تدبروا القرآن

هيثم جواد الحداد
عناصر الخطبة
  1. فضائل القرآن .
  2. رمضان شهر القرآن .
  3. فضل قراءة القرآن .
  4. أسباب الانتفاع بالقرآن .
  5. هل الأفضل قراءة القرآن بتدبر أم الإكثار منه من غير تدبر؟ .
  6. وسائل تعين على تدبر القرآن .

اقتباس

هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد، هذا الكتاب لا ينفع قارئه إلا إذا كان يعمل به، ولا يمكن أن يعمل به إلا إذا تدبره، ولا يمكن أن يتدبره إلا إذا فهم معانيه، وهذا هو الذي نريد أن نقف عنده في هذه الخطبة. قال الله -جل وعلا-: (كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ) ..

أما بعد: فإن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده إنزال هذا الكتاب الكريم، كتاب الهداية والراحة، كتاب الطمأنينة والسعادة، كتاب النصر والتوفيق، كتاب التسلية والترويح، كلام ربي كلام ربي، خرج من الله، وإليه يعود.

(ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:57، 58].

وشهر رمضان -يا عباد الله- هو شهر القرآن، بل هو شهر الكتب السماوية كلها، ففضل هذا الشهر بإنزال كلام الله فيه، (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَلْفُرْقَانِ) [البقرة:185]، وقوله: (إِنَّا أَنزَلْنَـاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر:1]. ولذلك فقد كان جبريل -عليه السلام- يدارس النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن كل ليلة من ليالي رمضان، كما ثبت ذلك في الصحيح.

ولهذا كان السلف الصالح إذا جاء رمضان تركوا الاشتغال بغير القرآن، وأقبلوا على القرآن، قراءة وتدبرًا وعملاً؛ لما لقراءته في هذا الشهر الكريم من المزية العظيمة والأجر المضاعف.

في سنن الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنةٌ، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرفٌ، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"، وفي سنن الدارمي ومسند الإمام أحمد -واللفظ للدارمي- عن سعيد بن المسيب أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عشر مرات بني له بها قصرٌ في الجنة، ومن قرأ عشرين مرة بني له بها قصران في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بني له بها ثلاثة قصور في الجنة"، فقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله، إذًا لتكثرن قصورنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الله أوسع من ذلك".

نعـم السمير كتـاب الله إن له *** حلاوة هـي أحلى من جنى الضرب
به فنـون المعاني قـد جمعن فما *** تفتـر من عجـب إلا إلى عجـب
أمر ونـهي وأمثـال وموعظـة *** وحكمة أودعت في أفصـح الكتب
لطائف يـجتليها كـل ذي بصر *** وروضة يجتـنيـها كـل ذي أدب

عباد الله.. أيها المؤمنون: هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد، هذا الكتاب لا ينفع قارئه إلا إذا كان يعمل به، ولا يمكن أن يعمل به إلا إذا تدبره، ولا يمكن أن يتدبره إلا إذا فهم معانيه، وهذا هو الذي نريد أن نقف عنده في هذه الخطبة.

قال الله -جل وعلا-: (كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الاْلْبَـابِ) [ص:29]، قال ابن جرير الطبري: "ليتدبروا حجج الله التي فيه، وما شرع الله فيه من الشرائع، فيتعظوا ويعملوا به".

ولهذا فإن التدبر لا يحدث إلا إذا تمت للقارئ أربعة مراحل:

الأولى: معرفة معاني الألفاظ وما يراد بها.

الثانية: تأمل ما تدل عليه الآيات مما يفهم من السياق أو من تركيب الجمل.

الثالثة: اعتبار العقل بحججه وتحرك القلب بزواجره وبشائره.

الرابعة: اليقين بأخباره والخضوع لأوامره.

وقال تعالى: (ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) [النساء:174]، قال الآجري في آداب حملة القرآن: "فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة، يرى بها ما حسن من فعله وما قبح فيه، فما حذره مولاه حذره، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغب فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهدًا وشفيعًا وأنيسًا وحِرزًا، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه ونفع أهله، وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا والآخرة".

وقال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـاشِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَـالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر:21]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وبالجملة فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين وأحوال العاملين ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل والرضا والتفويض، والشكر والصبر وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة، والتي بها فساد القلب وهلاكه".

فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن.

وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح، وقد ثبت عن النبي أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله: (إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:118]. ثم قال -واستمع لما قال-: "فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب".

إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا *** كفى لمطايانا بنورك هاديًا

روى أبو أيوب عن أبي جمرة قال: قلت لابن عباس: إني سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ثلاث، قال: "لأن أقرأ سورة من القرآن في ليلة فأتدبرها وأرتلها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن كما تقرأ".

كان أبو حنيفة شديد الخوف من الله، صلى العشاء الآخرة فقرأ بهم الإمام: (إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا) [الزلزلة:1]، فلما قضى الصلاة وخرج الناس نظرت إلى أبي حنيفة وهو جالس يفكر ويتنفس، فقلت: أقول لا يشتغل قلبه بي، فلما خرجت تركت القنديل ولم يكن فيه إلا زيت قليل، فجئت وقد طلع الفجر وهو قائم قد أخذ بلحية نفسه، وهو يقول: يا من يجزي بمثقال ذرة خير خيرًا، ويا من يجزي بمثقال ذرة شر شرًا، أجر النعمان عبدك من النار، وما يقرب منها من السوء، وأدخله في سعة رحمتك. قال: فأذنت فإذا القنديل يزهر وهو قائم، فلما دخلت قال: تريد أن تأخذ القنديل؟! قال: قلت: قد أذنت لصلاة الغداة، قال: اكتم علي ما رأيت، وركع ركعتي الفجر، وجلس حتى أقمت الصلاة وصلى معنا الغداة على وضوء أول الليل.

يا عباد الله، يا أمة القرآن: لقد ذمّ الله الذين لا يتدبرون كلامه، ومثلهم بأقبح الأمثلة وأبشعها، فقال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـاتِ اللَّهِ وَللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـالِمِينَ) [الصف:5]، قال الطرطوشي -رحمه الله-: "فدخل في عموم هذا من يحفظ القرآن من أهل ملتنا ثم لا يفهمه، ولا يعمل به".

أما نبينا -صلى الله عليه وسلم- فقد جعل من أوصاف الخوارج -تلك الفرقة المارقة- أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أي: أنهم يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن، وهم لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده. قال النووي -رحمه الله-: "المراد: أنهم ليس لهم فيه حظ إلا مروره على لسانهم، لا يصل إلى حلوقهم، فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره، بوقوعه في القلب".

وهنا سؤال قد يطرحه بعض الإخوة، وهو أنه قد رتب الله الأجر عند قراءة القرآن، بكل حرف حسنة، وهذا يعني أنه كلما ازدادت الحروف التي يقرؤها الإنسان ازدادت الحسنات، الأمر الذي يدل على أن المطلوب لحصول الأجر الكثير هو الإكثار من القراءة، قالوا: ويدل على ذلك ما ورد عن السلف الصالح -رحمهم الله- في ذلك، فالشافعي مثلاً اشتهر عنه أنه كان يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، وكذلك ورد عن أبي حنيفة، بل ورد عن غيرهم من السلف نحو ذلك.

فالجواب -والله أعلم- هو:

أولاً: لا نسلم بأن هذا الأجر العظيم يحصل لقارئ القرآن بمجرد القراءة ولو كان قلبه غافلاً لاهيًا، بل على الأقل لا بد من أصل حضور القلب في القراءة، ومعرفة المعنى على وجه الإجمال.

قال بعض العلماء: "إن من عمل بالقرآن فكأنه يقرؤه دائمًا وإن لم يقرأه، ومن لم يعمل بالقرآن فكأنه لم يقرأه وإن قرأه دائمًا، وقد قال الله تعالى: (كِتَـابٌ أَنزَلْنَـاهُ إِلَيْكَ مُبَـارَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألْبَـابِ) [ص:29]. فمجرد التلاوة والحفظ لا يعتبر اعتبارًا يترتب عليه المراتب العلية في الجنة العالية".

ثانيًا: قال بعض العلماء في بيان هذه المسألة: إن من رتَّل وتأمَّل كمن تصدَّق بجوهرة واحدة ثمينة، ومن أسرع كمن تصدق بعدة جواهر لكن قيمتها قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة أكثر من قيمة الأخريات، وقد يكون العكس.

وأما الجواب عن ختم السلف هذه الختمات الكثيرة، فيتضح بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وأما الأفضل في حق الشخص فهو بحسب حاجته ومنفعته، فإن كان يحفظ القرآن وهو محتاج إلى تعلم غيره فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها، وكذلك إن كان حفظ من القرآن ما يكفيه وهو محتاج إلى علم آخر، وكذلك إن كان قد حفظ القرآن أو بعضه، وهو لا يفهم معانيه، فتعلمه لما يفهمه من معاني القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه، وأما من تعبد بتلاوة الفقه فتبعده بتلاوة القرآن أفضل، وتدبره لمعاني القرآن أفضل من تدبره لكلام لا يحتاج إلى تدبره".

فالشافعي -أيها الإخوة- وكذلك غيره من السلف فهموا كتاب الله فهمًا عميقًا، وتدبروه غاية التدبر، فكان شهر رمضان في حقهم فرصة لتكثير الحسنات، فإذا وصلنا إلى درجتهم في العلم والتدبر والفهم حق لنا عندئذ أن نفعل ما يشبه فعلهم، مع أن هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- أكمل وأعلم وأحكم.

أيها المؤمنون: وبسبب خطأ كثير من الناس في فهم المقصود من قراءة القرآن نجد البون الشاسع بين حال المسلمين وبين ما يقرؤونه في كتاب ربهم، الأمر الذي يدل على أنهم لم ينتفعوا بما يقرؤون.

أين من صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله وهو يقرأ صباح مساء في اليوم والليلة سبعة عشرة مرة قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5]؟! ولم يقل: نعبد ونستعين بك، بل قدم المفعول، أي: نعبدك ولا نعبد سواك، ونستعين بك ولا نستعين بمن سواك، فأين الذين يستعينون بغير الله ويعتمدون على غيره ويتوجهون إلى غير الله من هذه الآية؟!

أين الذين يذهبون إلى الغرب والشرق طالبين عونهم من دون الله، ونسوا أن يمدوا أيديهم بطلب العون من الله، وأن تتوجه قلوبهم لطلب العون من الله؟! أين هم من قول الله -جل وعلا-: (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:175]؟!

أين الذين يؤخرون الصلاة؟! أين الذين يستهزئون بآيات الله؟! أين الذين يسرفون على أنفسهم بالمعاصي؟! أين هم مما يقرؤونه من عذاب الله الذي أعد الله لمن خالف أمره؟! أين هم وهم يقرؤون قول الله -جل وعلا-: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ * كَلْمُهْلِ يَغْلِى فِي الْبُطُونِ * كَغَلْي الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان:43-49]؟!

فلا إله إلا الله ما أحلم الله، ولا إله إلا الله ما أعظم عفوه، ولا إله إلا الله ما أوسع فضله.

أين الذين يأكلون الربا؟! أين الذين يشرون المساكن بالربا من قول الله -جل وعلا-: (لَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَواْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَواْ فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ فَنتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَـابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَـالِدُونَ) [البقرة:275]؟!

أين أصحاب الأخلاق السيئة والطبائع الذميمة من قول الله -جل وعلا-: (وَقُل لّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِي أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَـانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَـانَ كَانَ لِلإِنْسَـانِ عَدُوّا مُّبِينًا) [الإسراء:53]؟!

أين المتكبرون على إخوانهم المسلمين؟! أين هم وهم يقرؤون قوله -جل وعلا-: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـافِرِينَ يُجَـاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَـافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَللَّهُ وسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54]؟! هل يقرؤون وهم غافلون؟! هل يقرؤون وهم ساهون؟!

قال الله -جل وعلا-: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـاذَا الْقُرْءانُ لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ) [الأنعام:19]، قال محمد بن كعب القرظي: "من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله".

فلا حول ولا قوة إلا بالله يا عباد الله، يكلمك الله يقول لك: كف عن الربا، ولا تكف. يكلمك الله فيقول لك: امتنع عن شرب الخمر، فلا تفعل، يأمرك الله بإحسان أخلاقك واللين مع المسلمين، فتتمرد.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية:


 

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.

أيها المؤمنون: هناك أمور تعين على تدبر القرآن:

أولها: تعلم اللغة العربية، وهنا نحن نقول: تعلمها للعرب، وتعلمها لغير العرب، فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، فمن لا يفهم العربية، فإنه غير قادر على تفهم الكلام العربي. إلا أننا نزفُّ بشرى هنا للإخوة الذين لا يتحدثون العربية، بأنهم إذا قرؤوا الترجمات لمعاني القرآن الكريم وتفكروا فيها وتدبروا تلك المعاني، ثم عملوا بمقتضاها، مع محاولتهم لتعلم العربية، فإنه يرجى لهم الأجر العظيم، حيث حصل لهم جزء كبير من التدبر والعمل.

الثاني: أن لا يكون هدف الإنسان وهمّه هو تكثير الصفحات التي يقرؤها، أو زيادة الختمات التي يختمها، بقدر ما يكون له همّ في تدبر ما يقرأ ويفهم كما تقدم آنفًا، وقد ذكرنا كيف يكون الأجر لمكثر القراءة بدون تدبر، ولمقلها مع التدبر والفهم. قال ابن مسعود: "لا تهذوا القرآن هَذّ الشعر، ولا تنثروه نَثر الدَقل -أي: يرمون بكلماته من غير روية وتأمل، كما يُرمى الدَقل وهو رديء التمر، فإنه لرداءته لا يحفظ ويلقى منثورًا-، وقفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة".

ألفاظه كعقود الدر ساطعـة *** وآيـة لظـلام الجهـل أقمار
رقت معانيه إذ دقت لطائفه *** فأمعنت فيـه ألبـاب وأفكـار
كفى به لأولي الألباب تبصرة *** أن أنصفوا وبحكم العقل ما جاروا
بـه هدى الله أقوامًا وأيدهم *** فأصبحوا وعلى المنهاج قد ساروا

الثالث: أن يقرأ القرآن بحضور قلب، فكثير من الناس يقرأ القرآن وهو غافل لاهٍ، يقرأ بلسانه، وعقله وفكره وقلبه في وادٍ آخر، وهذا لا ينتفع من القرآن البتة، لكن يثاب على نيته قصد القراءة والتقرب إلى الله -جل وعلا-.

عباد الله: إن المرء ليحزن حينما يرى أن كثيرًا ممن يقرؤون القرآن يقرؤونه على هذه الصفة، ومما يدل على ذلك أنك لو استمعت لبعض من يقرأ القرآن لوجدته يخطئ في القرآن أخطاءً تحيل المعنى بل ربما تقلبه، وهم مستمرون في القراءة دون انتباه.

الرابع: أن يتعلم تفسير القرآن ولو باختصار شديد، فعلى قارئ القرآن أن يقرأ بعض الآيات، ثم يذهب إلى تفسير القرآن فيتعلم تفسيرها، ولو أن قارئ القرآن اصطحب معه نسخة من القرآن التي بهامشها تفسير للقرآن الكريم لكان ذلك نافعًا جدًا.

الخامس: أن يحاول تذكر آيات القرآن الكريم في دقائق يومه، وأن يربط بين تلك الآيات والتوجيهات القرآنية لما يواجهه، فمثلاً: حينما ينزغه الشيطان لمعصية، فليتذكر قول الله -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشَّيْطَـانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف:]، وإذا أراد القيام بعمل ما فليحاول جهده أن يتذكر الآيات القرآنية الواردة بخصوص هذا العمل، فالمصلي منا لو تذكر عند صلاته قول الله -جل وعلا-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَـاشِعُونَ) [المؤمنون:1، 2].

وكذا لو تذكر قول الله -جل وعلا-: (تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِ وَأَقِمِ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت:45]، وإذا أصابته مصيبة صبر واحتسب، وتذكر قول الله -جل وعلا-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَلْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الأمَوَالِ وَلأْنفُسِ وَلثَّمَرتِ وَبَشّرِ الصَّـابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَـابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].

وهكذا، يعيش الإنسان بالقرآن، ويحيا بالقرآن، ويموت على القرآن، وعندئذ يكون من أهل القرآن وخاصته، وكما ورد في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه والدارمي عن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله أهلين من الناس"، فقيل: من أهل الله منهم؟! قال: "أهل القرآن هم أهل الله وخاصته".

ولن تنتصر الأمة حتى تكون أمة قرآنية، تعكف على كتاب الله قراءة وتدبرًا وعملاً.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي