الاحتفال المقدس

ناصر بن مسفر الزهراني
عناصر الخطبة
  1. جمالُ العيدِ وفرحتُه وبِشْره .
  2. دعوة للتكبير وشكر الله .
  3. ثناءٌ على الله تعالى .
  4. تفاوت الناس في الطاعات .
  5. العيدُ فرحةُ الصائمِ العابِد .
  6. التحذير من العودة للمعاصي .
  7. مجالات للبِر بعد رمضان .

اقتباس

العيد اليوم لِمَنْ أحسن الصيام، واجتهد في القيام، وأطعم الطعام؛ اليوم تلوح بشائر الرضا لمن حفظ صيامه، وصان لسانه، وزكَّى? فؤاده، وراقب ربه، وبذل ماله، وأيقظ أهله، وأحيا ليله؛ اليوم تتجلى? آيات السعادة، وترفرف بلابل البهجة، لمن صام عن الخنا، وأمسك عن الردى?، وسلم من الرفث، ونجا من الزور؛ الصائم يفرح عند فطره كل يوم، ويفرح بالعيد عند ختام شهره، ويفرح بالأجر بعد انتهاء عمره، وحين لقاء ربه ..

العيد فرح بالطاعة، وسرور بالعبادة، وأنس بالنعمة، وشكر على الصيام، وحمد على القيام؛ العيد عودة صادقة، وأوبة مخلصة، وإقبال جاد؛ العيد فرح بالبشارة، وسعادة بالجائزة، وبِشر بالهبة، وتيهٌ بالعطيَّة، (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].

فرحة العيد تذكر بفرحة الفوز الأكبر، والسرور الأعظم، والهناء الأكمل، (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [الحديد:12].

يَا حروفُ الشِّعْرِ غَنِّي وارْقُصي *** بانبِثاقِ الأُنْسِ في عيدٍ سعِيدِ
يا شذَى أيَّامِ طُهْرٍ لحْنُهَا *** يُطْرِبُ الدُّنْيا ويزْهو بالسُّعودِ
يا إلَهي جُدْ عَلَينَا بالرِّضا *** والنَّدى والفوزِ في يومِ الوُرُودِ
واجْعَل الأَفْراحَ دوماً حظَّنا *** ثُمَّ مأْوانا لِجَنَّاتِ الخُلُودِ

العيد مهرجان مقدس، واحتفال مطهر، واجتماع محبب، وجوه بالبشر تتلألأ، وقلوب بالحب تتدفق، وابتسامات بالود تُوَزَّع؛ عطر يفوح، وأمل يلوح، ونفوس بمكنون الأنس تبوح؛ ملائكة تهبط، وأعمال تصعد، ونفوس تمرح، وأفئدة تفرح؛ ذنوب تغفر، وخطايا تُمحى، وهبات تعطى، وكرم يفيض، ورحمة تتنزل.

العيد جمال للظاهر، ونقاء للباطن، وحسن في المبنى، وصفاء في المعنى، تمتد فيه الأيادي الحانية لتمسح على رؤوس الأيتام، وتكفكف دموع البائسين، وتزيل الكرب عن المكروبين.

هذا الموقف الجميل الذي تجتمع فيه القلوب، وتلتقي فيه الأفئـدة، وتتعانق فيه الأرواح، ويلتئم فيه الشمل، يذكرنا بموقف مفزع، واجتماع مذهل، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37].

يذكرنا بموقف تتباين فيه البشرية، وتتفاوت فيه الإنسانية، فمن مسرور سعيد، فرح مبتهج، ومن بائس حزين، خائف وجِل، مذعور مُشْفِق، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة:19-32].

ليس العيد فرحا بالحطام، ولا سرورا بالمال، ولا سعادة بالدنيا، ولا مباهاة بالزينة، (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].

فلا تفرحوا بالبهرج، ولا تسعدوا بالكنوز، ولا تسابقوا في الفاني، ولكن (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد:21]، وكبِّروا الله على ما هداكم، واشكروه على ما آتاكم، فالفضل كبير، والبذل وفير، والجود عظيم.

كبِّروه، فهو الكبير المتعال، العظيم القهار، القوي الجبار، هداكم من الضلال، ووقاكم من الضياع، وصانكم من التيه، وعلمكم من الجهل، وبصركم بعد العمى، وأعزكم بعد الذلة، وكثركم من قلة، وشرفكم بالملة، واجتباكم من الأمم، وأحياكم من العدم، وجنبكم من الظلم، وأسبغ عليكم النعم، ولعلكم تشكرون، (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) [النمل:40]،( وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر:7]، (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم:7]، (وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران:144].

فنشكره -تعالى- على إحسانه، ونحمده على عظيم امتنانه، نشكره على الإسلام، ونشكره على القرآن، ونشكره على الإيمان، ونشكره على الإحسان، ونشكره على روعة الصيام، ولذة القيام، ووافر البذل والفضل والإنعام، نشكره شكر معترف بفضله، مُقِر بنعمه، مسبِّح بحمده.

لَوْ نَظَمْنَا قلائداً مِنْ جُمَانٍ *** ومَعانٍ خلَّابَةٍ بالمئاتِ
لَوْ بَرَيْنَا الأشْجارَ أَقْلامَ شُكْرٍ *** بِمدادٍ من دِجْلَةٍ والفُراتِ
لَوْ نَقَشْنَا ثناءَنا مِنْ دِمانَا *** أو بذَلْنا أَرْواحَنَا الغَالِياتِ
أَوْ جَهِدْنَا نُفُوسَنَا فِي قِيامٍ *** وصِيامٍ حتَّى غدَتْ ذاوِياتِ
أَوْ قَطَعْنَا مَفاوِزاً مِنْ لَهِيبٍ *** وَمَشَيْنَا بِأرْجُلٍ حَافِياتِ
أَوْ سَجَدْنَا عَلى شظَايا رَصَاصٍ *** أَوْ زَحَفْنا زحْفَاً على المُرْمِضاتِ
أَوْ بَكَيْنَا دَمَاً وفَاضَتْ عُيُونٌ *** بِلَهيبِ المَدامِعِ الحارِقاتِ
مَا أَبَنَّا عَنْ هَمْسَةٍ مِنْ مَعانٍ *** في حَنايَا نُفوسِنا ماكِناتِ
أَوْ أَتَيْنَا لِذَرَّةٍ مِنْ جَلالٍ *** وشَكَرْنَا آلاءَكَ الغَامِراتِ
 

أُهدِيَ للنبي -صلى الله عليه وسلم- جبة من ديباج منسوجة بالذهب، فلبسها، فجعل الناس يمسحونها وينظرون إليها، ويعجبون من لينها ورقتها، فرأى -صلى الله عليه وسلم- تعلقهم بنعيم الدنيا، وحبهم لزينة الحياة، فأراد أن يستغل هذا الموقف المناسب، والفرصة السانحة، ليعطيهم موعظة نافعة، ودرسا لا ينسى، وتذكرة لا تمحى، وينتشل من قلوبهم النظرة الدنيوية، والهمة الأرضية؛ ليرتقي بهم إلى الملكوت الأعلى، والآفاق الأسمى، والهمم العظمى، فقال لهم: "أتعجبون من لِين هذه؟ لَمَناديلُ سعدِ بن معاذ في الجنة خيرٌ منها وأليَن" متفق عليه.

رَبَّاهُ مِنْكَ عَرَفْتُ سِرَّ وُجُودي *** وَعَرَفْتُ مَعْنَى فَرْحَتي بالعيدِ
الآنَ أَعرِفُ ما الحياةُ وطِيبُها *** وأقولُ لِلأيَّامِ طِبْتِ فَعُودي
عظُمَ الثَّوابُ معَ الصِّيامِ وأَشْرَقَتْ *** رُوحي وأَوْرَقَ في ربِيعِكِ عُودي
فاغْفِرْ ليَ الزَلَّاتِ وامْحُ خَطِيئَتي *** وامْنُنْ علَيِّ بِعَفْوِكَ المعْهُودِ
 

العيد اليوم لمن أحسن الصيام، واجتهد في القيام، وأطعم الطعام؛ اليوم تلوح بشائر الرضا لمن حفظ صيامه، وصان لسانه، وزكَّى فؤاده، وراقب ربه، وبذل ماله، وأيقظ أهله، وأحيا ليله؛ اليوم تتجلى آيات السعادة، وترفرف بلابل البهجة، لمن صام عن الخنا، وأمسك عن الردى، وسلم من الرفث، ونجا من الزور؛ الصائم يفرح عند فطره كل يوم، ويفرح بالعيد عند ختام شهره، ويفرح بالأجر بعد انتهاء عمره، وحين لقاء ربه.

يا من تذوقت حلاوة الطاعة، إياك والولوغَ في وحل المعصية! ويا من شممت عبق الجنة، ووجدت ريح الفردوس، إياك أن تزكم أنفك بنتن الخطيئة، ورائحة النار! ويا من تعلقت بخيوط السعادة، وتشبثت بحبال الطمأنينة، إياك والتعلق بذيول الندامة، والسير في ركب الغواية! يا من أنست لقطرات الدموع الحارة في جوف الليالي من خشية الله، إياك أن تسخِّر نعمة بصرك فيما حرم الله! يا من شنَّفْتَ سمعك بنغمات القرآن الحانية، وترنيمات الكتاب المطربة، إياك أن تصيخ بسمعك إلى ما يسخط الجبار، ويغضب القهار! يا من بنيت قصورا من الطاعة، وشوامخ من العبادة، احذر أن تنسف ما بنيت، وتهدم ما شيدت، وتنقض ما أبرمت! (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا) [النحل:92].

يقال إنه كان في الجاهلية امرأة حمقاء تغزل طوال يومها، ثم إذا ما أقبل الليل نكثت كل ما غزلت، وهكذا دواليك! فذلك مثَل من يبني ثم يهدم، ويجمع ثم يفرق، ويقبل ويدبر، ويصعد ويهبط، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور:40].

وإن الذي فاته الركب، وخالفه الحظ، وخانه التوفيق، لم تقفل الأبواب في وجهه، ولم تغلق السبل دونه، فباب التوبة مفتوح، والمجال مفسوح، ما لم تغرغر الروح.

وإذا انقضى رمضان فأبواب الصيام مشرعة، وميادين البر مفتوحة، فهناك صيام ست من شوال، وهناك صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وهناك صيام الاثنين والخميس، وصيام يوم عرفة الذي يكفر السنة الماضية، وصيام يوم عاشوراء الذي يكفر السنة الماضية والباقية، وصيام شهر الله المحرم، وصيام شعبان؛ إلى غير ذلك من فرص الطاعة، ومجالات العبادة.

ولْيَعْلم المقصِّر أنه يعبد ربا رحيما وسِعَتْ رحمتُهُ كُلَّ شيء، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل؛ عظيمٌ عفوُه، واسعةٌ رحمته، كثير جوده، يناديه نداء المتلطف، ويدعوه دعوة المشفق، فيقول -جل وعلا-:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].

فما أعظم جوده! وما أوسع رحمته! جعل الرحمة مائة جزء، أنزل منها في الدنيا جزءاً واحدا به يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى إن الدابة ترفع حافرها خشية أن تطأ وليدها؛ وادخر عنده تسعة وتسعين جزءا يرحم بها العباد يوم القيامة!.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي