إن الحسد نقيض الإيمان، وعدو الدين، ودمار المثُل، وحرب الأخلاق، ورأس المساوئ؛ ولا يجدر بمؤمن أن يكون من أهله، ولا يليق بعاقل أن يمشي في ركابه، فهُوَ غَمٌّ في الدنيا، وشَرٌّ في الآخرة، وتعَبٌ للقلب، ومرَضٌ للنَّفْس، ودمار للأعصاب، وقلق للفكر، وحسرات للفؤاد ..
كان حديثنا في الخطبة الماضية عن الحسد، حيث بيَّنَّا خُبْثَه وشَنَاعَتَه، وقبحه ودناءته، وأنه أول خطيئة في السماوات، وأول معصية في الأرض، وأنه الداء الذي يهلك الأمم، ويدمر الأسر، ويقطع الأواصر، ويمزق الروابط ويمحق الدين، ويأكل الحسنات، ويستمطر الغضب؛ ونتابع اليوم حديثنا عن الحسد، ببيان بعض أسبابه ودوافعه، وبعض سبل علاجه.
للحسد أسباب كثيرة، ودوافع عديدة، ومن أهمها:
1- قلة الإيمان، وضعف الدين، وغياب التقوى: وهذا سبب جامع لكل سبب؛ فإن القلب إذا عمر بجلال ربه، وجمال خالقه، ومحبة سيده، تلاشت منه خلائق السوء، ووصائم الأفعال.
وإنَّ زُلال الوحي، ورحيق السنة، وأخلاق المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، إذا تعطرت بها نفْس، وتطيَّبَ بها قلب، وتزينت بها روح، خلت من النقائص، وأقفرت من الخطايا، وارتقت إلى سماء المثل، وحلقت في أجواء الأدب، وتروَّت من أنهار التقوى.
وإن القلب إذا خبث، والروح إذا فسدت، تربع فيها الشيطان، فملأها بأحب الصفات إليه، وأقربها منه، فإذا بها تفيض حسداً، وتموج حقداً، وتضطرم غلاً، وتتلهب ظلماً وعدواناً.
2- العداوة والبغضاء: وهذا سبب من أهم الأسباب، فإن من أبغض شخصاً، أو عادى إنساناً لأي سبب من الأسباب، كره له الخير، وتمنى له الشر، وحقد عليه.
والحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقها، وهي مطيته المفضلة، ووسيلته المحببة؛ والحسد -بسبب البغض- قد يفضي إلى التنازع والتقاتل، وبذل الجهد في هتك السر، والتشفي، والانتقام.
والحسد بسبب العداوة سمة من سمات الكفار، وخلق من أخلاق المنافقين، قال تعالى: (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران:119]، وقال تعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران:118].
وإن المؤمن لا يعادي إلا أعداء الله، ولا يبغض إلا مَن أبغضه الله، ومع ذلك فهو يتمنى له الهداية، ويرجو له الخير، ويسعى إلى نجاته، ولا تسوِّغُ له عداوتُه أن يظلمه أو يبغي عليه، فكيف بمن يعادي المسلم، ويبغض المؤمن، ويكره الموحِّد؟! وإن ذلك لا يعني أنه لا تكون عداوة بين مسلمين، أو بغض بين مؤمنين، أو حقد بين متقاربين، بل ذلك في الناس كثير.
ولكن المؤمن الحق، والمسلم الصدق، يمتثل أمر ربه، ويقف عند حدود شرعه، ويسعى إلى تزكية قلبه، وتنقية روحه، وتهذيب مشاعره؛ فيقابل سيئات إخوانه بالغفران، وجهلهم بالحلم، وعداوتهم بالمودة، ولا شك أن ذلك أمر صعب، ومرتقى مرهق، ولكنه يسير على من يسره الله عليه، (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:34–35].
3- الكبر: فإن مَن كان في طبعه الكبر لا يحتمل أن يرى غيره، خصوصاً من كان أقل منه، قد أوتي خيراً، أو نال منزلة، أو فاز بمكانه.
ومن الحسد للكبر كان حسد كثير من الكفار للنبي -صلى الله عليه وسلم-، إذ قالوا: كيف يأتي هذا الغلام اليتيم فيتقدم علينا جميعاً ونحن سادة كُبَراء؟! قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف:31]؛ وقد كان بعض الكفار يحتقرون بعض من آمن ويقفون في طريقهم ويقولون: (أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) [الأنعام:53].
4- الخوف من فوات المقاصد والمصالح: وذلك إن كان مقصودهم واحداً، ومصالحهم مشتركة، أو مهنهم ومتاجرهم واحدة؛ ومن ذلك تحاسُد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلوب الأبوين للتوصل إلى مقاصد معينة، وتحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد جُلَسَاء الرؤساء والكُبَراء لِنَيْل المنزلة الأكبر والحظوة الأهم لديهم، لدرجة أنه قد يوشي أحدهم بالآخر ليزيحه من طريقه، ويبعده عن مصالحه؛ وتحاسد المتنافسين على منصب واحد، وتحاسد التجار المتجاورين ذوي البضاعة الواحدة، وما إلى ذلك. وهذا كله من قلة الدين والعقل والرضا والقناعة.
5- خبث النفس، وخسة طبعها، وشحها بالخير على عباد الله: وهذا من أسوأ الأسباب؛ لأن الحسد الناتج عن سبب طارئ ربما يزول إذا زال السبب، أما الحسد الناتج عن خبث النفس فإنه داء مغروس في أعماقها، وبلاء متأصل في جذورها، تصعب معالجته، وتعسر إزالته.
6- عدم الرضا بقضاء الله، والقناعة بما آتاه: فإن الحسد لمن آتاه الله فضلاً أو مالاً أو مكانة أو جمالاً هو تسخط على قضاء الله، واعتراض على حكمه، وتبرم بقدره، (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14]، (إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27].
أيَا حاسِدَاً لِي علَى نِعْمَتِي *** أَتَدْرِي عَلى مَنْ أَسَأْتَ الأَدَبْ؟
أسأْتَ على اللهِ في حُكْمِهِ *** لِأَنَّكَ لَمْ تَرْضَ لِي مَا وَهَبْ
فأَخْزاكَ رَبِّي بِأَنْ زَادَنِي *** وسَدَّ عليْكَ وُجُوهَ الطَّلَبْ
قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء:54]، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: ألا لا تعادوا نعم الله!، فقيل: ومن يعادي نعم الله؟! قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
إن الحسد نقيض الإيمان، وعدو الدين، ودمار المثُل، وحرب الأخلاق، ورأس المساوئ؛ ولا يجدر بمؤمن أن يكون من أهله، ولا يليق بعاقل أن يمشي في ركابه، فهُوَ غَمٌّ في الدنيا، وشَرٌّ في الآخرة، وتعَبٌ للقلب، ومرَضٌ للنَّفْس، ودمار للأعصاب، وقلق للفكر، وحسرات للفؤاد.
وإن هنالك أسباباً هامة، إذا تأملها المرء أبعدته عن الحسد، وجنبته متالفه، وأهمها ما يلي:
1- امتثال أمر الله تعالى وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في البعد عن الحسد، فهو من كبائر الذنوب، وشنائع المعاصي، وقد أمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يستعيذ بالله من شر الحاسد وحسَده، وأخبر تعالى أنه سمة الكفار، وصفة اليهود، وديدن المنافقين، وقد أوردنا عدداً من أحاديثه -صلى الله عليه وسلم- في التحذير من الحسد، والترهيب من عقابه، وأنه لا يجتمع إيمان وحسد في قلب إنسان.
إن من أراد أن يظفر برضوان خالقه، ويفوز بجنات النعيم، ويكون ممن لقَّاهم ربهم نضرة وسرورا، فعليه أن يتخلص من هذا الخلق الذميم، ولا يسمح له بالدخول إلى قلبه، أو التسلسل إلى نفسه، ليفوز برفقة قوم قال تعالى عنهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الحجر:47].
2- العقل: إن العاقل لا يرضى لنفسه بهذا الخلق المقيت، والطريق المشين الذي ليس منه إلا الضرر والنكد والأسى والتعب، فهولا يضر المحسود، ولا يغير القدر، ولا يرد النعمة، ولا يؤذي من وجه إليه، إنما ضرره وَهَمُّهُ على الحاسد نفسه، بل ويزيد ذلك بأن يكون أحسن هدية يقدمها الحاسد للمحسود، بأن يعطيه حسناته، ويحمل عنه سيئاته.
يقول الحسن -رحمه الله-: يا ابن آدم! لِمَ تحسد أخاك؟ فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد مَن أكرمه الله؟ وإن كان غير ذلك فلم تحسد مَن مصيره إلى النار؟ ويقول ابن سيرين -رحمه الله-: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده؟ وما الدنيا إلا حفيرة في الجنة! وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر في الدنيا مصيره إلى النار؟.
قيل لأحد الحكماء: ما بالُ الحسود أشدّ غَمَّاً من غيره؟ قال: لأنه أخذ بنصيبه من غموم الدنيا، ثم أضاف لذلك غمَّه لسرور الناس، وهذا من قلة العقل.
وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً قد بلغ عمره مائة وعشرين سنة، فسألته: ما أطوَلَ عمرَكَ؟ قال: تركت الحسدَ فبقِيتُ وطال عمري. وقال أبو الدرداء: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قَلَّ فرحه، وَقَلَّ حسده.
إن هذه الأمور إذا تأملها العاقل، وأعمل فيها ذهنه، وأيقظ فكره، علم أن الحسد لا يليق بصاحب عقل، ولا يجدر بذي لب.
3- الرضا بما قسم الله له من مال أو ولد أو مكانة؛ فإن ذلك يملأ النفس طمأنينة، والروح سعادة، والفؤاد سروراً، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "اتق المحارم تكن أعبد الناس، اِرض بما قسم الله تكن أغنى الناس" أخرجه الترمذي وحسَّنه الألباني. ويقول بعض الحكماء: من رضي بقضاء الله تعالى لم يُسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد.
وقال عمر -رضي الله عنه-: إن الخير كله في الرضا، فإن استطعت أن ترضى، وإلا فاصبر. وقال ميمون بن مهران: من لم يرض بالقضاء، فليس لحمقه دواء. وقال الربيع بن أنس: علامة الشكر الرضا بقدر الله، والتسليم لقضائه.
إن الحسدَ مناقِضٌ للرضا بما قسم الله، واعتراض على عطائه، وتعدٍّ على حُكمه، وانتقاص لحكمته.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي