معاذ بن جبل

هشام عبد القادر آل عقدة
عناصر الخطبة
  1. معاذ يبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- شابًّا .
  2. نشاطه في ملازمة النبي -صلى الله عليه وسلم- والتعلم منه .
  3. التوازن بين الحماسة للدين والاستعداد للتضحية وبين البصيرة والعلم .
  4. تزكية النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلم معاذ وسعة عقله .
  5. بعثه لليمن مفتيًا وقاضيًا .
  6. اهتمامه بالعلم لم يعزله عن حياة الدعوة ومقاومة الباطل .
  7. زهده وعبادته وسبقه للطاعات .
  8. وفاته -رضي الله عنه وأرضاه- .

اقتباس

وها هو معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يعود إلى المدينة بعد تلك البيعة شديد الحب لهذا الدين، حريصًا على التفقه والتعمق فيه، وما أن قدم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المدينة بعد الهجرة وبنى مسجده حتى كان معاذ من أنشط تلاميذه، وكان ملازمًا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعقل مفكر، وقلب واع يفهم ويحفظ ويتدبر ..

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

فقد سبق أن تناولنا شخصية صحابي من القاعدة الصلبة التي قامت عليها الدعوة من المهاجرين، واليوم -بمشيئة الله تعالى- نتناول شخصية صحابي من القاعدة الصلبة التي قامت عليها الدعوة من الأنصار، وقد علمنا أن بداية الدعوة في الأنصار في المدينة كانت على يد مصعب بن عمير -رضي الله عنه- حين أرسله –صلى الله عليه وسلم- مع المبايعين إلى المدينة بعد العقبة الأولى، فكان هو المهاجر الأول، والمقرئ والمعلم والداعية بالمدينة.

وبدأ الإسلام ينتشر في المدينة، وبعد عام التقى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأكثر من سبعين من الأنصار في بيعة العقبة الثانية، وكان لقاءً عظيمًا بايعهم فيه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على نصرة دين الله ونصرة رسوله –صلى الله عليه وسلم- بالدم والمال، وكان من بين أولئك المبايعين فتى هادئ صامت لا يتعدى عمره سبعة عشر عامًا، يقول عنه عبد الله بن كعب: كان شابًّا سمحًا جميلاً، من أفضل شباب قومه.

أتدرون من ذلك الشاب الفاضل؟! إنه معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.

وحين نعرف أن عمره وقت تلك البيعة العظيمة كان سبعة عشر عامًا، فإننا ندرك مستوى عقليات الشباب الصغير في ذلك الحين، وكيف أنه كان مؤهلاً في ذلك السن لحضور بيعة على نصرة الدين ومنعة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وحرب الأحمر والأسود، وكثيرون غير معاذ وأصغر من معاذ أنيطت بهم مثل تلك الأمور وأعظم، فإذا ما نظرنا إلى واقعنا وجدنا بؤسًا؛ إذ لا يزال الأصل في الشباب -في ذلك السن وأكبر- أن ينظر إليهم على أنهم أطفال سذج لا يفقهون شيئًا، تكفيهم هوايات الأطفال وتساليهم، وعلى هؤلاء الشباب وأوليائهم أن يفيقوا لأنفسهم، ويعلموا أن الشاب منذ بلوغه الحلم عليه مسئولية عظيمة كمسئولية الكبار، وإنما صعب ذلك اليوم لاختلاف البيئة في هذا الزمان عنها في القديم، فقد تحولت من بيئة خشونة واعتماد على النفس وتحمُّل، إلى بيئة ترف وتفاهة وتدليل، ومن ثم فلابد من إجراءات مع الشباب الصغير لتخليص عقولهم ونفسياتهم من براثن تلك البيئة التي تنشئ عقليات تافهة محدودة لفترة متقدمة من العمر، ونحن نعلم أن الله أودع الشباب خاصة في مقدمة العمل طاقات عظيمة ومثاليات رائعة لابد من استثارتها، ولكن حذار من معاملة هؤلاء الشباب الصغار على هذا النحو قبل تخليصهم من آفات تلك البيئة التافهة المدللة التي لوثتهم، وبعد استقامة نفوسهم وأحوالهم، فحينئذ يظفر الإسلام منهم بكثير من الخيرات، ويمكن الاعتماد عليهم في كثير من الأمور والتضحيات، والاستفادة مما بين جنوبهم من حيوية ومثالية في ذلك السن.

وهاهو معاذ بن جبل -رضي الله عنه- يعود إلى المدينة بعد تلك البيعة شديد الحب لهذا الدين، حريصًا على التفقه والتعمق فيه، وما أن قدم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المدينة بعد الهجرة وبنى مسجده حتى كان معاذ من أنشط تلاميذه، وكان ملازمًا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعقل مفكر، وقلب واع يفهم ويحفظ ويتدبر، حريصًا على سماع العلم والفتوى، حتى أصبح من علماء الصحابة في زمن قليل. ومن الطريف أنه يروي أن أخاه من المهاجرين كان كذلك صحابيًّا محبًّا للعلم، وصار من علماء الصحابة كذلك، ألا وهو عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فالأرواح جنود مجندة، والطيور على أشكالها تقع.

وهكذا بدأ معاذ حياته في الإسلام ببيعة على نصرة الله ورسوله، وفداء الدين بالدم والمال، ثم ثنى بالعلم والتفقه، وفي هذا درس لمن أراد خطوات الطريق، ومعرفة ما ينبغي أن يكون عليه المسلم -وبخاصة الداعية- أنه لابد من إحياء القلوب وإثارة الحمية والولاء لهذا الدين، ولكن لا تكفي مجرد الحماسة والحمية والاستعداد للتضحية، بل لابد من البصيرة والعلم، والداعية ليس مجرد شخصية حماسية، بل هو كذلك شخصية علمية متزنة ذات فقه وبصيرة.

وقد لمس رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في معاذ ذلك العقل الراجح، وذلك العلم والفقه، وأن الله قد وفقه للأخذ عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال -عليه الصلاة والسلام-: "معاذ بن جبل أعلم أمتي بالحلال والحرام". وهذه شهادة له بالأهلية للفتوى، وكذا وثقه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كإمام من أئمة القراءة والأخذ للقرآن عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فكان يقول -عليه الصلاة والسلام-: "خذوا القرآن عن أربعة: ابن أم عبد -يعني عبد لله بن مسعود- ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة". فكان فيمن أشرفوا على جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق –رضي الله اعنه-.

ومن ثقته به -صلوات الله وسلامه عليه- وتقديره لمكانته العلمية أن بعثه إلى اليمن قاضيًا ومعلمًا ومفتيًا وحاكمًا وداعيًا إلى الله -عز وجل-، وزوده -عليه الصلاة والسلام- بمزيد من فقه الدعوة، ثم بيّن له ما ينبغي أن يتنزه عنه الحاكم والمعلم والقاضي، فأوصاه بأمور ونهاه عن أمور.

فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله- فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، ثم حذره بعد ذلك: "فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم"، ثم حذره وبين له –صلى الله عليه وسلم- ما ينبغي أن يتقيه الحاكم والقاضي، فقال له: "واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".

وقد عمل معاذ -رضي الله عنه- بوصايا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بإخلاص وجدّ، فوفقه الله توفيقًا عظيمًا، وأحبه أهل اليمن حبًّا شديدًا، وكان رجلاً عالمًا وعاملاً، فكان قدوة حسنة، وقد بارك الله في فترة وجوده باليمن، فدخل أهلها في الإسلام أفواجًا أفواجًا، وعظم ترحيبهم بهذا الدين العظيم.

وقد مات رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومعاذ باليمن يقضي ويحكم بين الناس، وكان –صلى الله عليه وسلم- يحبه ويقربه إليه ويخصه بأشياء؛ قال معاذ -رضي الله عنه-: أخذ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يومًا بيدي ثم قال: "يا معاذ: والله إني أحبك"، فقلت له: بأبي أنت وأمي -يا رسول الله-، وأنا –والله- أحبك. فقال: "أوصيك -يا معاذ-: لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".

وقد قال معاذ -رضي الله عنه-: كنت رديف النبي –صلى الله عليه وسلم- على حمار، فقال لي: "يا معاذ: أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟!"، قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا". قلت: يا رسول الله: أفلا أبشر الناس؟! قال: "لا تبشرهم فيتكلوا".

ففي ذلك فائدة: وهي تقريب النبهاء والحريصين من طلبة العلم، وتخصيصهم ببعض الأمور، وفيه التصريح بالمحبة لمن كان أهلاً لها ولو من الأعلى للأدنى، وجواز تأكيد ذلك بالقسم زيادةً في تقرير المحبة.

وقد كان معاذ أهلاً لهذه الفضائل كلها، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ولا ينقص من فضل معاذ وعلمه ما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال له: "أفتان أنت يا معاذ؟!"، وذلك لما أطال الصلاة بقومه، وكان يصلي بهم بالبقرة، فليس أحد من العلماء معصومًا من الخطأ، هي فائدة ينبغي التفطن إليها؛ إذ البعض يظن اليوم ببعض الأشخاص أنهم لا يخطئون، والبعض يريدون اليوم من العالم أو الداعي -بل من بعض طلبة العلم- أن لا يخطئ أبدًا، فيطالبونه بما لم يتحقق للصحابة أنفسهم، فعلى الجميع أن يعرفوا أن كل واحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولو كان من أعلم الناس وأفضلهم.

ومن ثمّ فلا يجوز كذلك التعصب لأحد غير رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وتقديس كل أقواله وأفعاله، والذي لا يفقه ذلك يضل ولابد، أو قد يصاب بصدمة حين يكتشف أن فلانًا الذي يظنه عالمًا قد أخطأ خطأ ما، ويناصبه -من ثمّ- العداء بحجة أنه قد أخطأ في أمر، وقد نسي أن ذلك شأن البشر مهما كان عالمًا أو فاضلاً، كذلك لم ينقص من قدر معاذ قوله –صلى الله عليه وسلم- له: "ثكلتك أمك -يا معاذ- وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم". وذلك لما قال له معاذ: يا رسول الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟!

أقول: لا ينقص هذا من قدر معاذ وعلمه، بل يدل على حرصه على العلم والسؤال دون حياء أو خجل، كما يدل على أنه جاد وحريص على العمل بالعلم؛ إذ لا يسأل بهذه الصيغة البريئة إلا شخص حريص على العمل، صافي القلب من اللؤم والرياء.

أقول: لم ينقص شيء من ذلك من فضل معاذ وعلمه، بل بقي إمام العلماء والأمة حتى وبعد وفاته –صلى الله عليه وسلم-، وفي خلافة أبي بكر وعمر من بعده، وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: "معاذ يحشر يوم القيامة إمام العلماء بربوة". وقال في رواية: "إنه يتقدم العلماء برتوة". أي برمية سهم، وقيل: بميل، وقيل: بمد البصر.

ولكن ما قدمناه من ذلك السمت العلمي لشخصية معاذ بن جبل -رضي الله عنه- لا يتوهم منه أنه كان على غرار ما صار إليه حال كثير من الشخصيات العلمية بعد عهد الصحابة من الانعزال عن حياة الدعوة، ومقاومة الباطل، والانغماس أولاً وأخيرًا في التحصيل العلمي والبحث، بل كان معاذ -رضي الله عنه- يتميز -كما تميز مُصعب- بسمت العالم المجاهد، فلم يغب معاذ عن مشهد من المشاهد القتالية العظيمة، فشهد بدرًا وأحدًا والخندق وتبوك واليرموك وغيرها مقاتلاً حريصًا على الموت، فيقدر الله له الحياة في كل مرة، حتى كان آخر ذلك في خلافة عمر -رضي الله عنه- حين ترك معاذ اليمن متجهًا إلى المدينة ثم إلى الشام حيث الصراع مع الروم والفرس، فذهب مجاهدًا مع أبي عبيدة وإخوانه المجاهدين، ثم أصبح واليًا على الشام بعد موت أبي عبيدة -رضي الله عنه-، وفي الشام تعلق الناس به وأحبوه حبًّا شديدًا، كما حدث في اليمن لِما وجدوه فيه من فقه وحكمة وزهد وتفقد لشؤون المسلمين.

والشاهد -أيها المسلمون- أن ذلك كان شأن فضلاء الصحابة: يجمعون بين العلم والجهاد، وتأمل في سيرة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -وهم أفضل الصحابة- تجد ذلك واضحًا جليًّا، كذلك لم يكن معاذ -رضي الله عنه- مع علمه وجهاده متعاليًا أو قاسي القلب، بل جمع إلى علمه وجهاده الخوف من الله -عز وجل-، والانكسار بين يديه، والتواضع لعباد الله المؤمنين، والحرص على الطاعات والتأثر بها، والتجمل بالأخلاق الحميدة، والتكلم بالكلمة الطيبة، فكان من أكثر الناس سماحة، وأوفاهم ذمة، وأطيبهم كلمة، وأهداهم سبيلاً؛ قال صاحبه عبد الله بن مسعود: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا. فقيل له: إن إبراهيم الخليل كان أمة قانتًا لله حنيفًا، فقال: إنا كنا نشبه معاذًا بإبراهيم -عليه السلام-. ثم قال: هل تعلمون من هو الأمة والقانت؟! فقالوا: الله أعلم. فقال: الأمة الذي يعلم الناس الخير، والقانت المطيع لله والرسول، وكان معاذ يعلم الناس الخير ويطيع الله ورسوله.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد كان معاذ -رضي الله عنه- كثير العبادة، سباقًا إلى الطاعة؛ عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا، وإذا أناس معه إذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، فسألت عنه فقالوا: هذا معاذ بن جبل. فلما كان من الغد هجَّرت -يعني بكّرت- إلى المسجد، فوجدته قد سبقني بالتهجير، فوجدته يصلي. قال: فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلمت عليه، وقلت له: والله إني لأحبك لله. قال: فقال: آلله؟! قلت: آلله. قال: آلله؟! قلت: آلله. قال: فأخذ بحبوة ردائي، فجذبني إليه وقال: أبشر؛ فإني سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله -تبارك وتعالى-: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتباذلين فيّ، والمتزاورين فيّ".

وكان -رضي الله عنه- سخيًّا زاهدًا في الدنيا، مؤثرًا على نفسه، بعث إليه عمر بن الخطاب ذات يوم بأربعمائة دينار في صرة مع غلام له، وقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل، والبث في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. وكأن عمر -رضي الله عنه- توقّع تصرفًا فريدًا يليق بمعاذ كعادته. فذهب الغلام بها إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك. فقال: رحمه الله ووصله. ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، واذهبي لفلان بكذا، فطلعت امرأة معاذ فقالت: ونحن والله- مساكين فأعطنا، ولم يبق معه إلا ديناران فأعطاهما إياها. ورجع غلام عمر فأخبره، فسُرَّ بذلك ودعا له.

وكان -رضي الله عنه- قوي الصلة بربه، حسن النية، يريد بجهاده وعلمه أمرًا واحدًا هو البعد عن النار ودخول الجنة، وينظر لمجالس العلم والتدريس والالتقاء مع الإخوان على أن ذلك زيادة في الإيمان؛ عن الأسود بن هلال قال: كنا نمشي مع معاذ بن جبل فقال: اجلسوا بنا نؤمن ساعة.

وكان حريصًا على ما يقربه للجنة ويباعده عن النار، كان مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في سفر، فأصبح يومًا قريبًا منه، فقال له وهو يسير معه: يا رسول الله: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار. قال: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت". ثم زاده –صلى الله عليه وسلم- من أبواب الخير لما رأى صدقه وحرصه على ما يدخله الجنة ويباعده عن النار فقال له: "ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل"، ثم قرأ: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 16، 17]. ثم قال: "ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟!". قلت: بلى يا رسول الله. قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد". ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟!"، قال: بلى. فأخذ بلسانه فقال: "تكف عليك هذا". فقال: يا نبي الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم".

وهكذا المسلم، يجب أن يكون سعيه وعلمه وجهاده طلبًا للنجاة من النار ودخول الجنة، وعلى كل منا أن يراجع نفسه دائمًا في هذا: هل يتعلم ويدعو ويذهب ويجيء بهذه النية؟! أم أن نفسه تلوثت بأغراض غير طلب الجنة والفرار من النار؟! ولم يستقر في داخله الخوف من النار والسعي للجنة، بل بقيت مجرد أغلفة تغلف أغراضه الباطنة ولا تلبث أن تتساقط مع الزمان وتظهر دوافعه الباطنة التي أخفاها عن الناس أو خفيت هي على نفسه.

نعم، كان معاذ حريصًا على الجنة، هاربًا من النار، قصير الأمل في الدنيا، خائفًا من ربه، أوصى ابنه فقال: يا بني: إذا صليت صلاة فصلِّ صلاة مودع، لا تظنّ أنك تعود إليها أبدًا، واعلم أن المؤمن يموت بين حسنتين: حسنة قدمها، وحسنة أخرها.

وقام -رضي الله عنه- يتهجد من الليل فقال: اللهم نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت حي قيوم، اللهم طلبي للجنة بطيء، وهربي من النار ضعيف. اللهم اجعل لي عندك هدى رده إليّ يوم القيامة. إنك لا تخلف الميعاد.

وأوصى بعض الناس فقال: تعلمن أن المعاد إلى الله تعالى، ثم إلى الجنة أو إلى النار، إقامة لا ظعن، وخلودٌ في أجساد لا تموت. ويقول: ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وستبلون بفتنة السراء، وأخوف ما أخاف عليكم فتنة النساء إذا تسورن الذهب والفضة، ولبسن رباط الشام وعقب اليمن، فأتعبن الغني، وكلفن الفقير ما لا يجد.

ولما مرض معاذ بالطاعون في الشام وحانت ساعة لقائه مع ربه تطلع إلى السماء وهو يقول: اللهم إني كنت أخافك لكنني اليوم أرجوك. وهذا من السنة: أن يغلب العبد الرجاء عند الموت، ويحسن الظن بالله. ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء في مجالس الذكر، ثم بكى فقالوا له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟! فقال: ما أبكي جزعًا من الموت حل بي، ولا على ديون تركتها بعدي، ولكن إنما هما القبضتان، فلا أدري من أي القبضتين كنت. يعني بذلك حديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن الله قبض خلقه قبضتين فقال: هؤلاء في النار ولا أبالي، وهؤلاء في الجنة ولا أبالي. أو كما قال -عليه الصلاة والسلام-.

ومن ذلك ندرك مدى خوف معاذ من ربه ومدى إشفاقه من الساعة، واشتد النزع وجاءت سكرة الموت بالحق، فبسط معاذ يده وقال: مرحبًا بالموت، حبيب جاء على فاقة. وقبل موته أخبر من عنده بحديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الذي فيه أن الله -عز وجل- لا يعذب من مات لا يشرك به شيئًا. وكان معاذ قال للرسول –صلى الله عليه وسلم-: أفلا أبشر الناس؟! فقال: "لا تبشرهم فيتكلوا". فاحتفظ معاذ بالحديث إلى أن أخبر به من حضره عند الموت حرصًا من الإثم بكتم العلم، قال الوزير أبو المظفر: لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة، فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا في الطاعة، ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة، فلا وجه لكتمانها عنهم.

إخوة الإسلام: إن معاذ بن جبل نموذج للشخصية المسلمة المتكاملة التي ندعو إليها، والتي نطمع في تكوينها بدءًا بأنفسنا، وإنه لقدوة لفتية الإسلام جميعًا؛ إذ هكذا ينبغي أن يكون كل منهم: حميةٌ مع علم وفقه مع دعوة، وجهاد مع خوف من الله، وتواضع وخلق، وزهد في الدنيا مع حكمة وعقل. كان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: حدّثوا عن العاقلين: معاذ بن جبل وأبي الدرداء.

رحمة الله على معاذ بن جبل، فنحسبه من الصادقين الذين نرجو من الله أن نصبح معهم، والذين قال الله فيهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]. لقد كان معاذ بحق قدوة في الجد والصدق مع النفس، كان صادقًا مع نفسه حين دخل في الإسلام وهو صغير، وحين كان يرقى بالإسلام، ومع ظهور الإسلام في شبابه ورجولته، وحين كان قاضيًا باليمن، وحين كان مجاهدًا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قبل ذلك وبعد ذلك بأرض الشام مع أبي عبيدة وإخوانه المجاهدين، كان جادًّا في كل خطوة، مخلصًا صادقًا في طلب الجنة والنجاة من النار، يخشى ربه، يرجو رحمته ويخاف عذابه.

وفقنا الله لما وفقه إليه، ورزقنا حسن الاستفادة من سير أمثاله من الصحابة الكرام، وهدانا بهم في عملنا ودعوتنا وتربيتنا.

وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي