ما أشدَّ حاجتَنا اليوم إلى تلمُّسِ الكسب الطيب! فنحن في زمن اختلطت فيه الأمور، والتبست الأشياء, وطغت المادَّة, وهيمنت الدنيا, وسكرت العقول بخَمر التجارة! وأصبح الناس يتهافتون على كل نداء، وإلى كل إعلان، ومع كل دعاية، دونما تأمُّل أو تبصُّر أو تدبُّر، لا في الحِلِّ من عدمه، ولا في الطيِّب من غيره، ولا في المصداقية والجدوى والفائدة ..
سبق لنا الحديث في الخطبة الماضية عن الطِّيبِ والطيِّبين والطيِّبات, وبيَّنا أن الطِّيبَ وأهلَهُ في الجنة، والخُبْثَ وأهلَهُ في النار, وأن الباري -جلَّ وعلا- طيِّبٌ لا يقبل إلّا طيبًا, وأن الطيِّب من عباده لا يقبل إلا الطيِّبَ، ولا يسيرُ إلّا في ركاب الطيبين, وأن الإيمان والعمل الصالح أساس للطيب, ومن كان كذلك أحياه الله حياة طيبة، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97]، وكانت خاتمته طيبة، (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل:32].
وها نحن -أيها الطيبون- لا زلنا نعيش في أجواء الطيبين, هانحن نتنقل في بساتين الطِّيْبِ وحدائقه, حيثُ الثمارُ اليانعةُ، والأزهارُ الفوّاحةُ الّتي تعبق بها النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، عن الطِّيْب وأهله.
لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يُوجَد في هذه الحياة الطَّيِّب والخبيث؛ للاختبار والامتحان والتمايُز، (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال:37], ثم يكون الجزاء في الآخرة بأن يفترقا, فلا يجتمعان أبدًا؛ فلكلٍّ دارُه وقرارُه, فالطِّيِّبُ وأهله لهم الجنان الطيبة, والخبث وأهله لهم العذاب الأليم, والمصير الخبيث.
إن السعيد الطَّيِّبَ لا يليق به إلا الطيب، ولا يفعل إلا الطيب، ولا يقول إلا الطيب, ولا يأكل إلا الطيب؛ لذلك استحق مجاورة الطيبين؛ والشقي الخبيث لا يفعل إلا الخبيث, ولا يقول إلا الخبيث, ولا يخالط إلا الخبيثين، وترى الخبث يتفجر من قلبه ولسانه وجوارحه؛ ولذلك استحق مجاورة الخبيثين.
وقد يكون الإنسان مؤمنًا طيِّبًا, ولكنه تلبس ببعض الخبائث, وتلطخ بشيء من القبائح, وهي تفوح بخبثها ونتنها؛ لتكدر صفو إيمانه, وتلوث صفاء إسلامه, فكيف يخالط الطَّيِّب في جنات عدن طيِّبة؟ فذلك بين أمرين: إما أن يريد الله به خيرًا فيطهِّرَه من الخبائث في الدنيا قبل يوم القيامة, وذلك بما يوفقه إليه من التوبة النصوح، والحسنات الماحية, والمصائب المكفرة, والابتلاءات المطهِّرة؛ حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة.
ومن الناس من لا يكتب له ذلك فتظل معه خبائثه تلاحقه، فيأتي يوم القيامة ومعه الطيبات ومعه الخبائث، وحكمته -تعالى- تقتضي أّلا يجاوره في جنانه إلا الطيبون, فيدخله النَّارَ؛ طُهْرَةً له, وتصفيةً، وسبكًا, فإذا زال خبثه، ولم يبق إلا الطيب، صلح حينئذ لدخول دار الطيبين, ويمكث في النار على قدر خبثه -نعوذ بالله من سخطه وعذابه-؛ ثم يدخله الله الجنة بعد أن أصبح نقيًا زكيًّا.
وقد جاء التركيز في الوحي المبارك على ثلاثة أمور من الطيبات وهي: الكلام الطيب, والأكل الطيب, والكسب الطيب.
أما الكلام فهو -جل وعلا- يحب الكلام الطيب, ويباركه، ويرفعه إليه, ويثيب عليه، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر:10].
وأطيب الكلام كلامه -جل وعلا-, والترنم بذكره وشكره وتوحيده, وقد ضرب الله تعالى للكلمة الطيبة أحسن الأمثلة فقال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم:24-25].
وأصحاب الكلام الطَّيِّب والأعمال الطَّيِّبة والنَّوايا الحسنة يهديهم لأحسن القول وأطيبه في الدنيا والآخرة, قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) [الحج:23-24].
أما الأكل الطيب فقد وردت الإشارة إليه غيرما مرة في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-, بل وأكدت النصوص أنه أساس لمرضاة الله, أساس لحبه, أساس للفوز بجنته, ولقد أوجد -جل وعلا- لعباده أنواع الطيبات, وصنوف الخيرات, وأفنان المآكل والمشارب الطيبة, فلا يجدر بالمسلم، وهو صاحب كلمة التوحيد الكلمة الطيبة, وهو العبد الطيب الذي لا يقبل إلا طيبًا, وهو حامل المنهج الطيب، لا يليق به أن يلوث دمه وجهده وأنفاسه بخبائث تنسف بركات ذاك الطيب، وتلوثه وتكدره وتعكر صفوه.
بل لقد بيَّن -جل وعلا- أن من أهم الحكم في إرسال الرسل، ومنهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، أن يحل للناس الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث, فقال تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) [الأعراف:157].
ويجمع هذا الأمر كله حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- الذي يقول فيه: "أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا, وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة:172]" ثم ذكر -صلى الله عليه وسلم-: "الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنَّى يُسْتَجاب لذلك؟!" أخرجه مسلم.
إن الطيبات نعمة كبرى من الله، (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [غافر:64]، ولا يجوز لأحد أن يحرمها على عباده، أو يحول بينهم وبينه، (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف:32].
ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) [الأعراف:32]. ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) [المائدة:87-88]. تأمَّل ختام الآية: (وَاتَّقُوا اللَّهَ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة:172].
إنه التذكير الدائم بتقوى الله ومرضاته، وشكره على الطيبات، والأكل منها، والبعد عن الكفران والنكران والخبائث، كما صنع أقوام من قبل حينما منَّ الله عليهم بالطيبات فطغوا وأفسدوا وانغمسوا في الخبائث, يقول تعالى عن بني إسرائيل: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [البقرة:57]، فلما ظلموا وبدلو: (فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [البقرة:59]، (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) [طه:81].
أما الكسب الطيب فلا يقل أهمية عن الكلم الطيب، والأكل الطيب, بل هو من ضمن المأكل الطيب وما ورد من النصوص، من الأكل الطيب يشمل الكسب الطيب, إلا أنه أعم من مجرد الأكل، والأكل لا يكون طيبًا إلا إذا كان من كسب طيب, ولقد جاءت النصوص المؤكدة على الكسب الطيب، والمحذِّرة عما سواه, بل وحتى الإنفاق والبذل والصدقة لابد أن تكون من كسب طيب؛ حتى يقبلها الله، وينميها، ويجعل ظلالها وارفة يستظل بها صاحبها من حر يوم القيامة.
يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) [البقرة:267]، ويقول -صلى الله عليه وسلم- عن الكسب الطيب: "الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وكسبه من طيب" أخرجه ابن ماجه، وأصله في الصحيحين, ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فُلُوَّه أو قَلُوصه حتى تكون مثل الجبل أو أعظم" متفق عليه.
ما أشدَّ حاجتَنا اليوم إلى تلمُّسِ الكسب الطيِّب! فنحن في زمن اختلطت فيه الأمور، والتبست الأشياء, وطغت المادة, وهيمنت الدنيا, وسكرت العقول بخَمر التجارة! وأصبح الناس يتهافتون على كل نداء، وإلى كل إعلان، ومع كل دعاية؛ دونما تأمُّلٍ أو تبصُّرٍ أو تدبُّرٍ، لا في الحِلِّ من عدمه، ولا في الطيِّب من غيره، ولا في المصداقية والجدوى والفائدة.
هذا، وإني أسأل الله تعالى أن يخلف خيرًا على كل من تلظوا بنيران التجارة وفقدوا أموالهم, وعظمت خسارتهم؛ أسأله -تعالى- أن يجعل ذلك كفارة لهم، ورَفعًا لدرجاتهم، ومصائب صرفها الله عنهم.
أسأله سبحانه أن يخلف عليهم بالكسب الطيب، والحياة الطيبة، والدار الطيبة: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155], أما الذين ظلموا فلن تغني عنهم أموالهم من الله شيئًا.
إن الإنسان لو جمع الدنيا بحذافيرها، فوالله! لن تغني عنه شيئًا, ووالله! لن تؤخره عن أجَله لحظة واحدة, واللهِ! لن ينفعه أمام ربه إلا قلبُه الطيب، وكسبه الطيب، وكلمه الطيب.
في ختام جولتنا الطيبة مع الطيب وأهله لن نجد أروع ولا أمتع ولا أبدع من هذه الآية العظيمة البليغة،( قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:100].
يا الله على هذه الروعة! لم يقل ولو أزعجك, أو أذهلك, أو أي كلمة أخرى؛ بل قال: ولو أعجبك! قد يكثر الخبيث، وقد يُزَيَّن في الأعين، وتطرب له الأنفس؛ أموال كثيرة، صفقات, أرباح, مظاهر, مناظر, قنوات, نساء, غناء, رقص, أسواق, صور, دعايات, بلوتوث، كليبات, إغراءات, معاكسات, منتجعات, حريات... أمور وأمور وأمور.
ولكن، مهما كان ذلك، ومهما كثر، فلا يمكن أن يستوي بالطيب , وإن همسة من مؤمن في جنح الليل يناجي حبيبه :التحيات لله، والصلوات والطيبات. ترجع بكل ما يأفكون, وتزري بكل ما يقترفون. فكن في عداد الطيبين، واحذر طرق الخبيثين والخائنين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي