الثبات على الحق والحذر من الانتكاس

عناصر الخطبة

  1. في مسيرِ الإنسان إلى ربِّه فتنٌ وبلاءات
  2. التحذير من الانتكاس عن الطريق المستقيم
  3. مظاهر ضعف أفراد المجتمع المسلم
  4. لكل عامل فترة
  5. حرص السلف على تفقد قلوبهم
  6. أسباب الانتكاس عن الطاعات
  7. أسباب الثبات على طاعة الله

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفُسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِه وصحبِه أجمعين.

أما بعد:

فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله في السرِّ والعلانية؛ فهي العُدَّةُ وهي مهبطُ الفضائل، ومُتنزَّلُ المحامِد، وهي مبعثُ القوةِ ومِعراجُ السمُوِّ، والرابطُ الوثيقُ على القلوبِ عند الفتن: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

أيها المسلمون: الإقبالُ على الله، وهناءةُ القلب به، وإلفُ الجوارِح للطاعات، وصُدودُها عن الآثام هو كنزٌ مُعجَّل، وفوزٌ حاضرٌ ومُؤجَّل، ورِبحٌ للإنسان وتوفيقٌ له، وكلٌّ يأملُ أن يُوفَّقَ إلى ما يُرضِي الرحمن، إلا أنه مع ذلك لا بُدَّ أن يُدرِك المُسلمُ أن قلبَه الذي عمرَه الإيمان حِصنٌ مُستهدَف، وجوارِحَه التي تذلَّلت بالطاعة وللطاعة غرضٌ تتربَّصُ به العوادِي. فهي أحقُّ ما حُرِس، وأكرمُ ما حُمِي.

وفي مسيرِ الإنسان إلى ربِّه فتنٌ وبلاءات، ودروبٌ خطَّافةٌ ومزالِق، وتلك سُنَّةُ الله الماضِية: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]، ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 35]. ولا يزالُ المؤمنُ في جهادٍ ما دامَت رُوحُه بين جنبَيْه.

ومما يُروَى أنه عندما أدركَت المنِيَّةُ الإمامَ أحمد -رحمه الله- تمثَّل له الشيطان عاضًّا أصابِعَه يقول: فُتَّنِي يا أحمد! فُتَّنِي يا أحمد! فقال الإمام أحمد: "لا بعدُ، لا بعدُ". مُستحضِرًا بذلك قولَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجلَ ليعملُ الزمنَ الطويلَ بعمل أهل الجنة ثم يُختَم له بعمل أهل النار". رواه مسلم.

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُكثِر أن يقول: "يا مُقلِّب القلوب: ثبِّت قلبي على دينِك". فقال رجلٌ: يا رسول الله: تخافُ علينا وقد آمنَّا بك وصدَّقناك بما جِئتَ به؟! فقال: "إن القلوبَ بين أصبعين من أصابِع الرحمن يُقلِّبها كيف يشاء". أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه.

وفي رواية الترمذي: "يا مُثبِّت القلوب: ثبِّت قلبي على دينِك".

عباد الله: هذه الأحاديثُ وما يُشبِهُها كثير تُحذِّرُ من نكسةٍ لا يزالُ الإنسان منها في خطرٍ، وزيغةٍ مُحتملَةٍ لم يُعصَم منها بعد الأنبياء بشر، إنها حالٌ خافَها الأتقياءُ والصالِحون، وحاذرَها الأصفياءُ الصادِقون.

وكم رأى الناسُ من مصارِع المُنتكِسين، وانهِزام الفاشِلين، وانحِراف من كانوا على الهُدى مُستقيمين! ولا يسقُطُ إلا المهازيل، وعند الابتلاءات تكثُر الانتِكاسات، نعوذُ بالله من الحَور بعد الكَور.

ومن دُعاء المُؤمنين: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8].

عباد الله: وإن المُتأمِّل في حال المُجتمع المُسلم يرى ظواهِر ضعفٍ تتخطَّفُ بعضَ أفراده، تتمثَّلُ في رقَّة الديانة، والتفريط في الواجِبات، والتساهُل في المُحرَّمات، والرِّضا بالنقص ومُسايَرة ركبِه أحيانًا. في واقعٍ أترَعَه الإعلامُ بكل تافهٍ يُبعِدُ عن الله، ويُوغِلُ في الغفلة.

وقد يكون ذلك ممن أمضَى شطرًا من عُمره في صلاحٍ واستِقامةٍ، ولكن ما أكثرَ من يرجِعُ أثناءَ الطريق وينقطِع، وهذا قد يتكرَّرُ في زمان استِطالة الباطل، لكنَّه ليس عُذرًا للإنسان أن يكون مُفرِّطًا تجاهَ ربِّه، فكلٌّ سيُحاسَبُ وحده: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم: 95].

على أنه لا بُدَّ لكل عاملٍ من فترةٍ، ولا بُدَّ لكل سائرٍ من عثْرة، إلا أن هذا الفُتور لا يصِلُ بالعبد إلى تضييع الواجِبات، أو الخوضِ في المُحرَّمات، وإنما هي حالةٌ تعتَرِي العبدَ في سيرِه إلى الله، وضعفٌ تقتَضِيه طبيعةُ البشر، يدفعُه العبدُ بتذكُّر الآخرة، ويحثُّ الخُطا بعد ذلك إلى ربِّه حتى يصِل إلى دار السلام.

وإن من الغُرور والعُجب: أن يأملَ الإنسانُ من الشيطان، وأن يُزكِّيَ نفسَه بضمان الثبات، وإنما الثباتُ شيءٌ يمُنُّ الله به على من يشاءُ من عباده: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: 27].

عن النوَّاس بن سَمعان -رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من قلبٍ إلا بين أصبعين من أصابِع الرحمن، إن شاء أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه". أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه.

وقد قال الله تعالى لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم-: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 74].

ودعا إبراهيمُ -عليه السلام-: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35]، ودعا يوسفُ ربَّه أن يصرِفَ عنه كيدَ النِّسوة.

عباد الله: وفي كتابِ ربِّنا وصفٌ للداء والدواء، وتوصيفٌ للمُتساقِطين من الضُّعفاء، وليس لأحدٍ أن يُلقِيَ التَّبِعةَ على غيره: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران: 165].

فزيغُ الإنسان سببٌ لأن يُزيغَ الله قلبَه: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]، وانصِرافُه عن الخير سببٌ لصرفِ قلبِه: ﴿ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [التوبة: 127]، والكِبرُ والإعراضُ مآلُه: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ [الأعراف: 146].

ومن قسَا قلبُه فما ذاك إلا بذنبِه وكسبِه: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]، واتباع الهوى والتعلُّق بالدنيا سببٌ للضلال، وحِرمان العبد بركة العلم: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(178)﴾ [الأعراف: 175- 178].

إنسانٌ يُؤتيه الله آياتِه، ويخلعُ عليه من فضلِه، ويكسُوه من علمِه، ويُعطِيه الفُرصةَ كاملةً للهُدى والارتِفاع، لكنَّه يُعرِضُ عن هذا كلِّه فينسلِخُ من آيات الله، ويتجرَّدُ من الغِطاءِ الواقِي، والدِّرع الحامِي، وينحرِفُ عن الهُدى ليتبَع الهوى، ويهبِطُ من الأُفُق المُشرِق فيلتصِقُ بالطِّين المُعتِم.

فيُصبِحُ غرضًا للشيطان لا يَقِيه منه واقٍ ولا يحمِيه منه حامٍ، فيتبَعُه ويلزمُه ويستحوِذُ عليه، ثم إذا هو في هيئة الكلبِ يلهَثُ إن طُورِد، ويلهَثُ إن لم يُطارَد، يلهَثُ في كل أحوالِه.

عباد الله: لقد كان الأخيارُ والصالِحون أحرصَ ما يكونون على تفقُّد قلوبِهم وإصلاحِها، ذلك أن البرَّ والتقوى، والأُنسَ بالله، واللذَّةَ بمُناجاته، والإيمان واليقين، وكل أنواع الخير لا يُمكن أن تُوجَد إلا في القلوبِ الطاهِرة الزكيَّة، ولا يُمكن أن تسكُنَ قلبًا مُلوَّثًا بالظُّلُمات والآثام. لذا كان من دُعاء الخليل إبراهيم -عليه السلام-: ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89)﴾ [الشعراء: 87- 89].

ومن عدلِ الله: ألا يُضلَّ من أقبلَ إليه واتبَعَ هُداه، ولا ينتكِسُ العبدُ إلا بسببٍ منه وتقصيرٍ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: 115].

إن الاستِهانةَ بالذنوبِ والمعاصِي سببٌ رئيسٌ للانتِكاسِ والهلاكِ: ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور: 15]، وفي الحديث: "إياكُم ومُحقَّرات الذنوب؛ فإنهنَّ يجتمعن على الرَّجُل حتى يُهلِكنَه". أخرجه الإمام أحمد، والطبراني.

ومن أخطر المهالِك المُؤدِّية للانحِراف والنُّكوص: ذنوبُ الخلَوات يُذكِيها سهولةُ الوصولِ إلى الحرام، وقد كثُرَت طُرقاتُه، وانتشَرت قنواتُه، وتوافَرت بين أيدي الناسِ من الوسائلِ ما لا يزجُرُ عن إثمِها إلا خوفُ الله وتقواه.

وقد تُسهَّلُ للإنسان ذنوبُ الخلَوات لاختِبار إيمانِه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ [المائدة: 94].

إن مزالِقَ الشهوات المُحرَّمة قد تبدأُ بنظرةٍ آثِمةٍ، أو فِكرةٍ طائشة، ثم لا تلبَثُ أن تستحكِمَ في القلب، فيضعُفُ بها الإيمان، وتهدمُ بُنيانَ العلم، وتُذهِبُ الورعَ، وتصُدُّ عن ذكرِ الله ومحبَّته والأُنس به، وتُورِثُ الوحشةَ من الصالِحين، والزُّهدَ في الطاعات.

وما أشدَّ مرارةَ الانتِكاس! ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ [الحديد: 14].

أشدُّ ما يكون من الحسرةِ والبلاءِ أن يُفتَحَ للعبدِ طريقُ النجاة والفلاح، حتى إذا ظنَّ أنه ناجٍ ورأى منازِل السعداء اقتُطِع دونَهم، وضرِبَت عليه الشِّقوة!

إن على المُسلم أن يسعَى في صلاحِ نفسِه، وصِيانة قلبِه، وأن يحذَرَ خُطوات الشيطان، فالله مُطَّلِعٌ عليه وناظِر، ومُجازٍ ومُحاسِب، وعليه أن يحرُسَ خواطِرَه؛ فإن كل الفساد يجِيءُ من قِبَل الخواطِر، فهي بذْرُ الشيطان في أرض القلبِ، يتعاهَدُ الشيطانُ البذْرَ بسقيِه مرَّةً بعد أُخرى، ولا يزالُ بها حتى تُثمِرَ الأعمال.

ولا ريبَ أن دفعَ الخواطِر أيسرُ من دفعِ الإرادات والعزائِم، فيجِدُ العبدُ نفسَه عاجِزًا أو كالعاجِز عن دفعِها بعد أن صارَت إرادةً جازِمةً، وهو المُفرِّطُ إذ لم يدفَعها وهي خاطِرٌ ضعيفٌ، كمن تهاوَنَ بشرارةٍ من نارٍ وقعَت في حطبٍ يابِسٍ، فلما تمكَّنَت منه عجِزَ عن إطفائِها.

أيها المسلمون: كما يجبُ البُعدُ عن مواطِن الشُّبُهات، ومراتِع الشَّهَوات، وتجنُّب أصحاب الضلالات، وأمراضُ القلوبِ تُعدِي أشدَّ من أمراضِ الأبدان: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 68].

إن المُتطلِّبَ بصدقٍ صلاحَ قلبِه ليسلُكُ لتحصيلِ ذلك مسالِكَه، ويستصلِحُ قلبَه بما يُطهِّرُه، ويُجنِّبُه ما يُكدِّرُه، وأعلى المراتِبِ لذلك هو مُراقبةُ الله تعالى وتقواه، وامتلاءُ القلبِ بمحبَّة الله.

روى الحاكمُ في مستدركه، والطبرانيُّ عن عبد الله بن عمرو بن العاصِ -رضي الله عنهما- أن رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الإيمانَ ليخْلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يخْلَقُ الثوبُ، فاسألُوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم".

وفي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "اللهم آتِ نفسِي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها".

اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.

بارَك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.

وبعد:

أيها المسلمون: فإن مُجتمعنا -بحمد الله- يحمِلُ خيرًا كثيرًا، وإن الواجِبَ رعايةُ هذا الخير وتنميتُه، وحِراستُه من عاديات السُّوء، وإن الواجِبَ هو تربيةُ النفس والنَّشءِ على خوفِ الله وتقواه، والعلمِ به وبحُدودِه وشريعتِه، علمًا يُورِثُ العملَ والذَّكاءَ، ويبقَى زادًا ورِدءًا في النَّعماء والبأساء، ومن كان له زادٌ من تقوى وعملٍ صالحٍ كان حرِيًّا بالنجاة، وسُنَّةُ الله ألا يُخيِّبَ عبدًا أقبلَ عليه.

واتِّقاءُ المزالِقِ يكون باللُّجوء إلى الله تعالى، كما قال -سبحانه-: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات: 50]، وهو -سبحانه- القائل: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36].

قال ابن القيِّم -رحمه الله-: "الكفايةُ على قدر العبودية، فكلما ازدادَت طاعتُك لله ازدادَت كفايةُ الله لك".

ومن هنا وجَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى العبادة وقتَ الفتن، فقال: "العبادةُ في الهَرْج كهِجرةٍ إليَّ". رواه مسلم.

فهنيئًا لمُؤمنٍ يركَنُ إلى الصلاة والعبادة، بينما الناسُ يتهارَجون. هنيئًا لمن يطمئنُّ بالله حين تقلقُ النفوسُ وتضطربُ القلوب.

كما تجبُ تربيةُ النفوس وتنشِئةُ الجِيل على الجدِّ والعزمِ، والتجافِي عن الكسل والهوان، واتباع الهوَى والشهوة؛ فإن الشرفَ لا يُنالُ بالتَّرَف، وفي كتابِ ربِّنا: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ﴾ [مريم: 12]، وقال عن موسى -عليه السلام-: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ﴾ [الأعراف: 145].

وإن الصحابةَ -رضي الله عنهم- قد نالُوا شرفَ الدنيا والآخرة بالجدِّ والعَزم، جمَعوا بين العلمِ والعبادةِ، والدعوةِ والجهادِ، ولم يخلُدوا للراحَةِ والدَّعَة، وقد حُفَّت الجنةُ وحُجِبَت بالمكارِه، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأحاطَت بها. فإذا كان كذلك فلن يصِلَ أحدٌ إلى الجنَّة إلا بتقحُّم هذه المكارِه، وتجشُّم هذه الصِّعاب، مُتوكِّلاً على الله.

وإن من صِيانةِ النفسِ: البُعدَ عن المُثبِّطاتِ، ومُصاحبَة البطَّالين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105].

وأكثرُ الناسِ صلاةً أشدُّهم ضبطًا لشَهَواته، ولا تغلِبُ الشَّهَوات إلا مع إضاعَةِ الصَّلوات: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ﴾ [مريم: 59].

والله تعالى يهَبُ الحكمةَ والثبات من تعوَّدَ الإحسانَ في شُؤونِه، وتمكَّن من ضبطِ نفسِه، وإحكامِ أمرِه، وتسديدِ خُطاه، وسارَ على الصِّراط المُستقيم، لا تهزِمُه وساوِسُ الشرِّ، ولا ترُدُّه عن غايتِه همَزَاتُ الشياطين، ومن أكثرَ العبادةَ في الخلَوات ثبَّتَه الله عند الشدائِد والمُدلهِمَّات.

ومن قولِ نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم-: "من خافَ أدلَجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزِلَ، ألا إن سِلعةَ الله غالِيَة، ألا إن سِلعةَ الله الجنة". رواه الترمذيُّ بإسنادٍ صحيحٍ.

وفي زمنِ التقلُّباتِ والانتِكاسَاتِ ينبغي اللُّجوءُ إلى الله، ودعاؤُه والتضرُّع إليه: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: 24]. فاسألوا الله الثباتَ.

وكان أبو بكر الصِّدِّيقُ -رضي الله عنه- زمن المُرتدِّين يقنُتُ لنفسِه في صلاتِه فيتلُو: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8].

اللهم يا مُقلِّبَ القلوب: ثبِّت قلوبَنا على دينِك، اللهم يا مُثبِّت القلوب: ثبِّت قلوبَنا على دينِك.

ثم صلُّوا وسلِّموا على خير البريَّة، وأزكى البشريَّة: محمد بن عبد الله الهاشميِّ القُرشيِّ.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتِه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


تم تحميل المحتوى من موقع