إننا، حين نفرح برمضان، ونتهيأ لاستقباله، فإن بعض المسلمين قد اختلط عليهم رمضان بشعبان، وشوال بذي القعدة، فالأيام سواء، والليالي متماثلة؛ فالصوم دائم، والجـوع مستمر، والعطش دائب؛ بل ويضاف إلى? ذلك الخوف والهلع، والرعب والفزع، والحرب والدمار، والموت والضياع..
هذه الجمعة آخر جمعة في شعبان، ثم نستقبل بمشيئة الله تعالى شهر رمضان، هكذا مرت الأيام بسرعتها الغريبة، ودورتها العجيبة، فمرت سنة وكأنها أيام معدودة، ولكنها مع ذلك ثلاثمائة وستون يوماً؛ فيا بشرى لمن زيَّنَها بالحسنات، وعمَّرَها بالطاعات، وأضاءَ حلكتها بنور إيمانه، وجمَّل ساعاتها بطُهْرِ إحسانه، سنة ذهبت فيها متاعبُ الطاعة، وبقِيَ أجْرها يُجَمِّلُ صَفَحَاتِ مُكْتَسَبِها، وانتهت فيها حلاوة المعصية، وبقيت لوثاتها تُسَوِّدُ صفَحَاتِ مُجْترحها.
ولكن الكريم -جل وعلا- هيأ لعباده موسماً للطاعة، ومغانم للأجر، وأبواباً للعطاء، يغفر بها خطاياهم، ويمحو بها ذنوبهم، ويرفع بها درجاتهم، ويزيد بها حسَناتِهم؛ ومن أعظم مواسم الخير وفيوض العطاء؛ شهر رمضان المبارك: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة:185].
والحديث مع رمضان، وعن رمضان، ولرمضان، ذو شجون كثيرة، ولكنني آثرتُ اليوم أن أقف وإياكم وَقَفَاتٍ عَابِرَةً مع بعض الأحاديث الماتعة، والآثار الرائعة، التي هتف بها محمد -صلى الله عليه وسلم- معطراً بها سمع الكون، متوِّجاً بها هام الدنيا، مُزَيِّنَاً بها جِيدَ الصِّيَام.
أقبل أعرابي على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله! دُلَّنِي على عمل إذا عمِلتُهُ دخلتُ الجنة. قال: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتُقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدِّي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان". قال الأعرابي: والذي نفسي بيده! لا أزيد على هذا شيئاً أبداً، ولا أنقص منه. فلما ولَّى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَرَّهُ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينْظُرْ إلى هذا" متفق عليه.
يا الله! هكذا، بكل بساطة، بكل وضوح، بكل بهاء، بكل سناء! يوجز -صلى الله عليه وسلم- للرجل ويبشره بالجنة.
وحينما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن أي الأعمال أفضل، قال: "عليك بالصوم؛ فإنه لا عدل له" أخرجه النسائي وصححه الحاكم وابن حبان.
وهذا حديث بديع من أحاديث الصيام فيه الهيبة والخوف من جهة، وفيه البشر والرحمة واللطف والعفو من جهة، وهو أن أناساً في زمن الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألوه: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "نعم" وفي الحديث: "فوالذي نفسي بيده! ما منكم من أحد بأشدَّ مِنَّا شِدَّةً لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون معنا، ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم" أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: "مالك؟" قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل تجد رقبة تعتقها؟" قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟". قال: لا. قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟" قال: لا. قال: فمكث النبي -صلى الله عليه وسلم-. فبينما نحن على ذلك أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيها تمر، فقال: "أين السائل؟" فقال: أنا. قال: "خذ هذا فتصدق به". قال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك". أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وَعَزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ ولو بعد حين!" أخرجه الترمذي وحسنه.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الصِّيَام من الأكل والشرب، إنما الصِّيام من اللغو والرفث" أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق أبواب الحجيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطين، للهِ فيهِ ليلةٌ هِيَ خَيْرٌ مِن ألف شهر، مَنْ حُرِمَ خيرها فقد حُرِم" أخرجه النسائي وصححه الألباني.
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدَتْ الشياطينُ وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النَّار، فلم يُفتَح منها باب؛ وفُتِحَت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ كل ليلة: يا باغيَ الخير أقبِلْ، ويا باغي الشَّرِّ أقْصِرْ. ولله عُتَقَاءُ من النار، وذلك كُلَّ ليلة" أخرجه الترمذي، وحسَّنه الألباني.
شهر رمضان فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والتي مَن قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.
موسم كريم، وخير عميم، وفضل عظيم، فرح به المؤمنون، وأنِس به المسلمون، واستبشر به المـــُوَحِّدُون؛ ولكن في القلوب لوعة، وفي الأعين دمعة، وفي الأنفس حسرة، وفي الأكباد حُرقة؛ بقدر سرور أمة الإسلام بشهر صيامها، وربيع قيامها، حزنها الذي يعتصر القلوب، وهمها الذي يعصف بالمشاعر، لجراحهم الراعفة، ودمائهم المهراقة، وحرماتهم المستباحة، وبلادهم الممزقة، وكراماتهم المهانة، يستقبلون هذا الشهر وإخوانهم في فلسطين والعراق وأفغانستان تفطر الأرض بدمائهم، وتزدحم الطرقات بأشلائهم.
إننا، حين نفرح برمضان، ونتهيأ لاستقباله، فإن بعض المسلمين قد اختلط عليهم رمضان بشعبان، وشوال بذي القعدة، فالأيام سواء، والليالي متماثلة؛ فالصوم دائم، والجـوع مستمر، والعطش دائب؛ بل ويضاف إلى ذلك الخوف والهلع، والرعب والفزع، والحرب والدمار، والموت والضياع.
أيها المسلمون: إن من حِكَمِ شهر رمضان الترقِّي إلى السمو، والإحساس بمعاناة الآخرين، والإدراك لآلام المتألمين، والتعود على التضحية، والتدرب على البذل؛ إنه يستثير الشفقة، ويحض على الصدقة، ويكسر الكبر، ويحجِّم البخل، وينهى عن الأنانية.
فيا من تنعم وأنت تتجول في الأسواق، وتدفع أمامك بعربات قد ملئت بما لذ وطاب، وحُمِّلَتْ حتى لَتَنُوءُ بالعصبة أولي القوة، تذكَّرْ أن إخواناً لك يحملون أمتعتهم على ظهورهم، ويهيمون في العراء، هرباً من الموت، وخوفاً من القتل، وبحثاً عن السلامة.
تذكر والخدم يحملون لك أنواع البضائع أنَّ هنالك من يحملون أطفالهم على ظهورهم، أو يحملون آباءهم وأمهاتهم، وقد أتعبهم الجوع، وأهلكهم العطش، وأضناهم السهر، وأرهقهم السير، وأفزعهم الخوف، وأذهلهم الموت؛ أجسامهم عارية، وأجسادهم واهية، وأقدامهم حافية، تيبَّسَتْ أطرافُهم، وتجمَّدَتْ أوصالهم، وجفت أرياقهم، وشحبت ألوانهم، وعظمت معاناتهم.
الأطفال يتضاغون عند أقدام آبائهم إن كان لهم آباء، والثكالى ينثرن دموعهن، والجرحى ينزفون، والمرضى يستنجدون؛ ثم لا ترى إلا أجسادا متناثرة، وجثثا متراكمة، وأشلاء ممزقة، ودماء منتشرة، وبيوتا مهدمة، وآمالا محطمة، فاحمد الله على العافية، ثم اجعل من دعائك وعطائك نصيباً لهم في شهر الدعاء والرجاء والعطاء.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي