إن من أسباب سقوط الدول عدم تمييزها بين الصديق والعدو، وتقريبها الأعداء وإبعادها الأصدقاء المخلصين، لما سئل أبو مسلم الخراساني عن سبب زوال ملك بني أمية قال: إنهم كانوا يولون الأعداء خوفًا منهم، ويتركون الأصدقاء ثقة بهم، فلم يتحول الأعداء إلى أصدقاء، وتحول الأصدقاء إلى أعداء...
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: لقد كشفت الأحداث الأخيرة في منطقة الخليج كثيرًا من الأمور، وأظهرت كثيرًا من الناس على حقيقتهم، خاصة أولئك الذين يحتقرون الإسلام والمسلمين، ويتخذون الغرب وأمريكا خاصة إلهًا من دون الله، نعم، اتخذوهم آلهة من دون الله لعلهم ينصرونهم، وكتب كتاب وصحفيون كان منهم من يوصف بالمفكر الإسلامي أمثال خالد محمد خالد وغيره، وملخص كتاباتهم أن التوكل يجب أن يكون على الأحباب الأمريكان، وما النصر إلا من عندهم، وليست هناك قوة أخرى تستطيع أن تتصدى لشيء، وتجاهلوا التاريخ والواقع، ولم يذكروا أن جماعة من المجاهدين الأفغان بدؤوا يقاتلون أعتى قوى الكفر من الصفر، ولكن كان معهم إيمانهم بالله -عز وجل- ورفع راية شريعته دون أية راية أخرى، حتى أذل الله أعداءهم، فخرجوا يجرون أذيال الخيبة، ليبدؤوا في حياكة مؤامرة جديدة.
فالحقيقة أن القوى الموجودة لا تستطيع أن تتصدى لشيء؛ لأنها قطعت ولاءها لله وشرعه، وتنكرت للأصوات الشابة المخلصة التي تريد إعادة المجتمع إلى ربه وشريعته وهدايته.
والتاريخ يشهد أنه كلما قام مخلصون برفع راية الإسلام في أي مكان، وانطلقوا عن فهم لدينهم وإدراك لواقعهم، وقطعوا ولاءهم للشرق والغرب، ويرهبون أعداءهم أشد إرهاب: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً) [آل عمران: 151]، ولذلك فإن قوى الكفر في الشرق والغرب لا تخاف من الأنظمة والحكومات نفسها في الدول العربية والإسلامية على الإطلاق، وإنما تخاف أشد الخوف من الصحوة الإسلامية الموجودة في هذه الدول، نعم، تخاف من شباب الدعوة أكثر من خوفها من تلك الدول؛ وذلك لأنهم جربوا قوة الإسلام ونصر الله لجند الإسلام، والمثال قريب لديهم حاضر في أفغانستان، ثم هم يعانون الآن من بعض المنظمات الإسلامية في فلسطين، والسيل المتدفق من تضحيات الشباب هناك والأطفال بكل قوة وعزة.
نعم، إن المسلمين الذين لم تتعفن فطرتهم، وتفسد بالعبودية للشرق أو الغرب، يستطيعون أن يفعلوا الكثير؛ لأنهم يصولون ويجولون ويقاتلون بالله، أسوتهم في ذلك نبيهم -صلوات الله وسلامه عليه- الذي كان يقول عند لقاء العدو، كما رواه بسند صحيح أبو داود وغيره عن أنس -رضي الله عنه-: "اللهم أنت عضدي، وأنت نصيري، بك أجول، وبك أصول، وبك أقاتل".
وذكر الله -جل وعلا- بعض مقومات النصر في سورة الأنفال فقال -عز من قائل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 45].
فمن المقومات العظيمة للنصر: الثبات المنافي للجبن والهلع والفرار، ذكر الله -عز وجل-، طاعة الله وطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصغير والكبير، الاعتصام بحبل الله جميعًا وقطع المنازعة، والصبر، فيا للعجب ممن تجاهلوا مثل هذه المقومات، وحاربوا الأطهار وقربوا الأنجاس، ثم قالوا: اضطررنا للاستنصار بالغرب.
بل اسمعوا إلى المقوم الأعظم من مقومات الغلبة والفوز في قوله -جل وعلا-: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة: 55-56].
وحذرنا الله -عز وجل- من تولي الكفرة والظلمة، وأنه لا يجتمع النصر مع الركون إليهم وتوليهم، فقال -جل وعلا-: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) [هود: 113]، ثم لا تنصرون، أين ذهبت هذه الآيات؟! لماذا لم يقف عندها المتفلسفون؟! كأنما نسخت وذهب أوانها، أين قول الحق -تبارك وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7]، (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران: 160]، أين قوله تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلاَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الأنفال: 10].
وهب أن الذين يستنصرون الآن بالمشركين انتصروا انتصارًا ظاهرًا مؤقتًا، فستذكرون ما وراء ذلك، وما سيتلوه من البلاء المستطير والهزيمة الشنعاء، والكيد العظيم للإسلام وشريعته وأهله، كيف نأمنهم وقد خونهم الله: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) [البقرة: 109]، (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة: 57].
من الذين كانوا يحيكون المؤامرات ضد النبي –صلى الله عليه وسلم- في المدينة؟! من قتل عمر بن الخطاب؟! أليس مجوسيًا مشركًا غادرًا؟! من كان وراء مقتل عثمان؟! أليس عبد الله بن سبأ اليهودي؟! من كان وراء نشأة الفرق الشيعة والباطنية والخوارج؟! أليسوا اليهود والنصارى؟! ما الذي أضعف دولة بني العباس ومكن منها أعداءها؟! لم يكن من أسباب ذلك الانفتاح على الفرس؟!كيف سقطت الأندلس؟! ألم يكن ذلك باختلاف المسلمين هناك واستعانة بعضهم على بعض بالنصارى؟! ثم تحولت الأندلس إلى إسبانيا، كيف تهاوت دولة العثمانيين؟! حين كثر إسناد المناصب لأهل الكتاب، وحين جُعلوا موضع ثقة. بل كيف مات محمد الفاتح فاتح القسطنطينية من أفضل حكام العثمانيين؟! كان قد وثق بيهودي واتخذه طبيبه الخاص، وتظاهر اليهودي بالإسلام، ودس له سم العاقور -وهو بلون الماء- دسّه له في الشراب، فشربه محمد الفاتح فقتل به -رحمه الله-.
وهكذا حال جميع أعداء الإسلام مع المسلمين، سواء أكانوا يهودًا أم نصارى أم وثنيين أم منافقين: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة: 2].
إخوة الإسلام: إن من أسباب سقوط الدول عدم تمييزها بين الصديق والعدو، وتقريبها الأعداء وإبعادها الأصدقاء المخلصين، لما سئل أبو مسلم الخراساني عن سبب زوال ملك بني أمية قال: إنهم كانوا يولون الأعداء خوفًا منهم، ويتركون الأصدقاء ثقة بهم، فلم يتحول الأعداء إلى أصدقاء، وتحول الأصدقاء إلى أعداء، فوا أسفًا حين يحتمي القوم بأعدائهم، ويا أسفًا حين ترعى الذئاب الغنم، ويا للعجب إذا كان الدار يحرسه العدو، والدم يسفكه الشقيق، ويا أسفًا -ولا ينفع الأسف- حين تظهر لنا نتائج المؤامرة الأمريكية الغربية في المنطقة: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [غافر: 44].
كان في موقف الناس حيال أزمة الخليج ثلاث مصائب:
الأولى: ظنهم أنه يجوز الاستنصار بالمشركين في حروبنا لحمايتنا والدفاع عن مقدساتنا، وللأسف دُعِّم هذا الظن الخاطئ باستدلالات بعضها غير صحيح وبعضها في غير موضعه، فاستدلالهم مثلاً بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- استعان بيهود خيبر في القتال، غير صحيح، بل ضعيف؛ وإنما الوارد "أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- استعمل يهود خيبر"، وليس "استعان بيهود خيبر"، والمراد بالحديث: استعمل يهود خيبر، أي استخدمهم وجعلهم عمالاً في الأرض والزرع، وهذا شيء غير الاستنصار بهم في القتال.
وأما قولهم: إنه –صلى الله عليه وسلم- استعار من صفوان بن أمية -وهو مشرك- دروعًا في غزوة حنين. فأولاً: في ثبوت هذا نظر؛ لأن الذي رواه النسائي في سننه بسند صحيح لا شك فيه أنه –صلى الله عليه وسلم- استعار الدروع من يعلى بن أمية، وهو صحابي جليل، ولذا جزم بعض العلماء بأن الصحيح أنه –صلى الله عليه وسلم- إنما استعار الدروع من يعلى بن أمية -رضي الله عنه-، وليس من صفوان المشرك، كما ذكر في المسند وبعض السنن.
ثانيًا: على فرض أن استعارته –صلى الله عليه وسلم- الدروع من صفوان -وهو مشرك- ثابتة صحيحة، فلا حجة في ذلك على جواز استنصار الدولة المسلمة بالمشركين في القتال؛ لأن الاستعارة كالبيع والشراء في الحكم، فيجوز أن تشتري الدولة المسلمة من الأسلحة من تجار كفار، أو تستعيرها منهم دون أن يملوا عليها شروطًا معينة، والرسول –صلى الله عليه وسلم- كان حينذاك حاكم الجزيرة العربية وقائدها، فما فعله –صلى الله عليه وسلم- وهو في أوج القوة ليس من الاستعانة بالكفار أو اللجوء إليهم ومحاربة آخرين بهم، وتأملوا إشارة القرآن لكثرة المسلمين حينذاك في قوله تعالى: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) [التوبة: 25].
وأما استدلالهم بأنه –صلى الله عليه وسلم- استعان بخزاعة في الغزو، فهو استدلال في غير موضعه؛ لأن خزاعة قبيلة مسلمة مؤمنة، يقول وافدهم عمرو بن سالم الخزاعي:
هم بيَّتونا بالهجير رقدًا *** وقاتلونا ركعًا وسجدًا
يارب إني ناشد محمدًا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
فهو يصف قبيلته أنهم كانوا ركعًا وسجدًا, فليسوا إذن مشركين.
وأما استدلالهم بأنه –صلى الله عليه وسلم- استأجر عبد الله بن أريقط في الهجرة ليدله على الطريق إلى المدينة، فهذا من قبيل الإجارة، وهي كالبيع، وليست كالجهاد أو الاستنصار والاستعانة في الغزو، والكافر يجوز استئجاره لأداء أمر معين، ثم هو استخدام لفرد مسخَّر مأمون، وذلك غير الاستعانة بالدول وأصحاب السلطان والنفوذ في الغزو والحروب. فهناك مسائل مختلفة يظنها الناس من باب واحد ويخلطون بينها، فهناك الاستعانة في الغزو، والاستعانة في غير الغزو، وهناك الاستعانة بالأفراد المأمونين، والاستعانة بالدول وأصحاب السلطان، فمن لم يعرف الفروق في الشرع بينها لابد أن يغيب عنه الحكم الشرعي الصحيح المناسب للمسألة.
وأما استدلالهم بأن النبي –صلى الله عليه وسلم- عاهد اليهود في المدينة وأخذ عليهم أن يحاربوا من دهم المدينة، فهذا استدلال أيضًا في غير موضعه، فإن اليهود من جهة والأوس والخزرج من جهة كانوا هم سكان المدينة الأصليين، والرسول –صلى الله عليه وسلم- والمهاجرون وفدوا عليهم، وهم في نظر اليهود والمنافقين غزاة محتلون، ولما قدم الرسول –صلى الله عليه وسلم- كان في معاهدته لهم أن الأمر والنهي في المدينة مرجعه إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، أي أن شرع الله هو الحاكم على الجميع، وإذا دهم المدينة عدو يكون الدفاع على الجميع، وهذا مفهوم، إذا دخل عدو على أهل مكان فعليهم جميعًا صد العدو عنهم، ولا يعقل أن يجلس اليهود -وهم من أهل البلد- ويقاتل الرسول –صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون وحدهم.
فهذه الحادثة لا تنطبق على الاستعانة بالعدو وأهل الشرك من خارج البلاد، ومما يلاحظ أن معاهدته –صلى الله عليه وسلم- مع اليهود معاهدة معهم كرعايا خاضعين للدولة المسلمة ولشرع الله -عز وجل-؛ لأن لها أحكامًا تختلف عن معاهدة أعداء الإسلام غير الخاضعين لدولته وشريعته.
وأما استدلالهم بما يذكرونه من دخول النبي –صلى الله عليه وسلم- في جوار رجل مشرك، فهذا في أحكام الجوار وليس في أحكام الغزو والجهاد، وهو لا يعدو الاستفادة من عرف كان موجودًا يوجب له منفعة وحماية، دون ذل أو استجداء، أو وقوع تحت تسلط ما، فقد كان بعض الناس يجير لبعض تجارته وماله في بلده، وكان فيما بينهم عرف لازم بمقابلة هذا بمثله، وأحيانًا كان البعض يتصدى متطوعًا لحماية الداعية بدافع القَبَليَّة أو القرابة أو نحو ذلك، وهذه كلها ظروف لا حرج على المسلم أن يستفيد منها إذا وجدت. ولا مدخل لذلك في أحكام الغزو والجهاد.
ولماذا لا نستعرض غزوات الرسول –صلى الله عليه وسلم- ونتأمل: هل استعان فيها مرة بمشرك في القتال؟! الجواب: لا، بل ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً أراد أن يقاتل معه –صلى الله عليه وسلم- فقال له: "أسلمت؟!". قال: لا. قال: "ارجع؛ فإنا لا نستعين بمشرك".
فهكذا وضع –صلى الله عليه وسلم- لنا هذه القاعدة العامة الصريحة في حروبنا، ولم يرد ما يناقضها أو يلغيها.
فهذا عن المصيبة الأولى في موقف الناس حيال أزمة الخليج، وهي ظنهم جواز الاستنصار بدول الكفر في حروبنا، وتبقى مصيبتان سنتناولهما بعد قليل إن شاء الله تعالى. أسأل الله -عز وجل- أن يبصرنا بديننا وواقعنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
المصيبة الثانية في موقف الناس حيال أزمة الخليج: أنهم لا يدركون واقعهم، ولا يفهمون طبيعة أعدائهم ومؤامراتهم وكيدهم، ولا يستفيدون من آيات الله وسننه والتاريخ، فلو أنهم لم يفهموا الواقع ولكن استفادوا من الآيات الواضحة الصريحة -وهو أمر لا يشق على أحد- لعلموا عداوة الأعداء، والحكمة من النهي عن توليهم واتخاذهم بطانة، ولكن لم يحترموا كتاب ربهم، ولم يفهموا أبعاد واقعهم، وهذه النقطة -أعني أمر بيان الواقع وما فيه من خبايا ومؤامرات- ليس هذا موضع تفصيله، ولكن أقول هنا: إنه حتى بفرض أن الاستعانة بالمشركين مباحة، فليس كل مباح نبادر إلى فعله قبل أن نزن ما فيه من مصالح ومفاسد، وقبل أن نتفهم خطورة الإقدام على ذلك، ولو كان المسلمون يدركون واقعهم ما احتاجوا إلى بحث مسألة الاستعانة بالمشركين، ولا كان لاختلاف العلماء فيها من أثر، ولكن اجتمعت مصيبتان: عدم فهم الناس للحكم الشرعي، مع عدم فهمهم الواقع وما فيه.
ولذلك فإن بعض الناس ممن يقولون: نحن اعترفنا بعدم جواز الاستعانة بالمشركين في الأحوال العادية، ولكن الآن توجد ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات. فهم في الحقيقة لم يعرفوا حقًّا هل وجدت الضرورة أم لا، ولو تأنوا وتفكروا ما وجدوا شروط الضرورة تنطبق.
أولاً: إن المسلم يصل لحالة الضرورة إذا استنفد جميع الأسباب الشرعية، وحكام المسلمين اليوم لم يستنفدوا الأسباب الشرعية، بل كان دأبهم دائمًا الهروب من الشرع، ولم يرفعوا راية شريعة الله دون سواها، ولم يؤازروا العلماء والدعاة في يوم من الأيام، ولو فعلوا ذلك لكان عندهم من القدرة على التضحيات ما كان للمجاهدين الأفغان، ولكنهم أعرضوا عن دينهم، ثم وجدوا مع الأسف بعد ذلك من يقول لهم: أنتم مضطرون، إن تلك الضرورة -بفرض وجودها- ليس الإسلام مسئولاً عنها؛ لأنها لم تنشأ من وضع إسلامي آخذ بجميع الأسباب الشرعية، وإنما هي عقوبة ربانية على اتخاذهم كتاب الله وراءهم ظهريًا، وتنكرهم للدعاة والصحوة الإسلامية، فينبغي أن نقول لهم ذلك لا أن نقول لهم: أنتم مضطرون.
ثانيًا: إن الضرورة حتى مع ذلك الحال ليست موجودة بالفعل، فمن قال: إنه كان محتمًا أحد أمرين، إما الاستنصار بالمشركين وإما الاستسلام للخطر العراقي المميت -المقصود عدوان العراق على الكويت-، فهناك حلول أخرى: قد نصالحهم على مال، قد نصالحهم على ثمار، قد نصالحهم على أرض، قد نتنازل عن شيء من أمور الدنيا ونرضيهم بشيء من ذلك، هناك بدائل كثيرة دون الاستنصار بالأعداء الدائمين إلى يوم الدين، والوقوع في قبضتهم، ولكن من نحدِّث؟! ولمن نفتي؟! ومن هم الحريصون أصلاً على معرفة الحكم الشرعي الصحيح؟! ولم يبق أحد يتسلط اليوم على بلاد الإسلام إلا وهو علماني خبيث، ولاؤه لأعداء الله، وبغضه للإسلام ودعاته وشبابه، وما الإسلام عندهم إلا سلعة مؤقتة تستخدم لمصلحة في بعض الأسواق والأزمان التي تربح فيها.
أما المصيبة الثالثة -وهي أعظم من المصيبتين السابقتين-: فهي ضياع عبادتين قلبيتين عظيمتين هما من لب الإيمان وحقيقته، ألا وهما موالاة الله، والتوكل على الله دون سواه؛ فلو وقف الخطب عند حد الظن بجواز الاستعانة بالمشركين، وعند عدم فهم الواقع، لكانت المصيبة أقل خطرًا، ولكن الخطر العظيم حين تغزى القلوب من داخلها، حين يصبح الركون والتوكل على أمريكا، وليس أبلغ دلالة على ذلك من المثل الشعبي عند سفهاء الناس في الجزيرة العربية حيث يقولون: من يوم جا بوش وأصبحنا ننام بالحوش.
مع الأسف -أيها المسلمون- أصبح إيماننا وارتباطنا بالقرآن نظريًّا، وأصبحت حكاياتنا عن تاريخ الأعداء قصصًا أسطورية نفصلها عن الواقع، وفلاسفتنا المغرورون -أدعياء الثقافة عبيد الغرب- يظنون أنفسهم أذكى أذكياء العالم، وينظرون للمتمسكين بآيات الله على أنهم حمقى متواكلون مغفلون، فكيف ننتظر نصرًا لأمة هذا حالها، فلتبشر هذه الأمة بالكوارث تلو الكوارث ما دامت عقيدتها تردت إلى هذا المنحدر الهابط.
والله لا طريق عزّ لنا في هذه الأرض إلا بالعقيدة الصحيحة، التي تربط القلب بالله، ويتميز بها الصديق من العدو، وإن الإسلام القادم على أيدي شباب الصحوة في كل مكان لهو الأمل, ولهو الخطر الزاحف الذي ستركع أمريكا وغير أمريكا بين يديه، ولذلك توقعوا أن يتألب العالم كله -منافقين وكفارًا- على الصحوة الإسلامية، وسترصد كل الخطط من أجل تعويقها، ولكن هيهات هيهات لمن يحاول عبثًا أن يطفئ نور الشمس بنفخة من شفتيه الهزيلتين العفنتين: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) [الأنفال: 18]، وكله كيد الشيطان: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا) [النساء: 76]، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [التوبة: 32].
اللهم اربط على قلوبنا، واغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، وأبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي