أسباب المجد والعزة

زيد بن مسفر البحري

عناصر الخطبة

  1. تحقق المجد والسعادة بالالتزام بمنهج الله تعالى
  2. أسباب غربة الإسلام المعاصرة
  3. استجابة العظماء لتوجيهات المدرسة النبوية
  4. معالم تربوية من حياة الصحابة
  5. المطلوب منا في ظل أوضاعنا الراهنة

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا عباد الله، إن من سنن الله الثابتة أن من سار على منهج الله فاز ونجا وقاد ولو كان عبدا زنجيا، وأن من ترك دين الله فقد هلك وضل وضاع وإن كان سيدا مطاعا، تلك هي سنة الله، ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب:62]، ﴿وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً﴾ [الإسراء:77].

فالأمة -عباد الله- التي تأخذ بأسباب المجد والعزة، الأمة التي تسير على منهج الله تمجد وتسعد ويعمها الأمن والرخاء، أما إذا استبدلت طريق الله فقد ضلت وضاعت وهلكت وأصابها الذل والهوان، ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى:30].

ولعلي أضرب لكم بعض الأمثلة على ما ذكرته آنفا: كانت مدينة "سبأ " في اليمن، كانوا يتنقلون من نعيم إلى نعيم، لا يخافون ظلما، ولا يُحرمون طعاما ولا شرابا، فغرهم الترف، كفروا نعمة الله، فدعوا الله أن يجعل بينهم وبين القرى التي بارك الله فيها، وهي الشام، دعوا الله أن يجعل بينهم وبينها فلوات ومفاوز وصحارى، فشتت الله شملهم عندما بطروا نعمته، فأذهب الله عزهم وثروتهم وأموالهم وأوطانهم، حتى إن السورة سميت باسمهم لعظم ما في قصتهم من العبرة والعظة.

وفي سورة "ن" يحكي الله لنا قصة أهل "ذروان" كما قال بعض المفسرين، وذلك أن رجلا كان صالحا، وكان له بستان، فكان يحنو على الفقراء، لكن؛ ما إن وُوري التراب حتى تآمر أبناؤه على عدم إعطاء الفقراء، فأقسموا أن لا يدخلنها عليهم مسكين، فغدوا قبل الفجر لجمع الثمار قبل أن يأتي إليهم الفقراء، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين؛ فأرسل الله على جنتهم النار، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، فأصبحت كالصريم المقطوع، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، ولكن حين لا ينفع الندم!.

الحرص قد يجعل الأحرار عبدانا *** وقد يصوغ من الأموال أوثانا

إذا رأيت قلوبا بالندى جُبلت *** فاصنع بها في أثاث البيت جدرانا

كم قصة في كتاب الله ناطقة *** يعيدها الناس في دنياهم آنا

أصحاب جنة ذروان وقصتها *** قد أنزل الله فيها الوحي قرآنا

إن رُمْتَ جنة رضوان فكن حذرا *** ولا تكن واحدا من أهل ذروانا

عباد الله: الأمة المحمدية في عصر الصحابة حملت الأمانة بصدق، بلغت الدعوة بعزم؛ ففتح الله لها أغلاف القلوب، دخلت البلدان آنذاك، دخلت البلدان معمرة لا مدمرة، دخلتها بانية لها لا هادمة، دخلت تلك البلدان متآلفة متحابة لا ماكرة ولا مستعمرة، كانت لنا السيادة على الأرض ما يزيد على ثلاثة عشر قرنا.

ولقد يحضرني الآن ذلكم المشهد العظيم الرفيع المتواضع من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لما خرج من المدينة إلى بيت المقدس ليستلم مفاتيح بيت المقدس من النصارى رغم أنوفهم مرّ بمخاضة (وهي طين وماء) فنزل عن دابته وخلع نعليه، وخاض بالماء، فقال له أبو عبيدة: لقد صنعت اليوم -يا أمير المؤمنين- أمام أهل الأرض صنعا عظيما! فقام عمر فصكّ في صدره، وقال: "أوه! لو كان غيرك يقولها يا أبا عبيدة! كنتم أذل الناس، أحقر الناس، أقل الناس، أفقر الناس، فأعزكم الله بالإسلام؛ فمهما ابتغيتم العزة من غيره أذلكم الله".

وتالله ووالله وبالله! لو كان الإيمان يسري في قلوبنا ما أهاننا أحد، لو كان الإسلام يجري في عروقنا ما حصل وما حدث ما يجري الآن. ألسنا أبناء أولئك الأمجاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟! ألسنا أحفاد أولئك الذين رفعوا علم الجهاد؟! بلى والله! لكن الأحوال تغيرت، أحوالنا في دين الله تبدلت وتغيرت.

ولعلي أن أضرب إليكم أمثلة على شجاعتهم وبسالتهم: في غزوة الخندق خرج: "عمرو بن ود" شاهرا سيفه فقال: ألا تبرزون إليّ؟ أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها؟ فبرز له علي بن أبي طالب. ألا تعرفون من هو عمرو بن ود؟ نُقل في بعض الكتب أن هذا الرجل كان مخيفا لدرجة أن المرأة إذا أرادت أن تخيف ابنها قالت: "اسكت وإلا جاءك عمر بن ود" فيسكت الطفل مباشرة، ومع ذلك بارزه علي حتى قتله، إنه الإسلام الذي ليس معه خوف، إنه الإيمان الذي ليس معه هلع ولا جبن.

كانت لنا السيادة على الناس أجمعين، ولكن الأيام دالت دولتها، فتداعت علينا دول الكفر، فجعلت منا أمما بعد أن كنا أمة واحدة، جعلت ديارنا ممالك بعد أن كانت مملكة واحدة.

كنا في السابق، أيام الصحابة، إذا أمرنا انصاعت الدنيا لأمرنا، إذا نادينا تجاوبت الأرض لندائنا، إذا دعونا أمّنت الإنسانية قاطبة لدعائنا!

آمين آمين! لا أرضى بواحدة *** حتى أبلغها ألفين آمينا

فما دهانا -يا ترى- حتى ظهرت لنا المحن، وتفرقنا أيدي سبأ، وتداعت علينا الأمم كما تداعى الذئاب على الفريسة، وسُلط علينا أشرارنا، وهُنّا على الله، وهُنَّا على الناس؟! حتى إن بعض الكفار الغرباء أصبحوا يشفقون علينا! هُنّا حتى على الناس، وهُنّا حتى على أنفسنا، فما هي الخطوب التي أوصلتنا إلى هذا المنحدر السحيق؟ ما هي العوامل التي طوَّحت بأمن الأمة الإسلامية حتى جعلتها شلوا ممزقا؟.

ولقد يحضرني الآن ذلكم المشهد الرهيب لأبي الدرداء -رضي الله عنه-: قال جبير بن نفيل: "لما فُتحت قبرص رأيت أبا الدرداء جالسا وحده يبكي: فقلت له: يا أبا الدرداء، أتبكي في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال أبو الدرداء: ويحك يا جبير! ويحك يا جبير! ويحك يا جبير! هذه قبرص أهانها الله، ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه! ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه! ما أهون الخلق على الله إذا هم عصوه! يا جبير، هذه قبرص كانت أمة ظاهرة ، لها السلطان، فتركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى".

فحديث: "أبي الدرداء" يلقي بالأضواء الكاشفة على الخطوب الكامنة وراء نكبة أمتنا الإسلامية، فبينما نحن -معشرَ المسلمين- أمة طاهرة ظاهرة لها السلطان، صرنا إلى ما صرنا إليه من الفرقة والشتات! وهل هناك بلاء، هل هناك شر، إلا وسببه الذنوب؟ وهل عُذبت أمة إلا بذنوبها؟ ما نزل عذاب إلا بذنب، ولن يُرفع إلا بتوبة.

نحن في عصر الفتن، نحن في عصر غربة الإسلام، يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من المصحف إلا رسمه، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى"، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد أذن الله بهلاكها"، وقال -عليه الصلاة والسلام- كما في سنن ابن ماجة: "خمس أعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ظهرت فيهم الأوجاع والأمراض التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، وما نقص قوم المكيال إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولا نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فاخذ بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، وما منع قوم الزكاة إلا ومنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا".

هذا الحديث فيه مزدجر لقوم يعلمون: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران:137].

إذا كنت في نعمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعمْ

وداوم عليها بشكر الإله *** فإن الإله سريع النقمْ

أقولها وبكل أسى، ومع الأسى جوى، ومع الجوى حزن، ومع الحزن ألم: ألف مليون مسلم -أكثر من مليار- لا تستجاب لهم دعوة؟! هذا السؤال يطرح نفسه، بل طُرح على الإمام إبراهيم بن أدهم: فقال -رحمه الله-: "لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، قرأتم القرآن ولم تعملوا به، زعمتم أنكم تحبون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتركتم سنته، قلتم: إن الشيطان لكم عدو فوافقتموه، أكلتم نعم الله ولم تؤدوا حقها، قلتم: إن الموت حق ولم تستعدوا له، قلتم: إن النار حق فلم تهربوا منها، قلتم: إن الجنة حق فلم تعملوا لها، دفنتم موتاكم فلم تعتبروا بهم، انتبهتم من نومكم فاشتغلتم بعيوب غيركم عن عيوبكم".

يا لله! يا لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-!

شعوبها في شرق البلاد وغربها *** كأصحاب كهف في عميق سباتِ

بأيمانهم نوران: ذكر وسنة *** فما بالهم لا يعملون لآتِ

لماذا جئنا إلى هنا كل أسبوع؟! لماذا نحضر كل جمعة إلى هنا؟! الجواب معروف: لتستمعوا إلى الخطب، لتستمعوا إلى الإرشادات، ولكن هذه اللقاءات لا تؤتي ثمرتها حتى تبقى في كل قلب، بل وتتعدى إلى كل بيت، كرم من الله، أحسن لنا، ستر أخطاءنا وعيوبنا

أحسن الله بنا *** أن الخطايا لا تفوح

فإذا المستور منا *** بين ثوبيه فضوح

ليس هناك نور -ولن يكون- إلا بالعمل الصالح، لا بد أن تصلح نفوس المؤمنين عاجلا غير آجل، هذا اللقاء الأسبوعي كان له أثره العظيم في صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، لقد أعطت تلك اللقاءات الأسبوعية ثمرتها فيهم؛ لماذا؟ لأن هناك رجالا يعملون، وإلى الخيرات يسارعون، تخرّج من تلك اللقاءات، من تلك المدرسة المحمدية التي فراشها الحصباء، سقفها الجريد، تخرج من تلك الجُمَع عظماء البشر، كأمثال المصلح العظيم: أبي بكر، والزعيم الملهم: عمر، تخرج منها الحيي الكريم: عثمان، العبقري الفذ: علي، المدرس القدير: ابن عباس، المفتي الخبير: ابن عمر، الفارس الشجاع: خالد، المحدث العظيم: أبو هريرة، الزاهد الورع: أبو ذر؛ تخرج هؤلاء العظماء وغيرهم من هذه المدرسة المحمدية.

ولا يسعني إلا أن أتشرف بذكر نبذ من سيرهم، علها أن تذكر القلوب الغافلة، وتوقظ العيون النائمة، علها أن تطلعنا على تلك الحقائق، على تلك التضحيات التي ضحوا بها من أجل هذا الدين؛ حتى نحذو حذوهم.

عثمان، ذو النورين، الذي تزوج من بنتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رقية وأم كلثوم": في سنن الترمذي: لما تجهز النبي -صلى الله عليه وسلم- لغزوة تبوك لقتال الروم، كان هناك قلة في الزاد والمتاع، كان الجيش بحاجة ماسة إلى تموين، فجاء عثمان بألف دينار، فنثرها في حجر النبي -صلى الله عليه وسلم-. قال عبد الرحمن بن سمرة، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقلبها في حجره ويقول: "ما ضرك يا عثمان ما فعلت بعد اليوم"، ألف دينار تقدم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-!.

إن عثمان يعد نفسه ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، عثمان لا يحب ألقاب الدنيا مهما كثرت، ومهما عظمت؛ لأنه يرى صروفها، ويعلم متقلبها. فما هو الوسام الذي منحه النبي -صلى الله عليه وسلم- له؟ "يا عثمان، ما ضرك ما فعلت بعد اليوم"، إنه الوسام الشريف الوسام الإسلامي: الرضا. ممن؟ من الله، أكرم بها من نعمة! أعظم بها من منقبة!.

عباد الله: ومن هؤلاء الذين نهلوا من تلك الجمع وعملوا بتلك التوجيهات المحمدية: "جرير بن عبد الله البجلي"، اسمعوا ولتسمع الدنيا، ولتشهد الدنيا، ولينتقل إلى الدنيا هذا النبل، هذه العظمة التي يجب أن تفتخروا بها وأن تحذوا حذوها، ذكر هذه القصة الإمام النووي في المنهاج تحت حديث مبايعة جرير للنبي -صلى الله عليه وسلم-: وذلك أن جريراً أرسل غلاما ليشتري له فرسا، فلما التقى الغلام بالبائع، قال: بكم تبيع الفرس؟ وأخذت المناقشات تدور بينهما إلى أن وقف الثمن على ثلاثمائة درهم، فقال الغلام: ليس معي نقود فتعال إلى سيدي لينقدك الثمن، فلما وصل البائع والغلام كلاهما إلى جرير قال جرير كلاما عجيبا! قال لغلامه: بكم اشتريت الفرس؟ قال: بثلاثمائة درهم، وكان من المتوقع، بل من الجائز، وهي المماكسة، أي: المكاسرة، أن يقول جرير للبائع: إن الفرس لا تساوي إلا مائتين أو مائتين وخمسين، لكن اسمعوا إلى العجب: قال جرير: أتبيعه بأربعمائة درهم؟ فصمت البائع، فقال: أتبيعه بخمسمائة درهم؟ فدهش البائع! قال: أتبيعه بستمائة؟ بسبعمائة؟ فلم يطق البائع على ذلك صبرا، فقال له: يا هذا، أبائع أنت أم مشترٍ؟ ما رأيت مشتريا يزيد في ثمن المبيع إلا أنت! فما شأنك؟ ما أمرك؟ أتظنون أن هذا ضرب من الأساطير؟ لا والله! بل حقائق، اسمعوا إلى التنفيذ، إلى العمل: قال جرير -رضي الله عنه-: لقد بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- على النصح لكل مسلم.

لم يأخذ هذه التوجيهات على أنها كلام روتيني أو نبرات تُسمع ثم تُنسى، فقال: "بايعت النبي -صلى الله عليه وسلم- على النصح لكل مسلم، والفرس تساوي سبعمائة درهم، فلو أنني أخذتها بأقل من ذلك لغششت عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-". أصحاب محمد -رضي الله عنهم- كانوا أصفياء القلوب، أنقياء السرائر.

مثال آخر: ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يتعسس الرعية في زمن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، فقال عمر: فرأيت خيمة متواضعة في ضاحية من ضواحي المدينة، فدخلت فيها فرأيت فيها امرأة عجوزا عمياء تعيش وحدها، فسألتها: كيف حالك يا أمة الله؟ ما شأنك؟ فقالت: إن ابني خرج مجاهدا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستشهد. فقال عمر: سأقوم على خدمتك ولكن لا تخبري أحدا.

ليست خرافات أو أساطير، بل هي قصص تنبئ عن مدى استجابتهم لتوجيهات نبيهم -صلى الله عليه وسلم-. فكان عمر يأتي بعد صلاة الفجر، ويذهب إلى خيمة المرأة العجوز، فيكنس لها خيمتها ويرشها، ويعد الطعام لها.

وذات صباح إذا به يرى أن الخيمة قد كُنست، ورُشت، والطعام بين يديها، فقال لها: "من فعل هذا؟"، قالت: "جاء رجل ففعل هذا ولم أعرفه"، فقال عمر: "لأختبئ وراء صخرة حتى أعرف من هو هذا الرجل".

وفي اليوم التالي إذا بالرجل يخرج من خيمة المرأة العجوز، خرج رجل لا ذكر، خرج رجل يتقاطر نورا ورحمة. أتدرون من هو؟ إنه عبد الله بن عثمان، المعروف بأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-. سبحان الله! أبو بكر وعمر بأنفسهما يتعاقبان ويتنافسان على خدمة امرأة عجوز عمياء!

علوٌّ في الحياة وفي المماتِ *** بربي تلك إحدى المكرماتِ

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إن ربي كان توابا رحيما.

الخطبة الثانية:

أما بعد: فيا عباد الله، إن الواجب علينا -نحن معشر المسلمين- مع هذه الأحداث التي تجري أن نبدأ بتغيير سريع عاجل في أوضاعنا، وضعوا تحت جملة: "سريع عاجل"، ضعوا تحتها ألاف الخطوط؛ فالحرب ليست ضد أشخاص معينين، إنما هي حرب ضد الإسلام وأهله، فلنأخذ بأسباب القوة والعزة، ولنتق أسباب الضعف والانحلال.

وأسباب القوة -والله- ليست في فوضى الأخلاق، ليست في التحلل من الآداب، ليست في التخنث، ليست في التأنث، ليست في ترك النساء يخرجن ويتعطرن، ويسفرن ويتبرجن كيفما شئن دونما حسيب ولا رقيب، ليست المدنية وليست القوة في استيراد المبادئ من هنا أو هناك، لا يتسرب الضعف إلى نفوسنا.

البارحة، في تمام الساعة الثانية والنصف ليلا وقت الأسحار، وقت الصلاة، وقت قراءة القرآن، وقت التهجد، السيارات تتجول، سيارات شبابنا تتجول في الشوارع! تحارب من؟ تحارب الله بالمزامير والطرب، ولكأن شأن الأمة لا يعنينا! ولكأننا نعيش لأنفسنا!.

انصحوا هؤلاء الشباب، حمِّلوهم مسئولية الأمة: يا شباب الأمة، لا تشوهوا جمال الإسلام، لا تحجبوا نوره بالذنوب والآثام، أما آن لكم أن ترجعوا إلى الله؟ ﴿خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ﴾ [البقرة:63]، ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم:12].

فأعداء الإسلام من كل حدب وصوب قد شمروا عن سواعد الجد لحرب الإسلام وإبادة المسلمين، ونحن نعلم علم اليقين أن الله سيذلهم، وسينتصر الإسلام رغم أنوف الجميع؛ ولكن الويل ثم الويل لمن فرَّط في واجبه! لمن فرط في جنب الله -جل وعلا-!.

عباد الله: مما يلزمنا تجاه هذه الأحداث: الدعاء -عبد الله- في خلواتك، في سجودك، في مواطن إجابة الدعاء باستمرار بإلحاح دون فتور، لإخوانك المستضعفين المستذلين، والدعاء على أعداء الدين الطغاة المعتدين، هذا أقل القليل، علّ الله أن يرفع بدعوة أحدكم الذل الذي أصابنا.

ومما يلزمنا تجاه هذه الأحداث: أنه لن يجوز أن يتسرب الضعف والخور في نفوسنا، ومن ثَم نفقد التوكل على الله، ولكأني لحظت وسمعت في بعض المجالس حول ما يدار حول الأحداث شيئا من ضعف اليقين والتوكل على الله، لا تغرنكم القوة المادية، مهما عظمت، مهما كبرت، مهما تبجحت؛ أليست في قبضة الله؟ أليست في قبضة الجبار؟ "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"، و

من لم يمت بالسيف مات بغيره *** تعددت الأسباب والموت واحدُ

﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ [الأحزاب:22]، ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(175)﴾ [آل عمران:173-175].

ومما يلزمنا تجاه هذه الأحداث: الحرص، ثم الحرص، ثم التأكيد على الحرص، على الوحدة الداخلية للبلد، ويجب أن تكون الكلمة واحدة، يجب أن تتحد كلمة المجتمع، مع كلمة ولاة أمورهم وعلمائهم، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء:59]، فلا يجوز أن تُحكَّم العواطف الإيمانية في مثل هذه الأحداث، بل يجب أن ترتبط عواطفك الإيمانية بالشرع وبرباط العقل، فلا يحق لأي فرد أن يجتهد بنفسه، لا يحق شرعا لأي فرد أن يتصرف بنفسه، وإلا لصارت الأمور فوضى، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في المسند: "الجماعة رحمة والفرقة عذاب"، فنحن بحاجة ماسة إلى جمع الكلمة، ولم الشمل، رعية ورعايا.

ومتى كانت الكلمة واحدة كان أدحر للعدو، وأنكى للمجرم، فإن كنت ترى بعين واحدة فولاة أمرك يرون بعيون متعددة، وإن كنت ترى من بعد، فإنهم يرون عن كثب، فاللهَ اللهَ! لا يُؤتى هذا البلد الشريف من قبل أهله! فكل منا على ثغرة، والويل لمن فرط في واجبه! والويل لمن كان مفتاحا للشر!.

عباد الله: ومما يلزمنا تجاه هذه الأحداث: أنه يجب الحذر من سوء الظن بالله -جل وعلا- من أنه سينصر أعداءه على الدين، وأنه يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة، احذروا من هذا الظن.

في غزوة الأحزاب: ﴿إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً(11)﴾ [الأحزاب:10-11].

ولعل ما يجري أن يكون فيه خير للإسلام والمسلمين، إنني متفائل جدا! وقد قال نبيكم -صلى الله عليه وسلم-: "يعجبني الفال"، يعجبني إذا ربطت هذه الأحداث بأحداث مضت في التاريخ الإسلامي، علَّ هذا الأمر أن يكون فيه خير للإسلام والمسلمين.

حينما لا يكون للمسلمين ملجأ إلا الله، حينما تتقطع بهم الأسباب، علها أن تجتمع الكلمة، ويتحد الصف، ويُنصر الدين، ويُرفع الذل الذي طوقنا من مئات السنين، علها أن تكون خيرا، علها أن تكون بشارة، علها أن تكون ابتداء السيادة للأمة الإسلامية، وما يدريكم؟ ﴿فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ [النساء:19]، ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ [البقرة:216].

لكن؛ يجب أن ترجعوا إلى الله -جل وعلا- عاجلا غير آجل! يقول الله -جل وعلا- في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن بي خيرا فله، وإن ظن بي شرا فله".

أسأل الله -جل وعلا- بمنه وكرمه أن يجعلنا ممن ينصر دينه، ويعز أولياءه، ويحارب أعداءه.


تم تحميل المحتوى من موقع