إنَّ المَثَلَ الأعلى? للمؤمن هم أهل الإيمان، وذوو الإحسان، فهم أصحاب المثل الرفيعة، والأخلاق العالية، والهمم الزكية، سواء كانوا رجالاً أو نساءً؛ لقد بين تعالى? أن الأسوة الحسنة لنا هي في محمد -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) ..
إذا كان الحسدُ خطيئة كبرى، وذنباً أعظم، ومعصيةً ماحقة، فإن هنالك نوعاً من الحسد مرغوباً محبوباً، محموداً مطلوباً؛ إنه حسد في المسمى، ولكن المعنى مختلف، والفحوى مغايرة، إنه يدفع إلى التنافس، ويحث على التسابق، ويدعو إلى المسارعة؛ إنه ينم عن علو الهمة، وقوة العزيمة، وتوقُّد الذهن، وحياة الروح.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً سلَّطَه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ويعلمها" متفق عليه.
هذا هو الأمر الأجل الكبير العظيم الذي يجب أن تتطلع النفوس إلى نيله، وتتسابق الهمم لتحصيله؛ إن أجل منصبين، وأعظم نعمتين: المال الوفير، والعلم الغزير.
فالمال منّة من أجل المنن، ونعمة من أكبر النِّعَم؛ إنه الوسيلة لصيانة النفس، وعزة الروح، وحفظ الكرامة، واستعلاء اليد، وتحقيق المطامح، والوصول للمآرب، والإسعاد للنفس، والإيناس للأهل، والمكانة في المجتمع، والمهابة لدى الناس، وطيب المعيشة، وحسن المظهر، وارتقاء الدرجة، وعلو المنزلة، والجود على الناس، والإحسان للبشر.
وما من مطمح مأمول فيه إلا والمال سبيل للوصول إليه؛ ولكنه مع كل ذلك لا يكون نعمة حقيقية، ولا ميزة جوهرية، حتى يوفَّقَ أربابُه إلى حُسْنِ استخدامه، وجميل تسخيره؛ فيعرفون أنه منّة من الباري، وعطاء من العظيم؛ وأنه فتنة ومَضَلَّةٌ ومَزَلَّةٌ، إن لم يمض به المرء إلى مراد الله فيشكره على ذلك شكراً عملياً، بتسخيره فيما يحب، وإنفاقه فيما يأمر، وصرفه فيما ينفع ويرفع، وبذله في وجوه الخير، وصرفه في أنواع البر، لا يبخل به عن معروف، ولا يشح به عن واجب، فتكون النعمة نعمتين، والروعة روعتين، يعيش غنياً، ويحشر تقياً، هذا هو الذي يحسد أمثاله، ويغبط أشباهه.
كيف لا يغبط صاحب المال الذي يسلطه في الحق، وهو في أجر دائم، وحسنات دائبة، وخير عميم، ودعاء عريض؟ الله يحبه، والناس تحبه؛ القلوب تدين له، والأرواح تبجله، والملائكة تحفه؛ وما من يوم إلا والمنادي ينادي: اللهم أَعْطِ منفقاً خلفاً.
وينمِّي الله حسناته، ويضاعف مثوبته؛ يفك الأسير، ويعين الفقير، ويسعد الشقي، ويعطي اليتيم، ويحنو على الضعيف، ويجود على القريب، ويصل الرحم، وينفس الكروب، وينصر الإسلام، ويدعم الجهاد، ويقوِّي دعائم الدين، ويُسهِم في عزة المسلمين، ويقيل عثرات العاثرين، ويبني المساجد، ويشيد المدارس، ويقيم المعاهد، ويعالج المرضى، ويطعم الجوعى، ويسعف المنكوبين، ويقضي دين المدينين؛ ما من خير إلا ويسهم فيه، ولا بر إلا يسابق إليه، حسانته أنهار رقراقة، وأجره عيون دفاقة، يعطي ويعطيه الله، ينفق فيعوضه الله، يبذل فيخلفه الله، يصرف فيحبه الله، يجود فيجود عليه الله، يكرم فيكرمه الله، يُسعِد فيُسعده الله، يرحم فيرحمه الله.
الله به يباهي، والملائكة له تحف، والكتَبة يسجِّلون، والناس يدعون، والفقراء يبتهلون، واليتامى يناجون، والأجر والخير فنون وفنون، أفلا يحسد أمثاله، ويغبط أشباهه؟! يا له من خير عميم، وفضل كريم، وعطاء جسيم: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:261].
أما النعمة الأخرى، والفضيلة الثانية التي تشرئب لها القلوب، وتتطلع إليها النفوس، فهي العلم، ولكن أي علم؟! والحكمة، ولكن أي حكمة؟! إنه العلم النقي الزكي، النافع المبارك، الذي تحيا به القلوب، وتزكو به النفوس، وتسمو به المشاعر؛ إنه العلم المزَيَّن بالحكمة، ولكنها الحكمة التي تظهر آثارها، وتبدو ثمارها؛ الحكمة التي يعلِّمها الإنسان للناس، ويبثها للأمم، ويجود بها للجماهير، ويغرسها في قلوب الأتباع.
إنها الحكمة التي يقضي بها، يقضي في الخصومات، يقضي بها في الحكم على الناس، يقضي بها في الأقوال والأفعال، يقضي بها مادياً ومعنوياً وفكرياً؛ إنها حكمة يستنير بضوئها في كل شأن من شؤون التعامل مع الناس، وهو مع ذلك لا يحتفظ بحكمته في صدره، ولا يبخل بها على غيره، بل هو يجاهد لتعليمها، ويسعى لتفهيمها؛ فهو عالم حكيم أشرقت أنوار علمه، وأطلت بدور حكمته، فكانت نوراً للسائرين، وضياءً للحائرين، وسلوة للمؤمنين.
إن هذه الحكمة، بهذه الصفة، هي التي تبعث في نفوس النبلاء الحسد، أي بمعنى أنه يتمنى أن له مثل هذه الحكمة، ويرنو إليها، وينافس للفوز بمثلها، والوصول إلى درجة حاملها؛ ولكنه -في قرارة نفسه- لا يتمنى زوالها أو فقدانها، بل هو حسد يسمى حسد الغبطة، أي يود لو أنه أوتي مثل ما أوتي ليكون مثله في الخير والفضل والسمو.
إن الحكمة هي الخير الكثير، والنعمة الباذخة، يقول تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [البقرة:296]، لقد امتن علينا -جل وعلا- بأن بعث فينا رسولاً منا ليتلو علينا الكتاب، وليعلمنا الحكمة، فكان -صلى الله عليه وسلم- أعلم الناس، وأحكم الناس، وأنفع الناس.
وما بالك بعلم وحكمة ونفع يغمر الكون كله، والدنيا أجمعها، والحياة برمتنا، منذ بزوع فجرها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2].
إن هذا الحديث دعوة إلى التنافس المحمود، والتسابق الميمون، الذي ينفع في الدنيا، ويرفع في الآخرة. بعد أن ذكر الله تعالى الجنة ونعيمها، وما أعد لعباده فيها، قال: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].
يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنافس بينكم إلا في اثنتين، رجل أعطاه الله عزل وجل القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهاء، ويتَّبع ما فيه، فيقول رجل: لو أن الله أعطاني مثل ما أعطي فلاناً فأقوم به كما يقوم به! ورجل أعطاه الله مالاً فهو ينفق ويتصدق، فيقول رجل: لو أن الله أعطاني مثل ما أعطى فلاناً فأتصدق به" أخرجه الطبراني وحسَّنه المنذري. فهؤلاء في الأجر سواء؛ لأن النفوس مالت إليهم، وتطلعت لأن تكون مثلهم.
إن هذه الأماني هي أماني أصحاب النفوس السوية، والقلوب الزكية؛ إن العلم والمال نعمتان عظيمتان، إذا عمل المر فيهما بما يرضي الله تعالى، وإن المسلم بطموحة إلى هذا الفضل، وتمنيه أن يكون من ذوي هذا الخير، يدرك أجر أصحابه حتى ولو لم يكن من أربابه؛
إن المسلم بنيته الطيبة، وطموحه المحمود، ومشاعره الصادقة، يصل إلى أجر أصحاب هذه المنن.
ولكن انظر إلى من يتجه للحسد اليوم من كثير من الناس، وانظر إلى من يتطلعون وينافسون، وانظر إلى طموحات شبابنا وبناتنا، ومن يتمنون أن يكونوا أمثالهم! يظهر الماجن الفاسق المتهتك المتبجح، الذي يجاهر بالمعصية، ويتبجح بالضلالة، ثم ترى الآلاف المؤلفة من أبناء المسلمين وبناتهم يطمحون إلى أمثاله، ويتمنون أنهم مثله، ولذلك هم في الوزر سواء.
بل الأعجب من ذلك أنهم يسابقون إلى مناصرتهم، ويجتهدون في دعمهم وتشجيعهم والترحيب بمواهبهم. إنَّ المَثَلَ الأعلى للمؤمن هم أهل الإيمان، وذوو الإحسان، فهم أصحاب المثل الرفيعة، والأخلاق العالية، والهمم الزكية، سواء كانوا رجالاً أو نساءً؛ لقد بين تعالى أن الأسوة الحسنة لنا هي في محمد -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب:21].
ثم انظر في المقابل مَن الذي يجعله مثله الأعلى محمد -صلى الله عليه وسلم- ، فيحاول أن يتشبه بأخلاقه، ويتزيا بسنته، ويباهي بسيرته؟! مَن الذي ينظر إلى الأبطال العظماء، والرجال النبلاء، والعلماء الحكماء، فيتمنى أن يكون مثلهم، ويسعى للتشبه بهم؟! مَن التي تنظر إلى سير القانتات، وتتأمل أحوال المؤمنات الفاضلات التقيات، فتتمنى أن تكون مثلهن، أو تباهي بالسير على منوالهن؟! إذا أردت أن تعرف طموح ولدك، والمثل الأعلى لابنتك، فما عليك إلا تقليب شاشة الجوال، لترى ما يبعث الأسى، ويثير الألم، ويمزق المشاعر.
وإن الله تعالى ضرب المثل للمؤمنين والمؤمنات بالمرأة الصالحة، فقال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) [التحريم:11-12].
على ماذا إذاً يتهافت كثير من الشباب والشابات، على رموز الخنا، ورؤوس الهوى، والمهيِّجين للشهوات، والهاتكين أستار المروءات؟! على ماذا يغبطونهم؟ على ماذا يحسدونهم؟ على ماذا يحبونهم؟ ليعلم هؤلاء الذين اختاروهم رفقة في الدنيا أنهم رفقتهم في الآخرة، والمرء يحشر مع من أحب، ومَن تشبه بقوم فهو منهم.
إن الهمم العالية ترنو إلى العظماء، وتتمنى مسيرة العلماء، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما حسدت أحداً ما حسدت خديجة، وما تزوجني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا بعد ما ماتت، وذلك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب" أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي