وما زال الدين في عز منذ أسلم عمر، كما قال حذيفة -رضي الله عنه-: لما أسلم عمر كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربًا، فلما قتل عمر كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدًا. وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: سبق أن تحدثنا عن هديه -صلى الله عليه وسلم- في مختلف أمور حياته، ثم تحدثنا بعد ذلك عن الصدِّيق أبي بكر، انطلاقًا من قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اقتدوا باللذيْن من بعدي: أبي بكر وعمر"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".
حديثنا اليوم عن:
ثانيه في الفضـل بلا ارتياب *** الصـادع الناطق بالصواب
أعني به الشهم أبا حفص عمر *** من ظاهر الدين القويم ونصر
الصارم المنكي على الكفـار *** ومـوسع الفتوح في الأمصار
حديثنا اليوم عن ثاني الخلفاء الراشدين، أمير المؤمنين، أبي حفص، الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- المجاهد بالحق، الذي لا يخاف في الله لومة لائم، الذي أظهر الإسلام وفرّق بين الحق والباطل، وبه سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- الفاروق. وقال -عليه الصلاة والسلام-: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر". وهو -رضي الله عنه- أحد المبشرين بالجنة، وأحد كبار علماء الصحابة وزهادهم.
قال -عليه الصلاة والسلام-: "بينا أنا نائم، رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، قلت: لمن هذا القصر؟! قالوا: لعمر، فذكرت غيرتك، فوليت مدبرًا". فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟!.
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "بينما أنا نائم شربت -يعني اللبن- حتى أنظر الري يجري في أظفاري، ثم ناولته عمر"، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: "العلم".
وقال -عليه الصلاة والسلام-: "بينا أنا نائم رأيت الناس عليَّ وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض عليَّ عمر وعليه قميص يجرُّه". قالوا: فما أولته يا رسول الله؟! قال: "الدين".
ولقد بلغ من فضله -رضي الله عنه- وشدته في دين الله أن كانت الشياطين تخاف منه، فقد قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجك". وقال له: "إن الشيطان ليفرق منك يا عمر". وقال: "إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فروا من عمر".
ومن فضله وبصيرته بالحق أنه وافق ربه في أشياء كثيرة، وفي ذلك يقول -رضي الله عنه-: "افقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟! فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً) [البقرة: 125]. وقلت: يا رسول الله: يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن يحتجبن! فنزلت آية الحجاب: (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب) [الأحزاب: 53]. واجتمع نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- في الغيرة -أي بسبب معاتبة جرت في ذلك في أمور بسبب غيرتهن- فقلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن. فنزلت كذلك.
وهناك غير هذه الثلاثة، مثل ما رواه ابن عباس أن المسلمين في يوم بدر لما أسروا الأُسارى قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟!"، فقال أبو بكر: هم -يا نبي الله- بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ترى يا ابن الخطاب؟! قلت: لا والله -يا رسول الله-، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان -نسيبًا لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت: يا رسول الله: أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أبكي للذي عرض علي في أصحابك من أخذ الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة" -شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله -عز وجل-: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ) إلى قوله: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا) [الأنفال: 67- 69]، فأحل الله الغنيمة لهم.
ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الترمذي بإسناد حسن قال: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب". وقال -عليه الصلاة والسلام-: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدَّثون -أي ناس ملهمون- فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر". وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه".
وما زال الدين في عز منذ أسلم كما قال حذيفة -رضي الله عنه-: لما أسلم عمر كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربًا، فلما قتل عمر كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدًا.
وعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، كان -رضي الله عنه- قد خرج قبل إسلامه إلى أخته ليؤدبها على تركها دين قومها، فيشاء الله -بعد أن يطلع على آيات من سورة طه- أن يتوجه إلى محمد -صلى الله عليه وسلم وكان في دار بأصل الصفا- ليعلن إسلامه، وكان -عليه الصلاة والسلام- قد دعا: "اللهم أعزَّ الإسلام بعمر بن الخطاب خاصة"، فانطلق عمر حتى أتى الدار وعلى بابها حمزة وطلحة وناس، فقال حمزة: هذا عمر، إن يرد الله به خيرًا يسلم، وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينًا، وكان النبي -أثناء ذلك- في داخل البيت يوحى إليه، فخرج -عليه الصلاة والسلام- حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال: "ما أنت بمنتهٍ -يا عمر- حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة"، ولقد جاءت هذه الهزة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعمر مع بصيرته النافذة في الوقت المناسب، فلم تغضب عمر، وإنما فرّقت الشرك من كيانه، وفتحت نفسه للإسلام، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله. فما هو إلا أن أسلم، فظهر الإسلام بمكة، وفرح به المسلمون، ثم ذهب يعلن ذلك ويخبر أبا جهل ليصيبه بالنكد والغيظ.
وكذلك لما هاجر كان له شأن؛ فعن علي -رضي الله عنه- قال: ما علمت أحدًا هاجر إلا مختفيًا، إلا عمر بن الخطاب، فإنه لما همَّ بالهجرة تقلَّد سيفه وأتى الكعبة -وأشراف قريش شهود- فطاف وصلى، ثم أتى حلقهم واحدة واحدة، فقال: شاهت الوجوه -أي قبحت-، من أراد أن تثكله أمه -أي تفقده- وييتم ولده، وترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي. فما تبعه منهم أحد.
يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: كان إسلام عمر فتحًا، وكانت هجرته نصرًا، وكانت إمامته رحمة، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي إلى البيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا.
وعن صهيب قال: لما أسلم عمر -رضي الله عنه- أظهر الإسلام ودعا إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقات، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعضًا مما يأتي به، وكان عمره -رضي الله عنه- حينذاك سبعة وعشرين سنة، وقيل: ستة وعشرين سنة.
وقضى حياته -بعد ذلك- مصاحبًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وشهد معه المشاهد والغزوات حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنه راضٍ، ثم كان خير وزير وجندي لأبي بكر -رضي الله عنه- حتى توفي وهو عنه راضٍ، ثم ولي الخلافة من بعده، فكانت أول خطبة خطبها أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبيّ، فمن كان بحضرتنا بشرناه بأنفسنا، ومن غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة، ومن يحسن نزده حسنًا، ومن يسئ نعاقبه، ويغفر الله لنا ولكم. فقام بالأمر أتم قيام.
وكثرت الفتوحات في أيامه في بلاد فارس والشام وشمال إفريقيا وغيرها، وارتفع مستوى التنظيم وإدارة البلاد في الداخل، فقد كان عمر -رضي الله عنه- مع شدته في دين الله يحب ما فيه القوة والنفع للأمة، ويأخذ بما يراه مناسبًا في ذلك ولو استفيد من غير المسلمين، فإنه لما كثر الناس وازدادت الفتوحات وكثرت الأموال استشار عمر المسلمين في ذلك، فقال له عليّ: تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من مال ولا تمسك منه شيئًا، وقال عثمان: أرى مالاً كثيرًا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن يلتبس الأمر. فقال له الوليد بن هشام بن المغيرة: يا أمير المؤمنين: قد جئت الشام فرأيت ملوكها قد دونوا ديوانًا وجندوا جنودًا، فدَوِّنْ ديوانًا وجَنِّدْ جنودًا)، فأخذ بقوله، وكتب عمر إلى حذيفة أن أعط الناس عطيتهم وأرزاقهم، فكتب إليه: أنّا قد فعلنا، وبقي شيء كثير، فكتب إليه عمر: إنه فيؤهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر ولا لآل عمر، اقسمه بينهم.
وكانت سيرته في رعيته وفي مال المسلمين تقوم على القاعدة التي بينها -رضي الله عنه- بقوله: إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة والي اليتيم من ماله، إن أيسرت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإن أيسرت قضيت.
وكان يبدأ بنفسه وأهل بيته فيما يأمر به أو ينهى عنه؛ يقول ابنه عبد الله: كان عمر إذا أراد أن ينهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: لا أعلمنّ أحدًا وقع في شيء مما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة.
وقال النخعي: كان عمر يتّجر وهو خليفة.
وقال أنس: تقرقر بطن عمر من أكل الزيت عام الرمادة، وهو عام أصاب الناس فيه مجاعة، وكان قد منع عن نفسه السمن، فنقر بطنه بأصبعه وقال: إنه ليس عندنا غيره حتى يحيا الناس.
ودخل يومًا على ابنه عاصم وهو يأكل لحمًا فقال: ما هذا؟! قال: قرمنا إليه -يعني اشتدت شهوتنا له- قال: أوَكلما قرمت إلى شيء أكلته؟! كفى بالمرء سرفًا أن يأكل ما اشتهى.
ودخل على ابن له -وقد ترجل ولبس ثيابًا حسنة- فضربه عمر بالدِّرة حتى أبكاه، فقالت له حفصة: لم ضربته؟! قال: رأيته قد أعجبته نفسه، فأحببت أن أصغّرها إليه. وكان عمر -وهو خليفة- يلبس جبة من صوف مرفوعة بعضها بأدم، ويطوف في الأسواق على عاتقه الدرة يؤدب بها الناس. وكان أول من اتخذ الدرة، وكان يقال للحكام والأمراء من بعده: لَدرة عمر أهيب من سيفكم.
وكان يعسُّ بالليل -أي يطوف- يتفقد أحوال الناس، فيقضي حاجة ذي الحاجة، ويرق لأحوال الناس، بينما يأخذ نفسه بالشدة والزهد خوفًا من مقامه بين يدي الله -عز وجل-.
قال أنس: دخلت حائطًا -أي بستانًا- فسمعت عمر يقول -وبيني وبينه جدار-: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ بخ، والله لتتقين الله -يا ابن الخطاب- أو ليعذبنك الله.
وقال عبد الله بن عامر: رأيت عمر أخذ تبنة من الأرض فقال: ليتني كنت هذه التبنة، يا ليتني لم أك شيئًا، ليت أمي لم تلدني.
وقال أنس: رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع في قميصه.
وقال عبد الله بن عامر: حججت مع عمر، فما ضرب فسطاطًا ولا خباءً، كان يلقي الكساء على الشجرة ويستظل تحته.
وقال عبد الله بن عيسى: كان في وجه عمر بن الخطاب خطان أسودان من البكاء.
وقال عبيد الله بن عمر بن حفص: حمل عمر بن الخطاب قربة على عنقه، فقيل له في ذلك. فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها.
وكان له -مع زهده وفضله- كرامات حفظتها كتب التاريخ والسنة؛ فعن ابن عمر قال: وجّه عمر جيشًا، ورأس عليهم رجلاً يدعى سارية، فبينما عمر يخطب -يعني الجمعة- جعل ينادي: يا ساريةُ الجبلَ، ثلاثًا. ثم قدم رسول الجيش، فسأله عمر عما كان من أخبارهم، فقال: يا أمير المؤمنين: هُزمنا، فبينما نحن كذلك إذ سمعنا صوتًا ينادي: يا ساريةُ الجبلَ، ثلاثًا، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله، وذلك الجبل الذي كان سارية عنده بنهاوند من أرض العجم، وعمر بالمدينة. قال ابن حجر: إسناده حسن.
ومن كراماته ما رواه نافع عن ابن عمر قال: قال عمر بن الخطاب لرجل: ما اسمك؟! قال: جمرة. قال: ابن من؟! قال: ابن شهاب. قال: ممن؟! قال: من الحرقة. قال: أين مسكنك؟! قال: الحرة. قال: بأيها؟! قال: بذات لظى. فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا، فرجع الرجل، فوجد أهله قد احترقوا.
ومن كراماته قصة ذكرها الإمام السيوطي في تاريخ الخلفاء، والله أعلم بمدى صحتها، فذكر فيها أنه لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص، فقالوا: أيها الأمير: إن لنيلنا هذا سُنَّة لا يجري إلا بها، قال: وما ذاك؟! قالوا: إذا كان إحدى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر -يعني الشهر الذي كان يحدثه فيه- عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الثياب والحلي أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون أبدًا في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا والنيل لا يجري قليلاً ولا كثيرًا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب بذلك. فماذا يفعل عمر في ذلك الأمر العظيم؟! تناوله بيسر المسلم وثقة المؤمن، فكتب إلى عمرو: أن قد أصبت بالذي قلت، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، وبعث بطاقة في داخل كتابه، وكتب إلى عمرو: إني قد بعثت إليك ببطاقة في داخل كتابي، فألقها في النيل، فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو بن العاص أخذ البطاقة ففتحها، فإذا فيها: من عبد الله: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد: فإن كنت تجري من قِبَلِكَ فلا تجرِ، وإن كان الله يجريك فأسأل الله الواحد القهار أن يجريك، فألقى البطاقة في النيل، فأصبحوا وقد أجراه الله تعالى، فقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم.
ويطول بنا الحديث عن عمر -أيها المسلمون- إن استرسلنا فيه. فحسبنا هذه الإشارات.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلم يبق لنا إلا أن نصحب أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في آخر حياته، وفي فراقه الأليم لهذه الدنيا، وقد كان -رضي الله عنه- في رجوعه من الحج في سنته التي قتل فيها، بعد أن خرج من منى استلقى ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط. فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل.
كان -رحمه الله- يدعو: اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك. وكان الناس يعجبون من ذلك: كيف يجتمع له الشهادة مع الموت في المدينة حيث لا حرب ولا قتال.
ويشاء الله –سبحانه- أن تتحقق دعوة عمر، فقبل مقتله بأربع ليال، كان يقول: لئن سلمني الله تعالى لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدًا. فما أتت عليه رابعة حتى أصيب -رضي الله عنه-.
قال عمرو بن ميمون: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهن خللاً تقدم فكبّر، وكان أبو لؤلؤة المجوسي قد اختبأ له في بعض زوايا المسجد من قبل صلاة الفجر ليقتله، وكان قد سخط عليه لأنه استكثر الخراج الذي يأخذه منه، وأراد من عمر أن يخفف عنه فأبى، وقد كان عمر أكرمه، وكان أبو لؤلؤة صاحب صناعات ومكاسب كثيرة، وكان عمر قد سمح له بالتكسب في بلاد المسلمين.
فما هو إلا أن كبَّر عمر حتى طعنه في كتفه وخاصرته، وطار قاتله بخنجر ذي طرفين، لا يمر على أحد يمينًا ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا، فلما رأى المجوسي أنه مأخوذ نحر نفسه.
أما عمر -رضي الله عنه- وقد طعن ودماؤه تنزف، كان همه أن يصلي المسلمون الفجر، فتناول يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، وكل ذلك يحدث والناس البعيدون في نواحي المسجد لا يدرون ماذا يحدث، غير أنهم فقدوا صوت الفاروق عمر -رضي الله عنه- فأخذوا يقولون: سبحان الله، سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس انظر من قتلني، فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة -يعني أبا لؤلؤة المجوسي- فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدّعي الإسلام. ثم احتمل إلى بيته وانطلق الناس معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بشراب فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه، فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت، وكان قد صلى -رحمه الله- والدماء تنزف منه.
ودخل عليه المسلمون، وجاء الناس يثنون عليه، وهو -رضي الله عنه- في هذه الحالة لا يغيب عنه النصح للرعية والنظر فيمن حوله لعله يجد منكرًا فيغيره، جاءه رجل شاب فقال: أبشر -يا أمير المؤمنين- ببشرى الله لك من صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. فقال عمر: وددت أن ذلك كفاف، لا علي ولا لي. فلما أدبر ذلك الشاب نظر إليه عمر، فإذا هو مسبل -أي تجاوزت ثيابه الكعبين وإذا ثوبه يمس الأرض- فقال عمر: ردوا عليَّ الغلام، ثم قال له عمر المجروح المطعون الذي أوشك على الموت: يا ابن أخي: ارفع ثوبك، إنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
ثم قال عمر: يا عبد الله بن عمر: انظر ما عليَّ من الدين، فحسبوه وأخبروه، فقال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعد إلى غيرهم، فأدِّ عني هذا المال. وانطلق إلى عائشة فقل: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه -يعني رسول الله وأبا بكر-، فذهب إليها عبد الله، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه -يعني في حجرتها رضي الله عنها- فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي، فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟! قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت. قال: الحمد لله، ما كان من شيء أهم إليَّ من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردني إلى مقابر المسلمين.
وجاءت أم المؤمنين حفصة -رضي الله عنها- فاستأذن الرجال، ودخلت على عمر وبكت، وقد كان عمر في حجر ابنه عبد الله، فقال له: ضع خدي على الأرض، فقال عبد الله: وما عليك إن كان في حجري أم على الأرض، فقال: ضع خدي على الأرض لا أم لك، ويلي وويل أمي إن لم يرحمني ربي. وقال لابنه: اقتصدوا في كفني؛ فإنه إن كان لي عند الله خير أبدلني ما هو خير منه، وإن كنت على غير ذلك سلبني فأسرع سلبي، واقتصدوا في حفرتي، فإنه إن كان لي عند الله خير أوسع لي فيها مد بصري، وإن كنت على غير ذلك ضيقها عليَّ حتى تختلف أضلاعي، ولا تخرج معي امرأة، ولا تزكوني بما ليس فيَّ، فإن الله هو أعلم بي، فإذا خرجتم فأسرعوا في المشي؛ فإنه إن كان لي عند الله خير قدمتموني إلى ما هو خير لي، وإن كنت على غير ذلك ألقيتم عن رقابكم شرًّا تحملونه.
ثم أخذ يوصي المسلمين بعضهم ببعض، فقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرًا، الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا؛ فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم. وما زال ينصح ويوصي ويعظ حتى قبضت روحه.
ولما وضع على سريره اجتمع الناس حوله، ومنهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- يترحم على عمر ويقول: ما خلفت أحدًا أحب إليَّ أن ألقى الله بمثل عمله منك -وايم الله- إن كنت لأظن أن يجعلك الله تعالى مع صاحبيك، وحسبك أني كنت أسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول كثيرًا: "ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر". ثم خرج به الصحابة يمشون، وقيل: إن الذي صلى عليه صهيب -في المسجد- ثم ذهبوا به إلى بيت عائشة -رضي الله عنها- فسلم عبد الله بن عمر وقال: يستأذن عمر بن الخطاب. قالت: أدخلوه، فأُدخِل فوُضِع هنالك مع صاحبيه، ووضع عليه التراب بعد سنوات ذهبية، وحياة مباركة حافلة بالخير والجهاد والإصلاح.
وقد كانت مدة خلافته عشر سنين وستة أشهر، ومات سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وله من العمر ثلاث وستون سنة على الأشهر، وهي السن التي توفي لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-. رحمة الله عليهم جميعًا رحمة واسعة، وعلى جميع موتى المسلمين والمسلمات، الذين قضوا نحبهم على مثل ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- وصاحباه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي