إن المنبر اليوم هو قناة المسلمين الوحيدة، وزاويتهم الفريدة التي يُبَثُّ من خلالها العلم، وينشر الهدى، ويُسدى النصح، وتذاع الفضيلة، وتحارب الرذيلة؛ وإن الخطيب الناجح يكون شأنه مع قنوات التضليل، ومنابر التدجيل، كشأن عصا موسى مع حِبال السَّحَرة وعِصِيَّهم، يرسل نفحات الحق، وكلمات اليقين، وعبارات الإيمان، ومواعظ القرآن، فإذا هي تلقف ما يأفكون، وتدمر ما يشيدون، وتنسف ما يصنعون.
كلما أجلت طرفك في كلام بديع، وأسلوب رفيع، زاد إيمانك بهذا الأثر النبوي البديع: "إن من البيان لسحرا" رواه البخاري.
إن الألفاظ العاطرة، والمعاني الآسرة، والجمل المنسابة، والتراكيب الجذابة المجللة برداء الإخلاص، الممزوجة بعبير الصدق، تملك لبك، وتهز إحساسك، وتوقظ مشاعرك؛ فمن الكلام ما يهز القلب هزا، ويرجه رجا، ويجعل قواه هباء منبثا.
ومن الكلام ما يكون كالطيف الهادئ، والظل الوارف، يُستمتع المرء بجماله، وتُتفيأ ظلاله؛ ومنه ما يكون عذبا فراتا، هنيئا مريئا، سُقيا رحمة لا سقيا عذاب.
ومن الكلام ما يكون شرابا سائغا، وشهدا مذابا، إن بعض الناس أوحى ربك إليهم أن يتخذوا من المعاني الحسان بيوتا، ومن الألفاظ العِذاب قوتا، ومن العلم ومما يعرفون، ثم يقطفون من أحلى الثمرات، فيخرج من أفواههم بيان مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس، وفيه تذكرة لقوم يتفكرون. بيان يلامس الأسماع فتطرب، ويداعب الأفئدة فترقص، ويطرق القلوب فتنادي: هيت لك!.
إن الكلام الجميل الصادق لروعة معدنه، ونقاء مصدره، وعذوبة مشربه، يبقى خالدا على مر الدهور، وتعاقب العصور، بل كلما تقدم به الزمان زاد أريجه، وحسن عبقه، وعظمت قيمته، تتضمخ به القلوب الطاهرة، وتتطيب منه الأنفس الطيبة.
أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا زُرْتُ زَيْنَبَاً ***وَجَدْتُ بِهَا طِيبَاً وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ
إن الخطيب الصادق إذا ضرب بحر المعرفة بعصا الإخلاص، انفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وإذا أقبل فراعنة الشرك وجنود الرياء ابتلعتهم أمواج الصدق، وبددتهم فلول الذكر، فكانوا من الخاسرين، وإذا ألقى سحرة المبادئ حبالهم وعصيهم، يلقي عليهم عصا التوحيد واليقين فإذا هي تلقف ما يأفكون.
الخطيب الناجح هو الذي لديه إلمام بقوانين الخطابة، وأصول الكتابة، وفنون الإلقاء، وجمال الأداء وحسن اختيار الأسلوب وانتقاء الكلمات، وجودة التحضير، والانفعال في مواطن الانفعال، والهدوء في مواطن الهدوء، (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) [النساء:63].
الخطيب الناجح هو الذي يعيش الموضوع وينفعل به ويمتزج بدمائه، يجب أن تكون الخطبة كالقصيدة من حيث وجوب الانفعال بها، وأن تنبع من القلب، وينطق بها الوجدان، وتنفعل بها المشاعر، وإلا جاءت باهتة باردة ميتة.
الخطيب الناجح يحرص على الإيجاز قدر الإمكان، فكلما طالت الخطبة كلما ضج بها الناس، وأنسى آخرُها أوَّلَها، وبدأ الملل على النفوس، والقلق على المصلين، فمهما أوتي الخطيب من قوة، وأعطي من أسلوب، يجب أن يراعي عامل الزمن، اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أفصح الخلق، وأعظم من خطب، وأجمل من نطق، وأصدق من تكلم، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، وإن من البيان لسحرا" أخرجه أحمد ومسلم.
الخطيب الناجح يبتعد عن مصادمة الناس بأخطائهم، ومهاجمتهم في مخالفاتهم، بل يجب معالجة الأخطاء بأسلوب غير مباشر، وتصحيح التصورات بطريقة علمية هادئة هادفة ناصحة، دون هجوم أو تجريح، ودون توتر أو تعنيف، "ما كان الرفق في شيء إلا زانه" صحيح الجامع، وقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل:125].
الخطيب الناجح يجب أن يكون قلبا نابضا، وفكرا نَيِّرَاً، وضميرا متوقِّداً، وإحساسا مرهفا، يعرف مكانته، ويقدِّر رسالته، ويقوم بواجبه، ويؤمن بمسئوليته، ويؤدي أمانته، قال تعالى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [المائدة:63].
الخطيب المؤمن عقل مدبر، وقلب واع، ولسان ناطق، وبيان صادق ويقين واثق، يستلهم الوحي، ويتضلع من العلم، ويسيح في بستان السنة، ويغوص في أعماق البحور، فيأتي بالدرر، ويقبل باللؤلؤ، ويجود بالمرجان، ثم يتوج ذلك كله بإخلاص القصد، وصفاء النية، وسلامة الطوية؛ قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف:108].
الخطيب الناجح لا يقع فيما يحذر الناس منه، ويخالفهم إلى ما ينهاهم عنه، فالدعوة بالقدوة أصدق من أي موعظة، وأجمل من أجمل خطبة، (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود:88].
الخطيب الناجح يبتعد عن الأمور التي تضر ولا تنفع، وتسيء ولا تحسن، وتهدم ولا تصلح، فكثير من الأمور ليس المنبر مجالها، ولا الخطابة ميدانها، ويبتعد عن ذكر الأشخاص، والحديث عن الأفراد بل يمضي على نهج: "ما بال أقوام..." صحيح الجامع.
الخطيب الناجح هو الذي يشد الأذهان بحسن عرضه، ويهز القلوب بجميل لفظه، تعيش معه القلوب، وتتطلع إليه الأفئدة، وتشخص إليه الأبصار.
الخطيب الناجح هو الذي يعيش في أعماق الناس، ويشعر بشعورهم، يتلمس آمالهم وآلامهم، يناقش القضايا الحية، والموضوعات المعاصرة، ويضرب على الأوتار الحساسة، يطرح القضية ويوجِد الحل، ويبين الداء ويصف الدواء.
الخطيب الناجح يتحرى حسن اختيار الموضوع، والتنويع في الطرح والتجديد في العرض، والبعد عن الرتابة المملة، والتقليدية الباهتة.
أنت مع الخطيب الناجح تحيا نفسك، ويصحو ضميرك، ويزكو وجدانك؛ إنك تتنقل معه في رياض نضرة، وبساتين أنيقة، وحدائق غناء، تارة تجدك أمام هزة عنيفة، وصيحة منذرة، وموعظة بليغة، تزلزل الكيان، وتهز الوجدان، فتنزل على القلب بسوط لاذع، وصارم قاطع، ووعيد رادع.
وتارة تجدك أمام طبيب حاذق، ومُداوٍ ماهر، ووصيف حكيم، يسقيك جرعة من رضاب البيان فتقتل الداء، وتبعث الشفاء، وتفيد الصفاء.
وتارة تجدك أمام روحاني عريق، ورباني رفيق، وخاشع رقيق، يظلك بسحاب الورع، ويهمي عليك بغيث التقوى، ويجلك برداء الخشوع، ويجملك بلباس الخضوع، ويروي غلتك بزلال الوعظ، ويذهب ما في قلبك بذكر الحبيب، ووصف الجميل، ولقاء الجليل، فإذا بجوى الحب في القلب يستعر، وفتحت مآقي العيون بماء منهمر، وفجرت النفس عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر.
وتارة تجدك أمام محب واله، وعاشق مدنف، ومغرم متيم، قد براه الحب، وتيَّمَه الهوى، وشغف بمعبوده حُبا، تاه فكره، وذهب لبه، وطاش عقله، وتحرقت وجَناته، وفاضت عبَراته، وعظمت حسراته، فيروي لك طرفا من قصة الحب، وبعضا من أحاديث الغرام، فينساب دفؤها إلى القلوب، ويتسلل عبيرها إلى النفوس، فتذكي نار الحب، وتشعل حرق الغرام، وتؤجج لواعج العشق.
إذَا كانَ حُبُّ الهائمِينَ مِن الوَرَى *** بِليلَى وسعدَى يُذْهِبُ اللُّبَّ والعقْلا
فماذا عسى أنْ يصنعَ الهائمُ الَّذي *** سرَى قلبُهُ شوقاً إلى الملأِ الأعْلى
وتارة تجدك أمام رب للبيان، وإمام للكلام، ومالك لزمام اللغة، ونافث لبديع الشعر، وكأن تحت لسانه هاروت ينفث فيه سحرا:
وَكَلامُهُ السِّحْرُ الحَلالُ لو اْنَّهُ *** لَمْ يَجْنِ قتْلَ المسلمِ المـُتَحَرِّزِ
إنْ طالَ لَمْ يُمْلَلْ وإنْ أَوْجَزْتَهُ *** ودَّ المــُحَدَّثُ أنه لمْ يوجِزِ
إن المنبر اليوم هو قناة المسلمين الوحيدة، وزاويتهم الفريدة التي يبث من خلالها العلم، وينشر الهدى، ويسدى النصح، وتذاع الفضيلة، وتحارب الرذيلة؛ وإن الخطيب الناجح يكون شأنه مع قنوات التضليل، ومنابر التدجيل، كشأن عصا موسى مع حبال السحرة وعصيهم، يرسل نفحات الحق، وكلمات اليقين، وعبارات الإيمان، ومواعظ القرآن، فإذا هي تلقف ما يأفكون، وتدمر ما يشيدون، وتنسف ما يصنعون.
إن العاقل الذي يتأمل ما وصلت إليه البشرية اليوم ليحترق أسى، ويذوب حياء، ويكتوي لوعة، ويلتهب حرقة، ويرتعد خوفا، ويرتجف فرقا؛ حق للقلوب المؤمنة أن تتقطع ألما، وآن للأنفس الطاهرة أن تتمزق ندما، وحان للأعين الصادقة أن تبكي دما، فكيف يهنأ المؤمن زادا، وكيف يسيغ شرابا، ويتبسم ضاحكا، ويمضي ساليا، ويعيش هانئا، وينام قريرا وهو يرى ما يمض الأجسام، ويمزق الأفئدة، ويبدد القلوب من اعتداء على الحرمات، وانغماس في الشهوات، وَتَحَدٍّ لرب الأرض والسماوات، ومجاهرة بالقبائح، وإعلان بالفضائح؟.
لقد كان -صلى الله عليه وسلم- يغضب غضبا شديدا إذا انتهكت حرمة من حرمات الله، فكيف ظنك به لو اطلع على هذا الانتهاك المرير، والاعتداء الخطير الذي لم تعد تراعى فيه حرمة، أو يحترم شرع، أو يُستحيا من رب السماوات، إلا مَنْ رحم الله!.
إن أفضل واعظ كتاب الله، وأصدق حديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ وإن هذه القطرات من ذلك الغيث الهنيء، وهذه القنوات من تلك البحور الزاخرة، والأنهار الرقراقة، وهذه الومضات من ذلك النور الأتم، والهدي الأكمل.
وإن هنالك من البشر من لا تهزه كلمة، ولا تنفعه موعظة، ولا توقظه ذكرى، ولا يؤثر فيه بيان، ولو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء لتأتيهم بآية بينة، وأدلة قاطعة، فإنهم لا يسمعون! (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام:36].
يا أيها المؤمن: هذا هتاف الإيمان، ونداء الحق، فاستمع يوم ينادي المناد من مكان قريب من القلب، حبيب إلى النفس، استمع قبل أن تسمع الصيحة بالحق فلا قيمة للتوبة، ولا فرصة للعودة، ولا أمل في الرجعة.
فلو ناديت يومئذ: (رَبِّ اْرْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحَاً فِيمَا تَرَكْتُ)، لم يسمع نداؤك، ولم يقبل رجاؤك، وسمعت النداء الحق: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) [المؤمنون:99-104].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي