبارك لنا فيما أعطيتنا؛ اللهم فقِّهْنا في ديننا، وزهِّدْنا في دنيانا، وبصِّرْنا بعيوبنا؛ اللهم أحسن ختامنا، وتول أمرنا، وفرج كروبنا.
اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحشرنا في زمرة نبينا، وتحت لواء حبيبنا؛ اللهم لا تفْتِنَّا بعده، ولا تحرمنا أجره، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً؛ آمين! آمين! آمين!.
وأشهد ألا إله إلا الله، هو الواحد؛ قيل للإمام الشافعي -رضي الله عنه-: يا إمام، ما الدليل على وحدانية الله؟ فماذا قال الإمام؟ قال شيئاً عجباً،لم ينظر إلى السماء وارتفاعها، ولم ينظر إلى البحار وأمواجها، ولم ينظر إلى الأفلاك ومدارها، ولم ينظر إلى الجبال وشموخها ورسوخها، ولم ينظر إلى الشمس وشعاعها، ولم ينظر إلى الأرض واتساعها؛ إنما قال: الدليل على وحدانية الله ورقة التوت!.
ورقة التوت؟! نعم، كيف؟ كيف تكون ورقة التوت دليلاً على وحدانية الخالق؟ قال الإمام: تأكلها الدودة فتُخْرِجُها حريراً طريا، وتأكلها النحلة فتخرجها عسلاً شهيا، وتأكلها الشاة فتخرجها لبناً صفيا، وتأكلها الغزالة فتخرجها مسكاً نقيا!.
حريراً طريا، وعسلاً شهيا، ولبناً صفيا، ومسكاً نقيا! المادة واحدةٌ، والصنعة مختلفة ٌ، فمن الصانع؟ إنه الله، إنه الله؛ ورقة التوت دليل على وحدانية الحي الذي لا يموت! اختلاف الصنعة يدل على وحدانية الصانع، والصانع الحكيم هو الله، يخلق ما يشاء ويختار، أإله مع الله؟ أإله مع الله؟ أإله مع الله؟ بل هم قوم يعدلون.
(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [النمل:61-64].
أيها الموحدون: أإله مع الله؟ لا إله إلا الله؛ وأشهد أن سيدنا و نبينا ورسولنا وعظيمنا محمداً رسول الله، هو الذي يقول: "الطُّهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض؛ والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك".
سيدي يا رسول الله:
سَعِدَتْ بِطَلْعَتِكَ السَّماواتُ العُلا *** والأرضُ صارتْ جَنَّةً خضراءَ
أنتَ الَّذي قاد الجُيُوشَ مُحَطِّمَاً *** عَهْدَ الضَّلَالِ وأدَّبَ السُّفَهَاءَ
وسمَوْتَ بِالبَشَرِ الذين تعلَّمُوا *** سُنَنَ الشريعةِ فارتقَوْا سُعَدَاءَ
صلى الإله على النبي وآله الغر الأماجد، وعلى الصحابة كلهم ما خر للرحمن ساجد.
أما بعد:
فيا حماة الإسلام، وحراس العقيدة، حديثي اليوم معكم بعنوان: فأين الله؟ فأين الله؟ فأين الله؟
أيها الموحِّدون: مَن الذي يعلم السر وأخفى؟ من الذي يعلم ما في البر والبحر؟ من الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر؟ من الذي يعلم مثاقيل الجبال؟ من الذي يعلم مكاييل البحار؟ من الذي يعلم عدد قطر الأمطار؟ من الذي يعلم عدد ورق الأشجار؟ من الذي يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء؟ إنه الله! الله! الله! الحكيم، العليم، الخبير، السميع، البصير.
وَلكُلِّ صوتٍ منهُ سمعٌ حاضرٌ *** فالسِّرُّ والإعلانُ مُستويانِ
والسَّمعُ منه واسعُ الأصواتِ لا *** يخفَى عليه بعيدُها والدَّاني
وهُو البصيرُ يرى دبيبَ النَّمْلَةِ السّ *** وداءِ تحتَ الصخرِ والصوَّانِ
ويرَى مجاري القُوتِ في أعضائها *** ويرى بياضَ عُرُوقها بعيانِ
ويرى خياناتِ العُيون بلحظِها *** ويرى كذاكَ تقلُّبَ الأجفانِ
وهُو العليمُ أحاطَ علمًا بالَّذي *** في الكون مِن سِرٍّ ومِن إعلانِ
وبِكُلِّ شَيْءٍ علمُه سبحانَهُ *** فهُو المحيطُ وليس ذا نِسْيانِ
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59]، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) [آل عمران:5]، (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) [النحل:19]، (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر:19]، (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة:7].
في مساءٍ أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، وعم سكونه؛ هدأت الجفون ، ونامت العيون ، وزالت الظنون؛ وفي أطهر بقعة من الأرض، تحت جدار الكعبة المشرفة، جلس رجلان من قريش: صفوان بن أمية وعمير بن وهب، جلسا يتذاكران، ويخططان، ويدبِّران؛ وظنا أن الحي القيوم لا يعلمُ كثيرا مما يعملون.
استخفيا من الناس ولم يستخفيا من الله الذي يعلم ما يبيتانِ مما لا يرضى من القول، تذاكرا مصابهم في بدر، فقال صفوان: والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير. فقال عمير: صدقت والله! لولا دَيْنٌ عليَّ ليس له قضاء، وعيالٌ أخشى عليهم الضيعة، لركبتُ إلى محمد حتى أقتله.
اغتنم صفوان ذلك الانفعال، وأراد أن يستغل الفرصة قبل ضياعها، أراد أن يدق على الحديد وهو ما يزال حامياً وقال لعمير: عليَّ دينُك، وعيالُك عيالي، لا يسعُني شيءٌ ويعجزُ عنهم. قال عمير: فاكتم شأني وشأنك لا يعلم بذلك أحد. قال صفوانُ: أفعل.
فقام عمير وشحذ سيفَه، وسمه، ثم انطلقَ به يغذُّ السير إلى مدينة الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبعد ثلاث وصل عمير إلى هناك، وما أدراكم ما هناك؟ هناك حبيب الله محمد، هناك خليل الله محمد، هناك رسول الله محمد.
أناخَ عميرٌ على بابِ مسجد الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- متوشحا سيفه، وكان قد وصل الفاروق -رضي الله عنه- في نفرٍ من المسلمين، فقال الفاروق: عدوّ الله! واللهِ ما جاء إلا لِشَرٍّ! ودخل عمرُ على رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بخبر عمير؛ فقال النبي -صلى الله عليه- وسلم: أَدْخِلْهُ عليَّ.
فأخذ عمرُ بحمائل سيفِ عُمير وجعلها له كالقلادة، ثم دخل به على النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما رآه الرحمة المهداة -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر: أرْسِلْهُ يا عمر! أرسله يا عمر! ما كان الرسول دموياً، ولم يكن إرهابياً، ولم يكن داعية حرب كما يصوره الإعلام الأمريكي!.
رسول الله لم يصنع الصواريخ ويبيعها للقَتَلة، رسول الله لم يصنع القنبلة الذرية ويضرب بها اليابان، رسول الله لم يقم باجتياح فيتنام، ولم يحاصر العراق، ولم يحْمِ إسرائيل، رسول الله لم يضرب أفغانستان بالأسلحة المحرمة دولياً بحجة ملاحقة الإرهاب، رسول الله كان رحمة مهداة، وسراجاً منيراً، للبشر جميعاً: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107]، إلا رحمة للعالمين! إلا رحمة للعالمين!.
يَا مَنْ لهُ الأخلاقُ مَا تهْوَى العُلا *** مِنْها وَما يتعَشَّقُ الكُبَرَاءُ
زانَتْكَ في الخلُقِ العظيمِ شمائلٌ *** يُغرَى بهِنَّ ويُولَعُ الكُرَماءُ
فإذا سخَوتَ بلغتَ بالجودِ المدَى *** وفعلتَ ما لا تفعلُ الأنواءُ
وإذا عفوتَ فقادراً ومقدّراً *** لا يستهينُ بعفوِكَ الجُهَلاءُ
وإذا رحِمْتَ فأنتَ أمٌّ أو أبٌ *** هذانِ في الدُّنيا هُما الرُّحَمَاءُ
وإذا خَطَبْتَ فللمنابر هِزَّةٌ *** تعرو النَّدِيَّ وللقُلوبِ بُكاءُ
وإذا أخذتَ العهدَ أو أعطيتَه *** فجميعُ عهدِكَ ذِمَّةٌ ووفاءُ
وإذا غضبتَ فإنَّما هِي غضبةٌ *** للحَقِّ لا ضِغْنٌ و لا شَحْنَاءُ
لو أنَّ إنساناً تخيَّرَ مِلةً *** ما اختارَ إلا دينَكَ الفُقراءُ
المصلحون أصابعٌ جُمِعَتْ يَداً *** هِيَ أنْتَ بلْ أنتَ اليدُ البيضاءُ
لو كان الرسول دموياً -كما يقول الأمريكان- لأمر بقتل عمير، لو كان الحبيب إرهابياً -كما يزعم الأمريكان- لجيَّش الجيوش لغزو مكة فوراً؛ لأن عميراً خطط، ودبر، وتآمر، وحضر لاغتيال سيد البشرية جمعاء، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان رحيماً حليماً، قال لعُمر: أرْسِلْهُ يا عمر!.
ثم قال لعمير، ووجهه الكريم يتهلل ببشائر الرحمة: ما جاء بك يا عمير؟ قال عمير -وكان له ابنٌ أسير عند رسولِ صلى الله عليه وسلم-: جئت لهذا الأسير، فأحْسِنُوا به. قال مبعوث العناية الربانية: فما بالُ السيفِ في عنقك؟ قال عمير: قبَّحَها اللهُ من سيوف! وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر؟!.
فقال شمس الهداية الربانية: اصدقني يا عمير، ما الذي جاء بك؟ قال عمير: ما جئت إلا لذاك. فقال الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: بل قعدتَّ مع صفوان في الحجَر في ليلة كذا، وقلتَ له كذا، وقال لك كذا، وتعهد لك بدَيْنِك وعيالك، واللهُ حائلٌ بيني وبينك.
يا الله! يا الله! يا الله! من الذي أخبر الحبيب محمداً بما جرى؟ هل كانت لديه مخابرات ترفع له التقارير؟ هل كان يملك استخبارات تدبج له الأكاذيب؟ لا، بل أعلمَهُ الذي يعلم السر وأخفى، رب الأرض والسموات العلا، الرحمن على العرش استوى؛ وهنا صرخ عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله.
هذا أمرٌ لم يحضُره إلا أنا وصفوان، واللهِ إني لأعلم أنه ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، والحمد لله الذي هداني للإسلام؛ جاء ليطفىء النور، فرجعَ وهو شعلةُ نور، أقتبسَه من صاحب النور، صلى الله عليه وسلم.
أيها المؤمنون: سمعتم المؤامرة تحاك تحت جدار الكعبة، في ظلمة الليل لا يعلمُ بها أحد حتى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، حُبكت المؤامرةُ سراً، من الذي أعلنها؟ من الذي سمعها؟ من الذي أحاط بها؟ إنه الذي لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.
يا عبد الله: إذا أردتَّ ارتكاب معصية مختفياً عن أعين الخلق، فأين الله؟ أين الله؟ أين الله؟ ما أنت واللهِ إلا أحدُ رجلين: إن كنتَ ظننتَ أن اللهَ لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلمُ أنه يراك فلِمَ تجترئ عليه، وتجعله أهونَ الناظرينَ إليك؟ (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء:108].
دخل رجل غابةً ملتفةً أشجارُها،لا تكادُ ترى الشمس معها، ثم قال: لو عملتُ المعصيةَ الآنَ، من كان يراني؟ فسمع هاتفاً بصوت يملأ الغابة ويقول: (ألَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) [الملك:14].
يا ابن آدم: إذا أردت انتهاك حرماتِ الله في الظلمات، وعمل المعاصي في الخلوات، و خوض الفواحش في الفلوات ، بعيداً عن أعين المخلوقات؛ فاسأل نفسك حينها: أين الله؟ أين الله؟ أين الله؟ هل سألت نفسكَ هذا السؤال؟!.
في الصحيح من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال قالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لأعلمَنَّ أقواماً من أمتي يومَ القيامةِ يأتون بحسناتٍ كأمثالِ الجبال بيضاً، يجعلُها اللهُ هباءً منثورا"، قال ثوبان: صِفْهم لنا. جلِّهِمْ لنا كي لا نكون منهم يا رسول الله. قال: "أما إنهم إخوانُكم ومن جلدتِكم، ويأخذون من الليلِ كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارمِ اللهِ انتهكوها".
خرج الفاروق -رضي الله عنه-، الفاروق الذي يتقازم أمامه أصحاب الجلالة والفخامة والسمو، الفاروق الذي يغضب من ذكر سيرته أصحاب السعادة والمعالي، خرج ليلةً من الليالي ليتتبع أحوال الأمة، يتفقد أحوال الرعية،لم يكن ينام، ولم يكن يهدأ له بال، حتى تنام وتهدأ رعيته.
كان يقول: إذا نمت النهار أضعت رعيتي، وإذا نمت الليل أضعت نفسي! إذا نمت النهار أضعت رعيتي، وإذا نمت الليل أضعت نفسي! إذا عثرت بغلة في العراق خشيت أن يحاسبني الله عليها: لِمَ لَمْ تعبِّد لها الطريق يا عمر؟! بغلة! عمر يخاف أن تتعثر بغلة، وفي زماننا هذا تتعثر أمة بأكملها، وحكامها غافلون، تتعثر أمة وزعماؤها على كراسيهم جاثمون!.
ولما تعب عمر من طول المسير، لما تورمت قدماه من المشي، اتكأ على جدارٍ ليستريح، فما الذي حدث؟ إذا بامرأةٍ تقولُ لأبنتها: يا بُنَيَّتِي، امذقي اللبنَ بالماءِ ليكثرَ عند البيع. فماذا قالت البنت؟ قالت: إن عمرَ أمرَ مناديه أن ينادي أن لا يشابَ اللبنُ بالماء. فقالتِ الأم: يا ابنتي قومي فإنك بموضعٍ لا يراكِ فيه عمرُ ولا منادي عمر. فقالتِ البنتُ المستشعرةُ لرقابةِ الله: أي أماه؛ فأين الله؟ فأين الله؟ واللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملأ وأعصيه في الخلاء.
أي أماه؛ فأين الله؟ فأين الله؟ واللهِ ما كنتُ لأطيعَه في الملأ وأعصيه في الخلاء! إنها فتاة لم تتخرج من بيوت الموضة، ولم تكن من عارضات الأزياء، ولم تخض مسابقة لاختيار ملكة الجمال، بل تخرجت من مدرسة العقيدة المحمدية.
أيها المؤمنون الأعزاء: هنا مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول فيها الحبيب: البر لا يبلى والذنب لا ينسى والدَّيَّان لا يموت.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد ألا إله إلا الله، ولي الصالحين؛ واشهد أن محمداً عبد الله ونبيه ورسوله، إمام المتقين، وخاتم الرسل أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه أجمعين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، أيتها الأخوات المؤمنات: أواصل مع حضراتكم البث المباشر لموضوع اليوم، وأود أن أكرِّسَ مفهوم المراقبة في اتجاهين متوازيين: مراقبة الله تعالى في الطاعة، ومراقبته قبل المعصية.
أما الاتجاه الأول فهو مراقبة المولى الرقيب، الحسيب، العليم، السميع، البصير، في عمل الطاعات، نعم أيها المؤمن، نعم أيتها المؤمنة! مراقبة الله تعالى وأنت تطيعه، كيف ذلك؟ كيف نراقب الله في الطاعة؟ "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت تصلي بين يديه، كيف ستكون صلاتك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت تتلو القرآن، كيف ستكون تلاوتك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت صائم ، كيف سيكون صومك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت تتصدق، كيف سيكون رضاك عن صدقتك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت تؤدي فريضة الحج، كيف سيكون حجك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت واقف على جبل عرفات، كيف سيكون حالك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت تتعامل مع الناس، كيف سيكون خلقك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك وأنت تحكم في الناس، كيف سيكون حكمك؟ لو استشعرت رقابة الله عليك في كل أحوالك، لكان لحياتك طعم آخر، ولكان لوجودك معنى آخر!.
سمع الإمام أحمد بن حنبل –رضي الله عنه- أن تلميذاً من تلاميذه يقوم الليل كله، فيقرأ القرآن كاملاً في قيامه، فاستغرب الإمام، تعجب لحال تلميذه، كيف يقرأ القرآن كاملاً في ليلة واحدة؟ وأراد أن يعلم هذا التلميذ الورع درساً في رقابة الله.
قال الإمام لتلميذه: يا بني؛ علمت أنك تقرأ القرآن كله في ليلة واحدة أثناء قيامك! قال التلميذ: هو كذلك يا إمام، أسأل الله القبول. قال الإمام: إذا قمت الليلة يا بني؛ فاقرأ القرآن وكأنك تقرأه عليَّ،
قال التلميذ: سمعاً وطاعة يا إمام!.
فانقلب التلميذ لقيامه تلك الليلة، وجعل يتلو القرآن وهو يستشعر وقوف أستاذه أمامه، تخيل أن الإمام أحمد يسمعه، فأحسن القراءة، وأتم التلاوة؛ ولما أصبح الصباح، انطلق إلى الإمام، فبادره الإمام بالسؤال: كم قرأت الليلة من القرآن يا بني؟ قال التلميذ: يا إمام؛ أدركني الفجر ولم أكمل إلا عشرة أجزاء! قال الإمام:إذا قمت الليلة يا بني؛ فاقرأ القرآن وكأنك تقرأه على الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-.
فانقلب التلميذ لقيامه تلك الليلة، وجعل يتلو القرآن و هو يستشعر وقوف الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- أمامه، تخيل أن الرسول يسمعه، فأحسن القرآءة، وأتم التلاوة، ولما أصبح الصباح، انطلق إلى الإمام، فبادره الإمام بالسؤال: كم قرأت الليلة من القرآن يا بني؟ قال التلميذ: يا إمام، أدركني الفجر ولم أكمل جزء عم! قال الإمام: إذا قمت الليلة؛ فاقرأ القرآن وكأنك تقرأه على الله -جل في علاه-.
فانقلب التلميذ لقيامه تلك الليلة، وجعل يتلو القرآن وهو يستشعر وقوفه بين يدي ملك الملوك -جل جلاله-، فأحسن القراءة، وأتم التلاوة، وبكى بكاء الثكالى، ولما أصبح الصباح، انطلق إلى الإمام، فبادره الإمام بالسؤال: كم قرأت الليلة من القرآن يا بني؟ قال التلميذ: يا إمام؛ أدركني الفجر ولم أكمل الفاتحة! يا إمام! أدركني الفجر ولم أكمل الفاتحة! يا الله! يا الله! يا الله! يقوم الليل كله بفاتحة الكتاب! إنها الرقابة، إنها رقابة الله!.
أما الاتجاه الآخر فهو أن تراقب الله تعالى قبل أن تعصيه يا عبد الله، واعلم علم اليقين أن عينَ اللهِ تلاحقُك أين ذهبت، وفي أي مكان حللت، في ظلامِ الليل، وراء الجدران، خلف الحيطان، في الخلوات، في الفلوات، ولو كنتَ في داخلِ صخورٍ صم؛ لو استشعرتَ ذلك لاتقيتَ اللهَ ظاهراً وباطنا، ولكانَ باطنُك خيراً من ظاهرِك.
إذا مَا خلوْتَ الدهرَ يومَاً فلا تَقُلْ *** خلَوتُ ولكنْ قلْ عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَ اللهَ يغفلُ ساعةً *** ولا أنَّ ما تُخفيه عنه يَغيبُ
أعرابية مؤمنة راودها رجل عن نفسها ثم قال لها: ما يرانا أحد إلا الكواكب. فقالت التقية المؤمنة: وأين مُكَوكِبُها يا رجل؟ حالُها: فأين الله؟ أين الله؟ أين الله؟ أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك إذ تبيت ما لا يرضى من القول؟!.
أيا من يدعّي الفهمْ *** إلى كم يا أخي الوهمْ
تعبِّي الذنبَ بالذنبْ *** وتُخطي الخطأَ الجَمْ
أما بان لك العيبْ؟ *** أما أنذرك الشيبْ
وما في نصحه ريبْ *** ولا تنعُ فقد صمْ.
أما نادى بك الموتْ *** أما أسمعك الصوتْ
أما تخشى من الفوتْ *** فتحتاطَ وتهتمْ
فكم تسكرُ في السهوْ *** وتختالُ من الزهوْ
وتنصبُّ إلى اللهوْ *** كأن الموتَ ما عمْ
أتسعى في هوى النفسْ *** وتختالُ على الأنسْ
وتنسى ظلمةَ الرمسْ *** ولا تذكرُ ما تمْ
ستذري الدمَ لا الدمعْ *** إذا عاينتَ لا دمعْ
يقي في عرصة الجمعْ *** ولا خالٌ ولا عمْ
كأني بك تنحطْ *** إلى اللحدِ وتنغطْ
وقد أسلمك الرهطْ *** إلى أضيق منسمْ
هناك الجسمُ ممدودْ *** ليستأكله الدودْ
إلى أن ينخر العودْ *** ويمسي العظمُ قد رمْ
فبادرِ أيها الغمرْ *** لما يحلوُ به المرْ
فقد ولى بك العمرْ *** وما أقلعت عن ذمْ
وزود نفسَك الخيرْ *** ودع ما يعقبُ الضيرْ
وهيِّئْ مركب السيرْ *** وخفِّفْ لجة اليمْ
أيها المؤمنون: ارفعوا أكف الضراعة إلى الله، وأمِّنوا على دعائي.
اللهم يا من لا تراه العيون، ولا تخالطهُ الظنون، يا من دبر الدهور، وقدر الأمور، وعلم هواجسَ الصدور؛ يا من عليه يتوكل المتوكلون، أقلِ العثرةَ، واغفرِ الزلةَ، وجُد بحلمِك على من لا يرجُو غيرَك، ولا يقصد سواك.
اللهم هب لنا فرجاً قريبا، وصبراً جميلا، وكن لنا ولا تكن علينا، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وتولَّ أمرنا لا إله إلا أنت، أنتَ حسبُنا.
اللهم لا تجعل بيَننا وبينَك في رزقنا أحداً سواك، اللهم اجعلنا أغنى خلقِكَ بك، وأفقرَ عبادِكَ إليك، وهب لنا غِنى لا يطغينا، وصحةً لا تلهينا، وأغْنِناً اللهم عن من أغنيته عنا.
اللهم أصلح مَن في صلاحه صلاحٌ للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين.
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، وأجعل تدبيره تدميره يا حي يا قيوم يا عزيز.
اللهم أنت خلقتَ أنفسَنا، وأنت تتوفاها، فزكِها أنت خيرُ من زكاها، أنتَ وليها ومولاها، لك مماتها ومحياها.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي