فتنة المسيح الدجال

ناصر بن محمد الغامدي
عناصر الخطبة
  1. عِظم فتنة الدجال .
  2. صفاته .
  3. مكان خروجه وتنقُّله وإسراعه .
  4. أتباعه .
  5. نماذج من الخوارق التي يصنعها .
  6. زمان لبوثه في الأرض .
  7. تمحيص المؤمنين من غيرهم بفتنته .
  8. نزول عيسى عليه السلام وقتله بيده .
  9. العصمة من فتنته .

اقتباس

ولقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الدجال، فقد ترك أمته على مثل البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فلم يدع -صلى الله عليه وسلم- خيراً إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شراً إلا حذَّرَها منه؛ ومن جملة ما أنذر منه وحذر: فتنة المسيح الدجال؛ لأنها أعظم فتنة تواجهها الأمة إلى قيام الساعة، وكان كل نبي يُنذِر قومَه الأعورَ الدجال، إلا أن النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- اختُص بزيادة التحذير والإنذار..

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:71 -72].

أما بعد، فيا أيها الناس: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تبارك وتعالى- في السر والعلن، والتمسك بهديه وشرعه، والوقوف عند حدوده وأوامره ونواهيه، (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ) [الحج:32].

عباد الله: مع مرور السنين، وتعاقب الأيام والأعوام، تكثر على المسلمين الفتن، وتعظم المحن، فيرقق بعضها بعضاً، ولا تقوم الساعة حتى يتعاقب على المسلمين فتن ممحصة، وابتلاءات ماحقة، يمحق الله -تعالى- بها الكافرين، ويثبت بها المؤمنين.

نعم -عباد الله- إن بين يدي الساعة سنوات شداد يخوَّن فيها الأمين، ويُؤتمن الخائن، ويُصَدَّقُ فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، يصبح المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، تتقلَّب الموازين، وتختل الفطر، ويكثر الشر، (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ) [العنكبوت:2 -3]، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 142].

وهناك فتنة عظمى، وبلية كبرى، ستمر على الناس طال الزمان أو قصر، ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة من فتنة إلا وهي تضع لها؛ لشدتها وهولها، تلكم -يا عباد الله- هي فتنه المسيح الدجال، وما أدراكم ما المسيح الدجال؟! منبع الكفر والضلال، وينبوع الفتن والأوجال، قد أنذرت به الأنبياء أممها، وحذرت منه أقوامها، ونعتته بالنعوت الظاهرة، ووصفته بالأوصاف الباهرة، وحذر منه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأنذر؛ بل إنه ما كان يخاف على أمته أمراً أعظم من الدجال؛ وذلك لعظم فتنه، وكبر بلية المسلمين به.

عن النواس بن سمعان -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- ذكر الدجال ذات غداة، فخفض فيه ورفع، حتى ظنناه في طائفة النخل، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: "ما شأنكم؟" قلنا: يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت، حتى ظنناه في طائفة النخل. فقال: "غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم" رواه مسلم وغيره.

وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يتخوفون الدجال، ويستعيذون بالله من فتنته العظيمة التي قال عنها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما كانت ولا تكون فتنة حتى تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال، وما من نبي إلا وحذر قومه الدجال" رواه الحاكم بسند صحيح عن جابر -رضي الله عنه-.

والدجال رجل من بني آدم له صفات كثيرة جاءت بها الأحاديث النبوية الشريفة لتعريف الناس بحقيقته، وتحذيرهم من شره؛ حتى إذا خرج عرفه المؤمنون الصادقون فلا يفتنون به؛ بل يكونون على علم بصفاته التي أخبر بها رسول الأمة -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -جل في علاه-.

وهذه الصفات تميزه عن غيره من الناس، فلا يفتن به إلا الجاهل الذي سبقت عليه الشقوة والعذاب من الله، نسأل الله -تعالى- العصمة من كيده وفتنته.

ومن هذه الصفات التي أخبر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه: "شاب أحمر، قصير أفحج، جعد الرأس، أجلى الجبهة، عريض النحر، ممسوح العين اليمنى، وعينه اليسرى عليها لحمة غليظة، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مسلم يكتب أو لا يكتب، وهو عقيم لا يولد له".

وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه -صلى الله عليه وسلم- ذكر الدجال بين ظهراني الناس، فقال: "إن الله ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى؛ كأن عينه عنبة طافية" متفقٌ عليه.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وأما مسيح الضلالة فإنه أعور العين، أجلى الجبهة، عريض النحر، فيه دفأ -أي: انحناء- كأنه قطن بن عبد العزى". قال يا رسول الله! هل يضرني شبهه؟ قال: "لا، أنت امرؤ مسلم، وهو امرؤ كافر" رواه أحمد.

وعن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدجال ممسوح العين، مكتوب بيه عينيه كافر" ثم تهجاها: "ك ف ر، يقرؤه كل مسلم" متفقٌ عليه. قال الإمام النووي: والذي عليه المحققون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقية، جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله، يظهرها الله -تعالى- لكل مسلم، كاتب وغير كاتب، ويخفيها عمَّن أراد شقاوته وفتنته.

أيها المسلمون: والدجال يخرج من جهة المشرق؛ من خرسان، من يهودية أصبهان، ثم يسير في الأرض فلا يترك بلداً إلا دخله، إلا مكة والمدينة فلا يستطيع دخولهما؛ لأن الملائكة تحرسهما. وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خرسان، يتبعه أقوام كأن وجوهم المجان المطرقة" رواه الترمذي وحسنه، وأحمد وابن ماجه.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفاً من اليهود" رواه أحمد وصححه الحافظ ابن حجر -عليهما رحمة الله-.

وأصبهان: بلد في المشرق، يعرف هذه الأيام بشهرستان، وبها حَرَّة يقال لها اليهودية، يخرج منها الدجَّال، فإذا خرج لم يدع بلداً إلا دخله، ما عدا مكة والمدينة؛ فإنهما محروستان منه، محرَّمتان عليه، فقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن الدجال أنه يقول: "وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطَيْبة فهما محرَّمتان عليَّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحداً منهما استقبلني ملَك بيده السيفُ صَلْتَاً يصدُّني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها" رواه مسلم.

وثبت في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: "أن الدجال لا يدخل أربعة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الطور، والمسجد الأقصى".

عباد الله: وأكثر أتباع الدجال من اليهود والعجم والترك، وأخلاط من الناس غالبهم الأعراب والنساء؛ عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة" رواه مسلم.

وعن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال لها خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوهم المجان المطرقة" رواه الترمذي، وهو حسن.

قال ابن كثير -رحمة الله عليه-: والظاهر أن المراد بهؤلاء أنصار الدجال من الترك، وإنما يكثر أتباعه من الأعراب؛ لغلبة الجهل عليهم؛ ولما جاء في حديث أبي أمامه -رضي الله عنه- من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فناره جنة وجنته نار، فمن ابتلى بناره فلْيَسْتَغِثْ بالله، ولْيقرأ فواتح الكهف، فتكون عليه برداً وسلاماً، كما كانت النار على إبراهيم.

وإن من فتنته أن يقول لأعرابي: أرأيتَ إن بعثتُ لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم. فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه، فيقولان: يا بنيَّ اتْبَعْهُ فإنه ربُّك.

وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها وينشرها بالمِنشار، حتى يلقى شقتين ثم يقول: انظروا إلى عبدي هذا، فإني أبعثه الآن، ثم يزعم أن له ربا غيري! فيبعثه الله، ويقول له الخبيث: من ربك؟ فيقول: ربي الله، وأنت عدو الله، أنت الدجال، والله ما كنت بعد أشد بصيرة بك منى اليوم" رواه ابن ماجه، وهو صحيح.

وأما النساء فحالهن أشد من حال الأعراب؛ لسرعة تأثرهن، وغلبة الجهل عليهن، فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل الدجال في هذه السَّبِخة بمر قناة، فيكون أكثر من يخرج إليه النساء، حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته فيوثقها رباطاً مخافة أن تخرج إليه، ثم يسلط الله المسلمين عليه فيقتلونه ويقتلون شيعته، حتى إن اليهودي ليختبئ تحت الشجرة أو الحجر، فيقول الحجر أو الشجرة للمسلم: هذا يهودي تحتي فاقتله" رواه أحمد بسند صحيح.

أيها المسلمون: وفتنة الدجال أعظم الفتن منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة، وذلك بسبب ما يخلق الله -تعالى- معه، ويجريه على يديه من الخوارق العظيمة التي تبهر العقول، وتحير الألباب، ليبتلي الله -سبحانه وتعالى- عباده، فيَمِيز المؤمن من الكافر، بعدله ورحمته. قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال"؛ رواه مسلم.

وعن حذيفة -رضي الله عنه- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان: أحدهما رأي العين ماءٌ أبيض، والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه ناراً وليُغمِض ثم ليطاطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماءٌ باردٌ" رواه مسلم.

ولقد جاءت الأحاديث النبوية الصحيحة ببيان الخوارق التي مع الدجال، منها حديث النَّواس بن سمعان -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في وصف الدجال: "إنه خارج خله بين الشأم والعراق، فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا". قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوماً؛ يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم". قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له قدره".

قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ قال: "كالغيث استدبرته الريح، فيأتي عل القوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا، وأسبغه ضروعاً، وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخرِبة فيقول لها: أخرجي كنوزك. فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئا شباباً، فيضربه بالسيف، فيقطعه جزلتين؛ رمية الغرض، ثم يدعوه، فيقبل ويتهلل وجهه يضحك" رواه مسلم.

وجاء في رواية البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-: "أن الدجال يأتي وهو مُحرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل، وهو خير الناس، أو من خيار الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثه. فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييتُه هل تشكُّون في الأمر؟ فيقولون: لا. فيقتله، ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة منى اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه".

عباد الله: ولا يزال الدجال بعد خروجه طوال الأربعين يوماً التي أخبر عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- يعيث في الأرض فساداً، يضل به الله الكافرين والمنافقين، ويثبت به المؤمنين، وتعم فتنته، فلا ينجو منها إلا القلة من ا لمؤمنين، حتى ينزل عيسى ابن مريم - عليه السلام - على المنارة الشرقية بدمشق، فيلتف حوله عباد الله المؤمنين، فيسير بهم قاصداً المسيح الدجال.

ويكون الدجال عند نزول عيسى متوجهاً إلى بيت المقدس، فيلحق به عيسى عند باب لد -وهي بلدة قرب بيت المقدس- فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب المِلح، فيقول له عيسى -عليه السلام-: إن لي فيك ضربة لن تفوتني، فيتداركه فيقتله بحربته، وينهزم أتباعه، فيتبعهم المؤمنون، فيقتلونهم، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله! إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود. جاء ذلك في رواية مسلم.

اللهم إنا نسألك الثبات بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين يا رب العالمين.

أقول قولي هذا وأستغفر الله -تعالى- فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله -تعالى- واشكروه وأطيعوه وراقبوه، واعلموا أنكم ملاقوه, سلوا الله الثبات على دينه، والسلامة من الفتن؛ فإن فتنة الدجال عظيمة، وخطره كبير، وقد ورد أن الرجل يرى من نفسه الصلاح، فإذا أتى الدجال انخدع به؛ لعظم ما يرى معه من الآيات والخوارق.

إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن -سبحانه- يقلِّبها كيف يشاء، وقد كان أكثر دعاء المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" رواه الترمذي.

ومن حكمة الله -تعالى- كثرة الفتن التي تسبق قيام الساعة في آخر الزمان؛ لتمحيص المؤمنين ومحق الكافرين؛ فإن الجنة غالية نفيسة، وقد حُفَّتْ بالمكارة، والنار حُفَّتْ بالشهَوات، ولن يدخل الجنةَ أحَدٌ إلا بعد التمحيص والبلاء؛ ليُتَبين المحقُّ من الكافر، إلا مَن رحمه الله سبحانه.

وإن على المسلم أن يتقي الله -سبحانه وتعالى-، وأن يخلص العبادة له، وأن يحرص على الثبات على دينه، فإن العمر قصير، والزمن يمضي؛ ومن يدري؟ لربما كان يوم القيامة غداً! (إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لقمان:34]. (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) [الأحزاب:63]. ومَن يدرى؟ لربما كان موعد خروج الدجال قريباً!.

فإلى المقصرين، وكلنا ذاك الرجل، وإلى المسوِّفين، وما أكثرهم! أقبِلوا على الله، وعودوا إلى دينه، واتبعوا شرعه قبل (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ) [الزمر:56-58].

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض"؛ رواه مسلم.

عباد الله: ولقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته إلى ما يعصمها من فتنة المسيح الدجال، فقد ترك أمته على مثل البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فلم يدع -صلى الله عليه وسلم- خيراً إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شراً إلا حذَّرَها منه؛ ومن جملة ما أنذر منه وحذر: فتنة المسيح الدجال؛ لأنها أعظم فتنة تواجهها الأمة إلى قيام الساعة، وكان كل نبي يُنذِر قومَه الأعورَ الدجال، إلا أن النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- اختُص بزيادة التحذير والإنذار؛ فإن الدجال خارج في هذه الأمة لا محالة؛ لأنها آخر الأمم، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- آخر الرسل، وخاتم النبيين.

ومن هذه الإرشادات النبوية: التمسك بالإسلام، والتسلح بسلاح الإيمان، ومعرفة أسماء الله وصفاته الحسنى التي لا يشاركه فيها أحد، فيعلم أن الدجال بَشَر؛ يأكل ويشرب، والله -تعالى- مُنَزَّهٌ عن ذلك كله، وأن الدجال أعور العين اليمنى، والله -تعالى- ليس بأعور، وأنه لا أحد يرى ربه حتى يموت، والدجال يراه الناس عند خروجه، مؤمنهم وكافرهم.

ومنها: التعوذ بالله -تعالى- من فتنة الدجال، وخاصة في الصلاة، فقد روى الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو في صلاته، فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال".

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا تَشَهَّدَ أحدُكُمْ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم, ومن عذاب القبر, ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال" رواه مسلم.

ومنها: أنه ينبغي لكل مسلم -لاسيما من عنده علم- أن يبث أحاديث الدجال بين الناس، فقد ورد إن من علامات خروجه نسيان ذكره على المنابر، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر" رواه البيهقي.

ومنها: حفظ آيات من سورة الكهف؛ فقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن أدرك الدجال أن يقرأ عليه فواتيح سورة الكهف، وفي بعض الروايات خواتيمها؛ وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ حَفِظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ مِن الدجَّال". وفي رواية: "من آخر الكهف" رواهما مسلم.

وهذا من خصوصيات سورة الكهف التي جاءت الأحاديث بالحث على قراءتها، وخاصة في يوم الجمعة؛ عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمُعتين" رواه الحاكم وهو صحيح.

فينبغي لكل مسلم أن يحرص على قراءة السورة، وحفظها، وترديدها، خصوصاً يوم الجمعة، خير يوم طلعت عليه الشمس.

عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله -تعالى- بالصلاة والسلام عليه في قوله -عز من قائل-: (إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56]. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن صَلَّى عَلَيَّ صلاةً واحدةً صَلَّى الله عليه بها عشراً" رواه مسلم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي