موقف المسلم من الفتن (2) الحذر من الشائعات والتثبت من الأخبار

عمر القزابري

عناصر الخطبة

  1. ما بال الأمة اليوم تتخبط وكأنها في ظلام!
  2. تحذير القرآن الكريم من أعداء الأمة وكيدهم
  3. مفاسد الوقيعة بين المسلمين وبثّ الفُرقة والتناحر
  4. خطر الشائعات وما يترتب عليها من انفلات وفتن
  5. من أعظم أسباب مشكلتنا اليوم
  6. منهج الكبار الأخيار التثبت عند ورود الأخبار
  7. كم أوذي المسلمون بالإشعاعات المغرضة!!

الخطبة الأولى:

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أن أنفسهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة، حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

 معاشر الصالحين: إن الله شرع دينه بإنهاج سبله، وإيضاح معالمه، وإظهار فرائضه، وبعث رسله على خلقه دلالة لهم على ربوبيته، واحتجاجاً عليهم برسالاته، ومقدماً إليهم بإنذاره ووعيده؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ثم ختم بنبيه صلى الله عليه وسلم وحيه، وقفى به رسله، وابتعثه لإحياء دينه الدارس، مرتضياً له على حين انطمست له الأعلام مختفية، وتشتت السبل متفرقة، وعفت آثار الدين دراسة، وسطع وهج الفتن واعتلى قتام الظلم، واستنهد الشرك، وأسدف الكفر، وظهر أولياء الشيطان لطموس الأعلام، ونطق زعيم الباطل بسكتة الحق، واستطرق الجور، واستنكح الصدوف عن الحق، واستضرم لقاح الفتن، وطبقت الأرض ظلمة كفر وغيابة فساد، فصدع بالحق مأموراً، وبلّغ الرسالة معصوماً، ونصح الإسلام وأهله دالاً لهم على المراشد، وقائداً لهم إلى الهداية ومنيراً لهم سبل الغواية، زاجراً لهم عن طريق الضلالة، محذراً لهم الهلكة، موعزاً إليهم في التقدمة.

 ضارباً لهم الحدود على ما يتقون من الأمور ويخوضون، وما إليه يسارعون ويطلبون، صابراً نفسه على الأذى والتكذيب، داعياً لهم بالترغيب والترهيب، حريصاً عليهم متحنناً على كافتهم، عزيزاً عليه عنتهم رءوفاً بهم رحيماً، تقدمه شفقته عليهم وعنايته، يرشدهم إلى تجريد الطلب إلى ربه فيما بقاء النعمة عليهم وسلامة أديانهم، وتخفيف أواصر الأوزار عنهم حتى قبضه الله إليه -صلى الله عليه وسلم- ناصحاً أميناً مأموناً، قد بلّغ الرسالة، وأدى النصيحة، وقام بالحق، وعدَّل عمود الدين حين اعتدل ميله، وأذل الشرك وأهله، وأنجز الله له وعده، وأراه صدق أسبابه في إكماله للمسلمين دينه، واستقامة سنته فيهم، وظهور شرائعه عليهم، قد أبان لهم موبقات الأعمال ومفظعات الذنوب، ومهبطات الأوزار، وظُلَم الشبهات، وما يدعو إليه نقصان الأديان، وتستهويهم به الغوايات.

جاهد -صلى الله عليه وسلم-، وكافح غير مدخر لهم نصحًا، ولا مبتغي في إرشادهم غُنمًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.

قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾[المائدة: 3]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تركتكم على البيضاء ليليها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

"على البيضاء" أي: على الطريق الموصل لله، والبياض هنا مشعر بالوضوح والبيان والجلاء فلا غموض يكتنفها ولا لباس يحتوشها.

رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتركنا على البيضاء، فما بال الأمة اليوم تتخبط وكأنها في ظلام! وما بال الاختلاف دبّ إليها من كل الجهات! وقد تُركت على البيضاء! ولماذا يقتل بعضها بعضًا وقد تُركت على البيضاء؟! ولماذا تُقطع الرءوس وتُنتهك الأعراض وقد تُركت على البيضاء؟! ولماذا تفترق إلى فرق وأحزاب وشيع وقد تُركت على البيضاء؟!

شِيَع وفرق وأحزاب بالآلاف، والكل يدّعي الوصل، ولكن الوصل لا يتحقق إلا عند المتعلقة قلوبهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم- حبًّا ومتابعة.

كان لنا في الخطبة السابقة حديث عن الفتنة، أسبابها وبعض علاجاتها، ولأن الأمر عظيم والخطب جسيم، فإن الأمر يقتضي منا مزيد بيان؛ وذلك سدًّا لأبواب الفتن ومطاردة لبواعث الإحن والمحن حتى ترتاح النفوس ويطمع اليؤوس، وحتى تُصان الحرم، وترتفع الهمم، وحتى يمشي المؤمن في أرض الله وهو يشكل مصدرًا للسلام، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا تشرَّب معاني الدين، وعكف على القرآن المبين.

أيها الأحباب: لأمر ما جاءت آية الدلالة على سبب الفتنة في سورة النور ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ(63)﴾ أي عن أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:63]

فأمرُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نورٌ ومخالفته ظلامٌ، قال تعالى عن رسوله -صلى الله عليه وسلم-: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ [المائدة:15]، فالنور رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والكتاب الذي جاء به نور، والإعراض عن هذين المصدرين وقوع في الظلمة، وانغماس في الغمة.

لقد حذرنا القرآن الكريم من أعداء الأمة، وأخبرنا بأنهم يريدون لنا الفتنة، قال تعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ [التوبة: 47]، وقال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ﴾[المائدة: 49]، وقال تعالى: ﴿مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾[البقرة: 105]، وقال تعالى عن اليهود: ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾[المائدة: 64] "يسعون" جاءت بالمضارع إشارة إلى الدوام والاستمرار.

قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الشيطان قد يأس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم" (رواه مسلم).

يعني: أنه لم ييأس من التحريش، ولذلك حرَّك جنوده من أجل هذا الغرض، وهو الوقيعة بين المسلمين وبثّ الفُرقة بل والاقتتال والتناحر في صورة مؤلمة من صور الانخراط والتردي.

عَنِ الْبَرَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-, يَنْقِلُ التُّرَابَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، حَتَّى اغْمَرَّ بَطْنُهُ، أَوِ اغْبَرَّ بَطْنُهُ، يَقُولُ: "وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا إِنَّ الأُولَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ: أَبَيْنَا أَبَيْنَا.. يرفع بها صوته ويرددها يقول: "أَبَيْنَا أَبَيْنَا" (متفق عليه).

هذا هو الشعار الذي ينبغي أن تتبناه الأمة جماعات وأفرادًا، كلما أرادوا فتنة أبينَا أبينا.. فالمسلمون من منطلق إيمانهم وانتماءهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينبغي أن يكونوا أعزة لا يساقون إلى الحتوف وهم ينظرون، نحن أمة القرآن، نحن أمة القيادة، نحن أمة العزة، نحن أمة الثبات والتثبت ليس من سماتنا العجلة، وهذا أمر موجّه بشكل خاص للشباب شباب الهدى والالتزام، إياكم والعجلة فإن العجلة في كل شيء موطئ زلوق ومركب زهوق.

لقد نجح أعداء الله في بثّ الفرقة بيننا من عدة منافذ، من هذه المنافذ منفذ الشائعات، ولا يخفى على لبيب عاقل خطر الشائعات وما يترتب عليها من انفلات وفتنة بل ربما وصلت بالناس إلى الاقتتال والتناحر، فما هو موقف المسلم نشر الشائعات، وهل تركنا ديننا سدى أمام هذا الأمر الخطير؟ لا والله فقد بيَّن وحذَّر وأنذر ووعد وأوعد.

واليوم ومع هذا التطور الحاصل، وهذه الوسائل التي سهَّلت نشر الخبر بسرعة وسهولة أصبح الواحد منا مطالبًا بالتحري والمراعاة، وألا يكون وسيلة لتمرير أيّ كلام وأيّ خبر دون تروٍّ ودون استيقان، تأتي رسالة مثلاً فيها خبر كذا وكذا، فعل العالم الفلاني، قال كذا وكذا، أو الدولة الفلانية صدر عنها كذا وكذا، فينتشر الخبر في فترة وجيزة في العالم كله، ولا يكلف الإنسان نفسه عناء التثبت والتيقن، مع العلم أن العبد مسئول عن كل ما يفعل قولا وكتابة وإخبارًا وربنا يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ فتثبتوا ﴿أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾[الحجرات: 6].

جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرّا وجهرا آمين آمين، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله العزيز الغفار، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أحمده على نعمه الغزار ومننه الكثار، والصلاة والسلام على من عرفنا بالله، فلا نضل ولا نحتار سيدنا محمد المختار وعلى آله وأصحابه الأنجم الزهر الأبرار وعلى تبعهم إلى يوم القرار.

معاشر الأخيار: لقد حاربت الشريعة الإسلامية الشائعات المضللة بطرق عديدة، منها محاربة الكذب؛ فإن الشائعات تبدأ أولاً من الذين يصغون الكلام المخالف للواقع، ويلبسونه ثوب الواقع تزويرًا وتدليسًا مما يعد كذبًا محرمًا في الشريعة؛ حيث تواترت النصوص بتحريم الكذب قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119]، والأمر بالشيء فيه نهي عن ضده كما هو معلوم.

ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذابا" (أخرجه البخاري ومسلم).

وفي حديث آخر يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الصدق طمأنينة، والكذب ريبة" (أخرجه الترمذي).

ومن علامات المنافق -كما هو معلوم- أنه إذا حدَّث كذب، وإن كان الكذب محرمًا على الإطلاق يستحق صاحبه الإثم والعقوبة من الله، فإن الكذب الذي ينتشر بين الناس يكون أعظم إثمًا وأشد جرمًا؛ لما فيه من زعزعة المجتمعات وإثارة النعرات ونشر العداوات، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى في المنام أنه "مُرَّ به مع مَلَكين على رجل مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد"، والكلوب هو حديدة معطوفة الرأس يعلق عليها اللحم، وقال ابن بطال: "الكلوب هو الذي يتناول به الحداد الحديد من النار".

وإذا أخَّر قائم عليه بكلوب من حديد، فإذا هو يأتي أحد شقي وجهه، فيشرشر شدقه –شرشر الدم- إلى قفاه ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، قال: وربما قال أبو رجاء: فيشق قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى قال: قلت: "سبحان الله ما هذان؟"

إلى أن قال: "وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق" تنتشر بالدنيا. (رواه البخاري).

فكيف لا يحتاط الإنسان بعد هذا الوعيد الشديد، وكيف لا يتورع قبل أن يتلفظ بكلمة أو ينطق بخبر، ولذلك يجب على العبد أن يحذر من إطلاق كلمة تكون سببًا في إثارة الشائعة، جاء في الحديث "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها" لا يتثبت "يذل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب" (رواه البخاري ومسلم).

وكما حاربت الشريعة اختلاق الشائعات، فقد حاربت كذلك ترويجها؛ من خلال النهي عن نقل الكلام غير الموثوق به، كما جاء في الحديث وهو حديث عظيم: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما سمع" (رواه مسلم وأبو داود).

حديث عظيم في طياته الخير العميم، ولو أخذنا به وعملنا بمحتواه لارتقينا.

من أعظم أسباب مشكلتنا اليوم: أننا نحدّث بكل ما نسمع دون التثبت، ودون توثيق ودون تحقيق، بل ونبني على ما نسمع أحكامًا وتصورات، وقد يكون الذي سمعنا لا وجود له في عالم الواقع.

وهذا هو الحاصل في عالم الفضائيات والإنترنت ووسائل الاتصال في الغالب؛ حيث تنقل الأخبار التي في الغالب مردّها إلى الاختلاق، فأغلب هذه القنوات والوسائل تعتمد في دخلها على الكلام، وأصحابها لا علاقة لهم بحلال ولا حرام، المهم عندهم هو المال ولو على حساب الأعراض؛ لذلك فإن الواجب على المؤمن التثبت وعدم تصديق كل ما يقال، وانظروا إلى نبي الله سليمان -عليه السلام- عندما له الهدهد: ﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ﴾ [سبأ: 22] الأنباء، قال له: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾[سبأ: 27].

هذا هو منهج الكبار الأخيار: التثبت عند ورود الأخبار، يدخل في ذلك هذه الرسائل التي تأتي اليوم مزيلة بجملة "انشرها تؤجر"، وقد تكون فيها الكذب على رسول الله، ورأينا كثيرًا من الأحاديث التي تنشر موضوعة، بل من اختلاق الشيعة، ومن اختلاق اليهود، ومعلوم أن الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو من أعظم وأخطر أنواع الكذب، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمَّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ".

والأدهى من ذلك عندما تجد في هذه الرسائل، أرسلها إلى عشرة، فإن فعلت فستسمع خبرا طيبًا، أو تأتيك ترقية، وإن لم تفعل، فانتظر المصائب والأخبار السيئة في صورة من صور الغباء، وإن كانت هذه الهواتف تسمى بالذكية، لكنها في الغالب تنشر الغباء.

الذي لا يتناسب مع مقام الانتماء مع أمة سيد الأنبياء، ثم إن أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأمور المتعلقة بالدين لا ينبغي أن تبتذل، ولا أن تهان، بل الواجب أن تُصان، ومن صور ابتزازها وإهانتها عدم التأكد من صحتها، ثم إرسالها في أوقات غير مناسبة كوقت عمل الإنسان أو وقت نومه.

ثم قبل أن ترسل هذه الرسائل: سل نفسك، هل أنا أطبق هذا الذي سأرسله؟ إن أحاديث نبوية أو أحكامًا شرعية لأن الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)﴾ [الصف:3].

والكتابة كالقول وقد قيل: "القلم أحد اللسانين".

أيها الكرام: إن في ترويج الشائعات إظهارًا للمنكرات؛ لأن المرء عندما يسمع عن خلق كثير بأنهم يفعلون منكرًا معينًا يخفّ استنكار هذا الفعل في قلبه، مما يحتمل معه أن يصيب هذا الإثم، وأن يقترف هذا العمل وأن يقدم عليه.

ولذلك جعل الله ترويج الشائعات من إشاعة الفاحشة كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور:19].

قال ابن كثير: "هذا تأديب ثالث لمن سمع شيئاً من الكلام السيئ, فقام بذهنه شيء منه، وتكلم به فلا يكثر منه ولا يشيعه ويذيعه، ولا يتكلم به ولا يكثر منه ولا يشيعه، ولا يذيعه، فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور:19].

لقد امتدت الإشاعة -أيها الأحباب- حتى آذت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو أطهر وأعظم إنسان، وذلك كما هو معلوم في حادثة الإفك، وعمت بسببها الفتنة، وكان وراء اختلاقها المنافقون، كما هو معلوم، لكن الله عاب على الذين روَّجوها ونشروها، بل عاتبهم عتابًا شديدًا، قال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16)﴾ [النور:14- 16].

وما أجمله من تعبير ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ مع أن التلقي يكون بالأُذن؛ لأنهم يسمعون بأذانهم.

ثم يتكلمون به بألسنتهم مباشرة بدون تفكير في صحته، فكأنهم يتلقونه باللسان مباشرة بدون مرور على أذن تسمع أو عقل يفكر.

ولقد اعتمد الكفار من قديم أسلوب الإشاعة لتقويض الإسلام من ذلكم مثلاً: أنهم لما هاجر الصحابة الكرام من مكة إلى الحبشة، وكانوا في أمان وسعة، أشاع الكفار –أي: كفار قريش- أشاعوا أنهم أسلموا يعني كفار قريش ادعوا الإسلام، فرجع بعض الصحابة من الحبشة، وتكبدوا عناء السفر ومخاطر الطريق حتى وصلوا مكة، فوجدوا أن الأمر مجرد إشاعة، فتلقاهم الكفار بالتعذيب والسجن والتنكيل.

والإشاعة -أيها الأحباب- صناعة شيطانية محضة، تجلى ذلك في غزوة أحد؛ لما استشهد مصعب بن عمير -رضي الله عنه- فصاح الشيطان: إن محمدًا قد قُتل، فكان لهذه الإشاعة وقع كبير في قلوب الصحابة حتى تراجع الكثير منهم وأصابهم بلاء عظيم.

ثم إن المؤمن الصادق -أيها الأحباب- هو الذي يكون منشغلاً بربه، واضعًا نصب عينيه قبره وآخرته، فلا رغبة لديه في قيل وقال، وقد جاء في الحديث "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكره لكم: قيل وقال وكثرة السؤال" أي: السؤال فيما لا يفيد كالسؤال عن العمر، أين تذهب… هذه الألوان من ألوان التحقيق كلها مردها إلى الخراب "وكثرة السؤال وإضاعة المال"(رواه البخاري).

ولله در القائل:

إن كنت تبغي الذي أصبحت تظهره *** فاحفظ لسانك واخش القال والقيلا

ما بال عبدٌ سهام الموت ترشقه *** يكون عن ربه بالناس مشغولا؟!

اللهم أصلح أحوالنا واجعل بطاعتك اشتغالنا وإلى الخير مآلنا..


تم تحميل المحتوى من موقع