من معالم التربية النبوية

هشام عبد القادر آل عقدة
عناصر الخطبة
  1. الأدب من أعظم قضايا الدين الإسلامي .
  2. اهتمام السلف بالأدب وتفضيله على تعلم العلم .
  3. حرص النبي على نفسيات أصحابه .
  4. الترفق بعوام الناس وعدم الإغلاظ عليهم .
  5. عدم الترفع عن إحضار بينة عند الخصومة .
  6. الحلم وسعة الصدر مع المخالف .

اقتباس

قضية الأدب والخلق قضية عظيمة في هذا الدين، ولذا كان السابقون من السلف الصالح يحرصون أشد الحرص على تأديب أنفسهم بأدب الإسلام في كل شيء، وكانوا يقدمون الأدب قبل العلم؛ قال ابن المبارك -رحمه الله-: تعلمت الأدب ثلاثين سنة، وتعلمت العلم عشرين سنة ..

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عباد الله: إن من أجدر ما يربي به العبد نفسه وغيره سيرته -صلى الله عليه وسلم-، ففيها معالم عظيمة يهتدي بها المربون، لذلك فسوف نختار بعض الحوادث والوقائع من سيرته –صلى الله عليه وسلم-, ونبيّن ما نستفيده منها من دروس نافعة في تربية أنفسنا وغيرنا، في تعاملاتنا وعلاقاتنا وسائر أحوالنا؛ حتى نكون على مستوى أدب هذا الدين الذي بعث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليزكينا من كل المساوئ والمنكرات.

وقضية الأدب والخلق قضية عظيمة في هذا الدين، حتى إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ولذا كان السابقون من السلف الصالح يحرصون أشد الحرص على تأديب أنفسهم بأدب الإسلام في كل شيء، وكانوا يقدمون الأدب قبل العلم؛ قال ابن المبارك -رحمه الله-: تعلمت الأدب ثلاثين سنة، وتعلمت العلم عشرين سنة.

وقال الحسن البصري -رحمة الله-: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.

وقال ابن سيرين -رحمة الله-: كانوا -أي الصحابة رضوان الله عليهم- يتعلمون الهدي -أي السيرة والهيئة والطريقة- كما يتعلمون العلم.

وقال حبيب ابن الشهيد الفقيه لابنه: يا بني: اصحب الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم، فإن ذلك أحب إليّ من كثير من الحديث.

وقال بعضهم لابنه: يا بني: لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم.

وقال مخلد بن الحسين -المتوفى سنة 191هـ- لابن المبارك -رحمه الله-: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث. يقول ذلك في القرون المفضلة, فكيف لو رأى سوء أدبنا في هذا الزمان؟!

وقيل للشافعي -رحمه الله-: كيف شهوتك للأدب؟! فقال: أسمع بالحرف منه مما لم أسمعه فتود أعضائي أن لها أسماعًا فتنعم به. قيل: وكيف طلبك له؟! قال: طلب المرأة المضلة ولدها وليس لها غيره. وقال -رحمه الله-: ليس العلم بما حُفظ، العلم ما نفع.

فهلموا نتعلم شيئًا من الأدب من هديه -صلى الله عليه وسلم-، ونبدأ بما رواه مسلم في صحيحه عن أنس -رضي الله عنه-: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت, أي لم يخالطوهن ولم يساكنوهن في بيت واحد، فسأل أصحابُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222]. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله: إن اليهود تقول كذا وكذا, أفلا نجامعهن؟! -لعلهما قصدا, والله أعلم, إمعانًا في مخالفتهم- فتغير وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن ما ذكراه غير ممكن شرعًا وغير لائق طبعًا وعقلاً، فلا يمكن الترخيص فيه بحجة المخالفة لليهود، حتى ظننا أن قد وجد عليهما -أي غضب- فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل في آثارهما فسقاهما، فعرفا أنه لم يجد عليهما. [مسلم بشرح النووي (3/211، 212)].

فتأمل كيف كان -صلى الله عليه وسلم- مراعيًا لنفسيْ صاحبيه، حريصًا على أن يدفع عنهما ما قد يصيبهما من تغير أو ضيق أو حزن لا موجب أو لا سبب له في الحقيقة، وإنما يؤدي ظاهر بعض المواقف أحيانًا إلى شيء من هذا، حيث تُفهَم خطأ، فيحسن سرعة إزالة الالتباس والآثار الناتجة من هذا؛ لتبقى النفوس صافية منشرحة، وهنا طيّب -صلى الله عليه وسلم- نفوسهما بهذه الطريقة العملية اللطيفة، حيث أرسل من يدرك الرجلين ليأتي بهما ليشربا من هذا اللبن الذي أهدي إليه -صلى الله عليه وسلم-، فعرف الرجلان أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يغضب منهما.

ومثل هذه المواقف يتكرر كثيرًا؛ حيث يحزن البعض بسبب موقف ما، وعند التمحيص لا تجد أحدًا مخطئًا، ولكن ربما تصرف البعض في هذا الموقف تصرفًا ظاهره قد يوحي بالإساءة لفلان، وهو في الحقيقة ليس كذلك، فيحزن فلان، والأول يصر على عدم إزالة الحزن عنه بحجة أنه لم يخطئ في حقه, ويسعى الشيطان في زيادة الشر والوحشة بينهما، لذا فمن أحسّ من نفسه في موقف ما أنه بدر منه شيء ما من تعبيرات أو نظرات أو تصرفات يحتمل أن تفهم على أنها إساءة، فينبغي عليه سرعة إزالة ذلك؛ إما ببيان حقيقة الأمر أو بأية طريقة عملية كما صنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا يترك المجال للشيطان.

ومن الأمور العجيبة أنك تكون أحيانًا في مجلس عند شخص ما، وإذا بذلك الشخص يكثر التأفف والتضجر والنفخ، حتى تكاد تجزم -وبتحريض من الشيطان- أنك المقصود بهذا التضجر، وتكون الحقيقية غير ذلك، وإنما هذا الشخص لديه مشكلة ما أو يفكر في أمر ما لم تطلع عليه، وهو يتأفف منه، ولا يدور في باله أن يبيّن لك حقيقة الأمر، وللأسف كأنه وحده، ولا يراعي جلساءه ولا يراعي شعورهم, ولا يلتفت إلى ما يمكن أن يحدثه الشيطان بسبب ذلك، وذلك من عدم الأدب، وأقل الأمور أن يعتذر ويبيّن لهم أن هناك أمرًا لا يتعلق بهم، أو أن يكفّ عن تأففه ونفخه في وجوههم إلى أن ينصرفوا، وما أعظم خلقه -صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي- إذ يقول عنه خادمه أنس بن مالك -رضي الله عنه-: خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ، قط.

ومن هديه -صلى الله عليه وسلم- في تطييب نفوس أصحابه وتأليفهم، والمبادرة لإزالة ما علق بها من تغيُّر نتيجة لفهم خاطئ، ما حكاه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- في غزوة حنين أو أوطاس أو هوازن، حين أعطى رسول الله العطايا للمؤلفة قلوبهم من قريش ومن قبائل العرب، ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فقال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: لما أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطى من تلك العطايا في قريش، وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت فيهم القالة -أي الكلام- حتى قال قائلهم: لقي والله رسول -صلى الله عليه وسلم- قومه، ولاشك أن هذا كان سوء فهم من قائله وخطأ في حقه صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك –أي غضبوا- في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يكن في الحي من الأنصار منها شيء. قال: "فأين أنت من ذلك يا سعد؟!"، قال: يا رسول الله: ما أنا إلا من قومي. قال: "فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة"، قال: فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا، أتى سعد فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "يا معشر الأنصار, مقالة بلغتني عنكم، وجِدَةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وأعداءً فألف بين قلوبكم؟!"، قالوا: الله ورسوله أمنّ وأفضل. ثم قال: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟!"، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟! لله ولرسوله المنّ والفضل. قال: "أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدَقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيانك؟!" -وهذا من أعظم الأدب، وهو عدم تجاهل أدلة المخالف وحججه ولو كانت غير قوية استغلالاً لحيائه أو غفلته عنها, بل تعترف بها وتصرح بما له، قال ابن حجر: وإنما قال -صلى الله عليه وسلم- ذلك تواضعًا منه وإنصافًا, وإلا ففي الحقيقة الحجة البالغة والمنة الظاهرة في جميع ذلك له عليهم. [الفتح 7/ 648]- "أوجدتم عليَّ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون -يا معشر الأنصار- أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعون برسول -صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده، لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وواديًا، وسلكت الأنصار شعبًا وواديًا لسلكت شعب الأنصار وواديها، الأنصار شعار، والناس دثار, اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار". قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول -صلى الله عليه وسلم- قسمًا وحظًا. ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتفرقوا.

والشعار: الثوب الذي يلي الجلد من الجسد، والدثار الذي فوقه. وهي استعارة لطيفة لفرط قربهم منه، وأراد أيضًا أنهم بطانته وخاصته, وأنهم ألصق به وأقرب إليه من غيرهم. [الفتح (7/649)].

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار"، غاية الأدب والتواضع والتطييب لنفوسهم؛ فإن العلماء قالوا: إن المهاجرين على وجه الجملة أفضل من الأنصار، ففي كلامه -صلى الله عليه وسلم- تأليف عظيم لقلوبهم وشرف لهم. قال الخطابي: أراد بهذا الكلام تألّف الأنصار، واستطابه نفوسهم، والثناء عليهم في دينهم، حتى رضي أن يكون واحدًا منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها. فما أروع خلقه وأدبه -صلى الله عليه وسلم-!! وصدق الله الكريم إذ يقول في حقه -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4].

عباد الله: ومن المواقف التربوية العظيمة في حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- ما رواه البخاري عن خالد بن ذكوان قال: قالت الرُّبيّع بنت معوِّذ بن عفراء: جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يدخل حين بُني عليّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني -وقيل: إنه محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب, أو كان قبل نزول آية الحجاب, أو أنه من خصائصه -صلى الله عليه وسلم-, أو على جواز النظر للحاجة أو عند أمن الفتنة. قال ابن حجر: وهو المعتمد. [الفتح (9/110)]-. فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف، ويندبن من قُتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن:

وفينا نبيٌّ يعلم ما في غد

فقال: "دعي هذا، وقولي بالذي كنت تقولين"، وزاد في رواية: "لا يعلم ما في غد إلا الله".

فهذه الحادثة فيها الترفق بالعوام، ومراعاة ذلك في أمرهم ونهيهم، فإنهم في كثير من الأحيان تخالط أخطاءهم طِيبة في قلوبهم. وهنا صحح الرسول -صلى الله عليه وسلم- الخطأ لكن بهذه الصورة الرقيقة الخالية من الغلظة والزجر، وذلك لأن الخطأ لم يكن مقصودًا، ومراعاة لحال المخطئ من الجهل مع طِيبة القلب. فقال -عليه الصلاة والسلام-: "دعي هذا، وقولي بالذي كنت تقولين"، وهذه الكلمة الأخيرة لا تخلو من تلطف وإزالة للحرج، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينهرها ويأمرها بالسكوت مطلقًا بعد أن أخطأت ذلك الخطأ، وإنما أرشدها لترك ذلك الإطراء الخاطئ، وسمح لها بالمضي في غيره، وإن كان مدحًا له -صلى الله عليه وسلم- ما دام خاليًا من الغلو والمجازفات. قال ابن حجر -رحمه الله-: وفيه -أي في الحديث- من الفوائد: إقبال الإمام إلى العرس، وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حد المباح -ومن المعلوم أنه يجوز من اللهو في العرس ضرب النساء دون الرجال على الدفوف دون غيرها من المعازف- وفيه جواز مدح الرجل في وجهه ما لم يخرج إلى ما ليس فيه. اهـ.

ومن المواقف كذلك -عباد الله- ما رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة - أي طرف الثوب- وأخذت هدبة من جلبابها. وخالد بن سعيد بن العاص بالباب ولم يؤذن له، فقال: يا أبا بكر: ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! فما زاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن التبسم. قال ابن حجر: وفيه ما كان الصحابة عليه من سلوك الأدب بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وإنكارهم على من خالف ذلك بفعله أو قوله.

هذا الحديث فيه موقف تربوي لطيف نستفيد منه في معاملاتنا وكلامنا مع كثير من العوام والبسطاء الذين يجهرون أحيانًا بأمور يتحرج غيرهم من التلفظ بها، فقد يكون المشروع معهم في مثل ذلك الحال المداراة لا الإنكار ما دام الأمر لم يخرج إلى حد المخالفة الشرعية, ويغتقر للعوام كثير من أساليب الكلام التي لو استخدمها مثلاً طالب العلم أو الداعية لم يكن لائقًا به، وهنا أتت هذه المرأة تشكو لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حالها مع زوجها الذي لا يحسن جماعها, فتكلمت على سجيتها، ووصفت الحال كما في الحديث, ما أزعج خالد بن سعيد رضي الله عنه، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- ما زاد على التبسم، فكل إنسان له قدرة على التعبير، والعامي قد لا تسعفه لغته في التكنية والتورية عما يخجل من التفوه به, فيسامَحون في ذلك ما داموا لم يرتكبوا مخالفة شرعية, فحينئذ يصحح لهم خطؤهم أو تترك مجالستهم.

وقال ابن حجر -رحمه الله- في قوله: فما زاد على التبسم: ولذلك لما رأى أبو بكر النبي -صلى الله عليه وسلم- يتبسم عند مقالتها لم يزجرها، وتبسمه -صلى الله عليه وسلم- كان تعجبًا منها، إما لتصريحها بما يستحي النساء من التصريح به غالبًا، وإما لضعف عقل النساء؛ لكون الحامل على ذلك شدة بغضها للزوج الثاني ومحبتها في الرجوع إلى الزوج الأول. ويستفاد منه جواز وقوع ذلك. [الفتح (9/376)].

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الفهم عنه -صلى الله عليه وسلم-، والتعلم من سيرته العطرة، والتأدب بأخلاقه الجمة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فمن المواقف التربوية العظيمة في حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- كذلك ما رواه أبو داود وأحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح إلا عمارة بن خزيمة -وهو ثقة-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتاع فرسًا من أعرابي, فاستتبعه النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقضيه ثمن فرسه, فأسرع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ابتاعه, حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنادى الأعرابي النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن كنت مبتاعًا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته. فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- حين سمع نداء الأعرابي، قال: "أوليس قد ابتعته منك؟"، قال الأعرابي: لا والله ما بعتك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بل قد ابتعته منك"، فطفق الناس يلوذون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والأعرابي وهما يتراجعان، فطفق الأعرابي يقول: هلمّ شهيدًا يشهد أني بايعتك، فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي: ويلك، إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يقول إلا حقًّا، حتى جاء خزيمة، فاستمع لمراجعة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومراجعة الأعرابي، يقول: هلمّ شهيدًا يشهد أني بايعتك. قال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- على خزيمة فقال: "بم تشهد؟!"، فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهادة خزيمة بشهادة رجلين.

فلو فقهنا هذا الحديث العظيم –أيها الإخوة الأحباب- وهذا الخلق والأدب الجم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لعرف كل منا ما له وما عليه، ففي هذه الأيام كل منا اعتقد في نفسه فضلاً أو شرفًا أو علمًا، والكل -إلا من رحم الله- مع الأسف يعتقد في نفسه ذلك، أقول: من اعتقد في نفسه شيئًا من ذلك أحب أن يحصل على حقوقه هكذا دون بينة، ويستكبر أن يُطلب منه دليلٌ على ما يقول؛ لأنه المعصوم المقدس, ويستنكف أن يعترض أحد كما اعترض ذلك الأعرابي النبي -صلى الله عليه وسلم-, ما أصبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما أحلمه وذلك الأعرابي يتجاهل البيع الذي تم!! ويهدد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن يدفع الثمن الأكثر وإلا لم يبع له، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أوليس قد ابتعته منك؟!"، والأعرابي الكاذب يحلف أن لا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يسبه ولا يردد أكثر من قوله: "بل قد ابتعته منك". نعم، فما كان ليأخذ الفرس ويمضي البيع بسلطانه، فكيف وهو يقول للناس: "لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم"، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر, وكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صادقًا في حقيقة الأمر, إلا أنه والجميع مقيدون بأحكام الشرع، والناس لهم الظاهر, ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- مطالب بالبينة على ما يقول, فما أحلمه -صلى الله عليه وسلم- وما أوسع صدره!! لم يكن جبّارًا -عليه الصلاة والسلام- ولا متكبرًا ولا مغرورًا. ما أصبره على هذا الأعرابي! وما أعظم امتثاله وتقيده كغيره بأحكام الشرع وحدوده عند المنازعة على شيء.

ثم ما أعظم ورع الصحابة والتزامهم الحق!! فهم يعلمون يقينًا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يقول إلا حقًا، ولكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا شاهدين, لذا فكان من جاء منهم لم يزد على أن يقول للأعرابي: ويلك! إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن ليقول إلا حقًا. حتى جاء خزيمة وباجتهاده في المسألة عرف أنه يجوز الشهادة على حدوث ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو لم يره لِما قام من الأدلة القاطعة على صدقه -صلى الله عليه وسلم- وانتفاء الكذب عنه -صلى الله عليه وسلم-، ولولا أن الله ساق خزيمة في هذا الوقت للإدلاء بهذه الشهادة ما ألزم النبي -صلى الله عليه وسلم- الأعرابي بشيء، فهل نستفيد من ذلك أن نطهر أنفسنا من الجبروت والغرور والكبر وإدعاء العصمة؟!

اليوم في كل منازعة يريد منك كل طرف من الطرفين أن يلزمك بتصديقه دون نقاش, ويغضب غضبًا شديدًا بمجرد شعوره أنك تفكر في بينة، أو أنك تريد أن تسمع من خصمه كما سمعت منه، وقد يكون أقل تقوى وأدبًا من خصمه, ولكنه كأنما اعتقد في نفسه العصمة, ويريد أن يجعل لنفسه من الحقوق ما لم يجعله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه، الحقيقة أننا بهذا نريد أن نكون جبابرة لا هداة مهتدين.

وربما وجدنا كذلك أن البعض لا يتحملون أن يناقشهم أحد فيما يقولونه، يريدون أن يؤخذ كلامهم كالقرآن, ويكرهون أن يراجعهم أحد في شيء, بل ربما كره بعض المعلمين ذكاء المتعلم وحقدوا عليه وغاروا منه، بينما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متواضعًا واسع الصدر, مع ما له من المكانة العالية عند الله -جل وعلا-، وكان يقول الشيء فيراجعه فيه أصحابه فلا يضيق بهم, بل يبين لهم، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من نوقش الحساب عذب"، فقالت عائشة -رضي الله عنها-: أوليس الله تعالى يقول: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) [الانشقاق:8]؟! فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب عذب"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.

ولما قال -عليه الصلاة والسلام-: "يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً"، قالت -رضي الله عنها-: ينظر بعضهم إلى عورة بعض؟! قال: (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:37].

ولما أتاه أعرابي فجذبه من ردائه وقال: يا محمد: أعطني من مال الله، فإنه ليس مال أبيك ولا مال أمك, لم يزل -صلى الله عليه وسلم- يعطيه حتى رضي. وقال أنس -رضي الله عنه-: خدمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين، فما قال لي: أفٍ، قط. فما أحلمه -صلى الله عليه وسلم- وما أوسع صدره!!

ولما صالح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المشركين في الحديبية على أن من أسلم منهم رده -صلى الله عليه وسلم- إليهم, ومن ارتد لم يردوه إليه. فقال عمر -رضي الله عنه-: يا رسول الله: أولسنا بالمسلمين؟! فلا يضيق به -صلى الله عليه وسلم-, بل يجيبه: "بلى"، فيقول عمر: أوليسوا بالمشركين؟! فيسترسل معه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويجيبه: "بلى"، فيقول عمر: فلمَ نعطي الدنية في ديننا؟!

بل تأمّل حلمه العظيم -صلى الله عليه وسلم- وتحمله للجفاء والاستسفارات الغاضبة المندفعة فيما رواه البخاري عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أُبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأله أن يعطيه قمصيه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الهل: تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما خيرني الله فقال: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [التوبة: 80]، وسأزيده على السبعين" -وهذا من طيب قلبه صلى الله عليه وسلم وعفوه وعدم رغبته في الانتقام لنفسه، وإلا فكم كان ذلك المنافق شديد البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم-، قال: إنه منافق. قال: فصلى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنزل الله -عز وجل-: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) [التوبة:84].

وللإمام أحمد عن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: لما توفي عبد الله بن عبد الله بن أبي دعي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للصلاة عليه، فقام إليه, فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره، فقلت: يا رسول الله: أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم كذا كذا وكذا؟! -يعدد أيامه- قال: ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبتسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: "أخر عني يا عمر، إني خيرت فاخترت، قد قيل لي: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ...) الآية. لو أعلم أني لو زدت على السبعين غُفِر له لزدت". قال: ثم صلى ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه. قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

والحديث ليس بحاجة إلى تعليق. ولا يبقى لنا -عباد الله- إلا أن نقول: هل لنا أن نطهر أنفسنا من الكبر والتعالي؟! وهل تتسع صدورنا لبعضنا؟! وهل نتحمل الاستفسارات والاعتراضات؟! وهل نتحلى بالحلم والتواضع والعفو والصبر ونتأسى بشمائله -صلى الله عليه وسلم- ونهتدي بهديه؟! اللهم أعنّا على ذلك، وأصلح فساد قلوبنا، وتوفنا على ما توفيت عليه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وصحبه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي