فيا من أبكى أبويه وأحزنهما وأسهر ليلهما، وحمَّلهما أعباء الهموم، وجرعهما غصص الفراق، ووحشة البعاد، هلا أحسنت إليهما وأرضيتهما وأضحكتهما، يبكيان عليك وأنت صغير إشفاقًا وحذرًا، ويبكيان منك وأنت كبير خوفًا وفرقًا، فهما أليفا حزن، وحليفا هَمٍّ وغمٍّ ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: روى الحاكم بإسناد صحيح عن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحضروا المنبر"، فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: "آمين"، فلما ارتقى الدرجة الثانية قال: "آمين"، فلما ارتقى الدرجة الثالثة قال: "آمين"، فلما نزل قلنا: يا رسول الله: لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنا نسمعه. قال: "إن جبريل عرض لي فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يغفر له. قلت: آمين. فلما رقيت الثانية قال: بَعُدَ من ذكرت عنده فلم يصل عليك. فقلت: آمين. فلما رقيت الثالثة قال: بَعُدَ من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قلت: آمين".
ففي هذا الحديث -إخوة الإسلام- ثلاثة أمور عظام: صوم رمضان، والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- كلما ذُكِر، وبر الوالدين.
أما الأمر الأول: وهو صوم رمضان: فيهمنا الحديث عنه في هذه الأيام، حتى لا يأتي شهر رمضان وينسلخ ونحن كما نحن ملطخون بالذنوب والأوزار، وبَعُدَ من أدرك رمضان ولم يُغفر له.
فإن من نعمة الله -عز وجل- على عباده أن هيَّأ لهم مواسم للخيرات، ولتزكية النفوس والأرواح، ولتحصيل التقوى والفلاح، ولمحو الخطايا والآثام، وهو -جل وعلا- أعلم بما يصلح عباده المذنبين، وهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين. فشرع صيام ذلك الشهر المبارك (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، وجعله عونًا على مقاومة الهوى والشيطان، لعلكم تتوبون وتتذكرون، فهو شهر تسلسل فيه الشياطين، وتضيق مجاري الشيطان في بني آدم، وتستجاب فيه الدعوات، وفيه ليلة عظيمة هي خير من ألف شهر، ويتفضل فيه رب الخلائق بعتق من يشاء من النار في كل ليلة وعند كل فطر، جعلنا الله وإياكم من عتقائه في ذلك الشهر المبارك إن أدركناه وصمناه.
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لله عند كل فطر عتقاء"، وروى البزار عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله -تبارك وتعالى- عتقاء في كل يوم وليلة -يعني في رمضان- وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة".
وروى النسائي والبيهقي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم".
فطوبى لعبد أخذ بأسباب المغفرة في هذا الشهر، فحفظ جوارحه عن العبث فيما لا يحل له، وألجم هواه وشهوته بلجام التقوى، وأمسك لسانه بيد الشرع، وحوَّل سمعه وبصره عن الفسق والتفاهة إلى كتاب الله -عز وجل- فجعل نظره فيه، وسمعه وقلبه معه.
أما الأمر الثاني: فهو الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم-، والمؤمن الصادق المحب لنبيه -صلى الله عليه وسلم- مدفوع دفعًا للصلاة عليه في كل حين، لما علمه من فضله -صلى الله عليه وسلم- وتبليغه الرسالة وحرصه على الأمة، وشفقته عليها، ونصحه لها، وجهاده في الله حق جهاده، متحملاً ما أصابه، من الضرب والخنق، والقذف بالحجارة، والسب والتجويع والسخرية، وإلقاء التراب والأقذار على رأسه وجسده الشريف، صلوات ربي وسلامه عليه. فأي جفاء هذا حين لا يصلي عليه أتباعه، هذا العمل السهل الذي يصح بأكثر من صيغة، وإن كان أحسنها الصيغة الواردة في التشهد، أمر يسير من ضَنَّ به على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو البخيل حقًّا، كما قال المصطفى -صلوات الله وسلامه عليه-: "البخيل من ذُكِرتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ، مَن ذُكِرتُ عنده فليصلِّ عليَّ، فإنه من صلى عليَّ مرةً صلى الله عليه عشرًا".
واسمعوا هذا الوعيد في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من ذكرت عنده فخطئ الصلاة عليَّ -أي لم يصل علي- خطئ طريق الجنة".
وإن كان العبد مأمورًا بالصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام- كلما سمع ذكره على وجه الخصوص، فإنه مأمور عمومًا بالصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- في أي وقت كما في قوله -جل ذكره-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحط عنه عشر خطيئات، ورفع له عشر درجات".
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "من صلى عليَّ حين يصبح عشرًا وحين يمسي عشرًا أدركته شفاعتي يوم القيامة".
وإذا كانت الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فاضلة في كل وقت، فإن فضلها يتأكد في يوم الجمعة، كما في السنن وغيرها أن أوس بن أوس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من الصلاة عليَّ يوم الجمعة، فإنه مشهود تشهده الملائكة"، وفي رواية: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ"، قالوا: يا رسول الله: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟! يعني بليت. قال: "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء". صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا.
أما الأمر الثالث: والخطير في حديث اليوم فهو بر الوالدين؛ فإن عقوق الوالدين قد عمَّ وطمَّ في هذا الزمان، حتى وقع وتلبَّس به الصالح والطالح، وقست القلوب، وتبلد الإحساس، وماتت المشاعر والعواطف. وهذه قصة سمعتها أسوقها إليكم، وهي نموذج لما يحدث في كل يوم ما لا يحصى من المرات من أشباهها وأمثالها وما في معناها:
وهي قصة رجل أنجب ثلاثة أبناء، وبعد كدٍّ وتعب جمع ثروة طائلة، فبنى العمارات وأثثها، وزوّج أبناءه من ثلاث فتيات أخوات شقيقات، وعاشوا حياة كريمة، إلى أن توفَّى اللهُ زوجةَ هذا الرجل، فسكن مع أبنائه، ولما بلغ من العمر عتيًّا وأصبح شيخًا ضائعًا لا يعلم من بعد علم شيئًا، ضاقت به أزواج أولاده الثلاث ذرعًا، وأعيتهن خدمته، وبدأن يطلبن من أزواجهن أن يرسلوه إلى أحد ملاجئ العجزة، تخلصًا من خدمته، إلا أن الأزواج كانوا في البداية يتعذرون خوفًا من الفضيحة وكلام الناس، ولكن الزوجات الأخوات الثلاث أجمعن على ضرورة إرساله لملجأ ما، فوافق الأزواج، وأخذوا والدهم في سيارة أحدهم إلى ملجأ بعيد عن المدينة؛ خوفًا من أن يُروا من أحد معارفهم، ولما وصلوا به إلى السكن الجديد وهو الملجأ، دخلوا على المدير وأعلموه أنهم وجدوا هذا الرجل المسن ملقىً في الشارع، واتضح لهم أنه معتوه ولا أهل له، فرغبوا إدخاله الملجأ على نفقتهم الخاصة، طمعًا في الأجر والمثوبة، فشكرهم السيد المدير على عملهم النادر، ودفعوا أجرة شهر سلفًا، وغادروا الملجأ تاركين أباهم ضعيف البصر لا يدري ماذا يحدث ولا أين هو، ثم عاد أحدهم من باب الملجأ الآخر ليسأل عن مأمور القسم، وأعطاه رقم هاتف بيته، وقال له: إنه أحضر رجلاً معتوهًا وجده ملقىً في الطريق العام، وأدخله الملجأ على حسابه، وقال له: إنه يرجو منه عند وفاة هذا الشخص أن يتصل به على رقم بيته هذا، من أجل أن يكسب الأجر والمثوبة من الله بدفنه، ووعده بمبلغ مجزٍ لقاء هذه الخدمة، وفي مساء ذلك اليوم سمع النزلاء ذلك الشيخ يقول بصوتٍ ضعيف مبكٍ: يا بنات، هاتوا الإبريق لأتوضأ، وهاتوا فراش الصلاة، وراح يرددها مرارًا؛ لأنه اعتاد ذلك عندما كان في بيته، غير أن من جاوره من العجزة في الملجأ قالوا له: أي بنات تقصد أيها المجنون؟! فقال لهم: زوجات أولادي، زوجات أبنائي، أين هن؟! وراح يرددها: يا بنات، يا بنات. فقالوا له: يا مجنون: أي نساء وأولاد؟! ليس هناك من أحد، لا نساء ولا أولاد، أنت هنا نائم معنا في ملجأ العجزة.
فقال لهم -وقد ترقرقت على خديه الدمعات ومسحها بأطراف كمه-: من الذي أحضرني إلى هنا؟! فأعلموه وقد عطفوا على حاله أنهم ثلاث شبان كرام، وجدوه ملقى على الشارع، فأحضروه ليكسبوا به أجرًا، فقال: وما وصفهم؟! قالوا: شباب طوال الجسم، ناصعو البياض، وصفاتٍ هي صفات أبنائه الثلاث، فازداد على إثر ذلك بكاؤه، وراحت دمعاته تسيل بغزارة، فراح يبكي هذا البكاء ويردد عبارته، وراح من حوله من العجزة يبكون، غير أنه تشجع فقال لهم: لقد كذبوا وصدقتم، فلقد عرفتهم، إنهم أبنائي، إنهم أبنائي، إنهم أبنائي، وراح يرددها مرارًا وهو يبكي، وأخيرًا طلب من أحدهم أن يدله على مدير الملجأ، فتطوع أحدهم وأخذه، وهناك سأل المدير: ملجؤكم يقبل الهبات مع الشروط؟! فقال له: نعم. فقال له: أنا فلان بن فلان، ومن عائلة فلان، أنا الشيخ المعتوه كما قال لك أبنائي، أنا الشيخ الذي وجدوني ملقى على الشارع كما زعموا، إن ما زعموه خلاف الواقع، فأنا أملك عقارات وأموالاً في استطاعتها أن تنفق على ملجئكم لسنوات طوال، وإني أعلن من هذا المكان أني أهبها لكم جميعها، ولتكن باسم ملجئكم، بيد أن لي شروطًا: أولها: أن يحضر مدير التسجيل إلى هنا، ولن أذهب إلى المدينة ما داموا فيها؛ إذ لن أخرج من هذا الملجأ إلا ميتًا، والشرط الثاني: هو أن يخرج الساكنون من عماراتي بعد موتي، ولا يحق لهم البقاء كمستأجرين، حتى ولو دفعوا أجرتها عشرة أضعاف ما تستحق. فوافق المدير، وتم التسجيل وكتابة الشروط. وحينما خرج مدير التسجيل استوقف الشيخ المسئول عن الملجأ وقال له: إن أنا مت فخذ أجري أنت، ولا أريد أبنائي أن يمسوني بعد موتي، لا، الذين كرهوني عندما كنت بين أيديهم، الذين كرهوني عندما حان وقت البر، لا أرتضي أن يدنسوا جسمي بأيديهم الملطخة بالعقوق رضاءً لزوجاتهم. رجاه الشيخ بذلك، وأجاب المسئول عن الملجأ أنه هو الذي يباشر دفنه إن شاء الله إن حضر موته. ولم يمض إلا يومان فقط، وإذا بالنزيل الجديد يلفظ أنفاسه الأخيرة يقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد، أنني غاضب منهم، اللهم كما حرمتهم من نعيم الدنيا فاحرمهم من نعيم الآخرة، اللهم لا ترني وجوههم في الآخرة إلا وهي ملتهبة بالنيران، اللهم ارزقهم عقوق أبنائهم، اللهم ارزقهم عقوق أبنائهم، اللهم أجب دعوتي، اللهم أجب دعوتي، وراح الشيخ يرددها، ومع كل ترديدة يقطع نياط قلب مستمعيه.
ما أقبح العقوق!! ما أقبح العقوق لاسيما عند كبر الوالدين!! وأين ذلك العقوق من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يجزئ -أي لا يكافئ- ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه". وحسبنا تلك الدعوة الصادقة من جبريل -عليه السلام- وتأمين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبعد والذل والهوان، ليس على من عق والديه، وإنما على من لم يبلغ من البر بهما ما يدخله الجنة، فما بالك بمن عقهما: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23، 24].
فالعقوق -أيها المسلمون- يتصدر الموبقات المهلكات بعد الشرك بالله -عز وجل-، كما أن بر الوالدين يتصدر مرتبة متقدمة في دين الله -عز وجل-.
بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله -عز وجل-، ومن الأبواب التي يلج منها العبد إلى الجنة، ففي الصحيحين عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟! قال: "الصلاة على وقتها"، أي أول وقتها كما في بعض الأحاديث، قلت: ثم أي؟! قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟! قال: "الجهاد في سبيل الله".
فالمؤمن مأمور ببر والديه وفاءً وإحسانًا لهما، وخدمة وتفقدًا لهما ولحوائجهما وما يرضيهما، وحرصًا كذلك على هدايتهما، ودعاءً لهما، وبدءًا بهما في رفق وأدب في الدعوة والإرشاد مع اللين والصبر، (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء:214].
وإذا كان حق الوالدين من الحقوق العظيمة المؤكدة، فإن حق الأم آكد وأعظم، يقول الله -عز وجل-: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) [لقمان: 14]، فهنا تأكيد على حق الأم لما تكبدته وتتكبده من أجل ولدها؛ لذا أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلزومها برًّا وخدمة وإحسانًا، فقال -عليه الصلاة والسلام-: "الزمها، فإن الجنة تحت أقدامها". وفي رواية: "الزم رجلها، فثمَّ الجنة". وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقها آكد من حق الأب ثلاث مرات، حين سأله رجل: يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أمك"، قال: ثم من؟! قال: "أبوك".
وبر الوالدين -أيها المسلمون- لا يسقطه شيء حتى لو الشرك، فلو كان الوالدان مشركين فإن برهما يبقى واجبًا، فعن أسماء -رضي الله عنها- أنها قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة -أي مشركة- أفأصلها؟! فقال لها -عليه الصلاة والسلام-: "نعم، صِلِي أمَّك". ولكن ذلك لا يعني طاعتهما في المعصية أو في مخالفة أمر الله، أو مصاحبتهما لحضور المعاصي، ولا يعني كذلك نصرتهما على أهل الحق المؤمنين، أو السكوت عنهما إذا ما اعتديا على العقيدة، بل إن اتخذ الوالدان خط محاربة المسلمين والكيد لهم فحينئذ يجب على الابن مناصرة أهل الحق ولو على والديه، وهذا أبو عبيدة يقتل أباه يوم بدر لأنه وقف محاربًا لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفي ذلك ومثله قوله -عز وجل-: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أخي المسلم: اتق الله في والديك، وبرهما، وأحسن إليهما ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وخاصة إذا كانا كبيرين في السن، ومهما بذلت -أيها المسلم- نحوهما فلا يساوي ما بذلاه نحوك، فقد كانا يحملان عنك الأذى، ويسهران لتنام هادئًا، وإذا مرضت قلقا عليك، ويرجوان حياتك، وأنت إن حملت عنهما شيئًا من الأذى، أو سهرت في تمريضهما، أو طال سقمهما، فإنك تسأم مصاحبتهما، وقد ترجو موتهما.
أيها المسلمون: إن الولد ما دام صغيرًا فإنه يظهر حبه لأمه قبل كل أحد، ثم لا يحب بعد أمه إلا أباه، الذي إذا دخل هشّ وبشّ له، وإذا خرج تعلَّق به، يرى أنه إذا رضي أعطاه كل شيء، وإذا غضب تكدَّر كل شيء، يخوِّف الناس كلهم بأبيه، فأي حب واحترام بعد هذا؟! ولكنه إذا كبر نسي الجميل، وأنكر المعروف، وقابل ذلك بالإساءة والعقوق.
فاتق الله -أيها الولد- واعلم أنك إن كنت اليوم مع والديك بارًّا أو عاقًّا، فسوف تكون غدًا -إن كان لك أولاد- محتاجًا إلى بر أبنائك وبناتك، وسيفعلون كما فعلت، كما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بروا آباءكم تبركم أبناؤكم"، واعلم أن عقوبة العقوق وخيمة ومعجلة في الدنيا قبل الآخرة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل الذنوب يؤخِّر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة، إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات". ثم لتعلم -أيها المسلم- أن دعوة الوالد على ولده مستجابة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده". وفي رواية: "دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده".
فيا من أبكى أبويه وأحزنهما وأسهر ليلهما، وحمَّلهما أعباء الهموم، وجرعهما غصص الفراق، ووحشة البعاد، هلا أحسنت إليهما وأرضيتهما وأضحكتهما، يبكيان عليك وأنت صغير إشفاقًا وحذرًا، ويبكيان منك وأنت كبير خوفًا وفرقًا، فهما أليفا حزن، وحليفا هَمٍّ وغمٍّ، فلما بلغت موضع الأمل ومحل الرجاء قلت: أهملهما في الأرض، أطلب كذا وكذا، فارقتهما على رغمهما باكيين، وتركتهما في وكرهما محزونين، فإن غاب شخصك عن عيونهما لم يغب خيالك عن قلوبهما، ولئن ذهب حديثك عن أسماعهما، لم يسقط ذكرك عن أفواههما، ولطالما بكيا ولم يذوقا غمضًا إن تأخرت عن الرواح في المساء، فكيف إذا أغلقا بابهما دونك؟! وأبصرا خلو مكانك ففقدا أنسك؟! ولم يجدا رائحتك؟! فكان ملاذهما سحَّ الدموع، فصار الولد خبرًا، وكل غريب ولدهما، وكل ميت هولهما، وسل عن حديثهما إذا لقيا إخوانك، وأبصرا أقرانك، ولم يبصراك معهم، فهنالك تسكب العبرات، وتتضاعف الحسرات، وأنت إذا فقدتهما وابتليت بموتهما فإنك لا تدرك إلا حينئذ فضلهما، ومقتَّ نفسك على إساءتك لهما، وتقول: ويحي، ماتا ورحلا قبل أن يجدا مني ما يرضي نفوسهما، ويمسح عنهما ما عاشاه من نكد مني في حياتهما.
فأدرك نفسك من اللحظة إن كنت مقصرًا في حقهما، وأما إن كانا قد توفاهما ربهما، فما لك إلا صدق التوبة والاستغفار لك ولهما بعد رحيلهما، والأمر لله في قبول توبتك واستغفارك أو عدم قبولهما.
ربنا ظلمنا أنفسنا ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، واغفر لنا ولوالدينا ولأموات المسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي