سنقف مع آية واحدة من آيات الصيام نبين عن جمالها، ونكشف عن جلالها، ونسعد الأرواح بفحواها، ونمتع الألباب بمعناها، إنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ..
قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان) [البقرة:185].
هذا هو القرآن يتحدث عن رمضان، فيجلي منزلته، ويبين عظمته، ويشرح أحكامه؛ ولا أحسن موعظة من القرآن، ولا أجمل حديثا من الوحي، إن هذا الشهر شهر القرآن، فما أحرانا بالنهل من فيضه، والتزود من زاده، والتضمخ بعبيره، والتدبر لآياته، والتأمل في أسراره!.
وإننا اليوم سنقف مع آية واحدة من آيات الصيام نبين عن جمالها، ونكشف عن جلالها، ونسعد الأرواح بفحواها، ونمتع الألباب بمعناها، إنها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
بدأت بهذا النداء الإيماني اللطيف، حيث دعي المخاطبون بأحب أسمائهم، وأجمل صفاتهم، صفة الإيمان: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) فهو أمر كتبه الله، وأوجبه الخالق (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
الصوم معروف ومشروع في جميع الملل حتى الوثنية، كان عند قدماء الوثنيين المصريين، وعند اليونان والرومان ووثنيي الهند، وجاء في بعض الروايات أن موسى -عليه السلام- صام أربعين يوما، واليهود لهم صيام أيام معينة، وكانوا يصومون يوم عاشوراء، والتوراة فيها مدح للصيام وأهله، وكذلك الأناجيل فيها مدح للصوم، واعتباره عبادة.
(كَمَا).. يا الله! ما أبدع هذه الكلمة! (كَمَا)! يا الله! كم تثير في النفس، وكم تبعث في الفؤاد، وكم تزرع من المعاني واللطائف والذكريات! إنها جاءت لتعطي المشابهة والمماثلة، فمثلكم كمثل الذين من قبلكم، إنه التشبيه البديع الذي يفتح منافذ الأعين والأذهان على سجل حافل بديع جميل من المعاني الرائقة، والذكريات العابقة، والمنن المتدفقة، والعطاءات المتألقة، وهذا التشبيه هو تشبيه في الفرضية فقط، أما الكيفيات والصفات فهي مختلفة؛ فإن رمضان بهذه الصفة لم يكن إلا لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا التشبيه أسرار بديعة، وأغراض عظيمة، ومرام بعيدة، ومن أهمها:
الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها؛ لأن الله شرعها قبل الإسلام لمن كانوا مسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك دلالة على صلاحها، ووفرة ثوابها، ففي التشبيه إنهاض لهمم المسلمين لتلقي هذه العبادة؛ كي لا يتميز بها مَن كان قبلهم.
ومنها قطع لتفاخر أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة: (أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) [الأنعام:156-157]. فألحَقَ اللهُ المؤمنين بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخيري الدنيا والآخرة.
ومن أغراض التشبيه أن فيه تهويناً على المسلمين حينما كلفوا بهذه العبادة بأن غيرهم قد سبقهم بها، وبتحمل تكاليفها. وهذه اللفتات التذكارية، والحنان الرباني، والتسلية الإلهية، ترد في القرآن الكريم لتطمين السائرين، وتسلية المؤمنين، وأعظمهم محمد -صلى الله عليه وسلم- ، فكثيرا ما كانت تعرض عليه قصص إخوانه الأنبياءن وما لاقوه من أقوامهم؛ ليكون في ذلك دفعا لهمته، ونفيا لهمه، وتنفيسا لكربه، وتقوية لعزيمته: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف:35]، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) [يوسف:111].
ومن أغراض التشبيه إثارة العزائم عند المؤمنين للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض، بل يأخذوه بقوة تفوق ما أدت به الأمم السابقة، وهذا من إثارة المنافسة الشريفة، والمسارعة المحمودة لاستباق الخيرات، وكسب الدرجات، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].
ومن أغراض التشبيه ما يثيره في النفوس المؤمنة من العزة بالدين، والفرح بالإسلام والفخر بالمنهج؛ لأن الله اختار لهم الطريق الأكمل، والمنهج الأجمل، فوفقهم للسير في درب العظماء، وسبل الأنبياء والأولياء منذ فجر البشرية، هداهم إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
إن المؤمن حينما يعلم أنه يحذو حذوهم، ويقفو أثرهم، يطمئن قلبه، ويرتاح ضميره، وتزكو مشاعره، ويفيض حنينه؛ يا الله! أنا أصوم كما صام نوح، وكما صام إبراهيم، وكما صام موسى وعيسى ويونس وداود ومحمد! عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
ولذلك فإن هذا التشبيه يرد في آيات أخرى كثيرة، يذكِّر فيها الله تعالى المؤمنين بإخوانهم السابقين لهم، المؤمنين مثلهم، مثل قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور:55].
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- ينهج هذا المنهج التذكيري الجميل، فيحاول ربط أمته بماضيها المجيد، وسلفها الحميد، فحينما كان قادما إلى مكة في رحلة حجة الوداع، حينما وصل إلى وادي الأزرق، وقف ثم نظر إلى أصحابه فقال لهم: "أي واد هذا؟"، فقالوا: هذا وادي الأزرق، قال: "كأني أنظر إلى موسى -عليه السلام- هابطا من الثنية، وله جؤار إلى الله بالتلبية".
ثم أتى على ثنية هرشى، فقال: "أي ثنية هذه؟" قالوا: ثنية هرشى -وثنية هرشى: جبل على طريق الشام والمدينة- قال: "كأني أنظر إلى يونس بن متى -عليه السلام- على ناقة حمراء جعدة، عليه جبة من صوف، خطام ناقته خلبة -أي ليف- وهو يلبي" أخرجه مسلم.
وكذلك الحال في الصيام، فها هو -صلى الله عليه وسلم- يذكرهم بماضيهم الطيب، وسلفهم المبارك في الصيام، فيقول: "أحب الصيام إلى الله صيام داود" متفق عليه.
إن المؤمن يشكر ربه، ويحمد خالقه أنه لم يجعله يمشي في طريق الضالين والمغضوب عليهم من الكافرين والماردين والمنافقين، فلم يكن مسيره في ركب فرعون وهامان وقارون والنمرود وأبي جهل وأبي لهب وغيرهم من تلك السلسلة العفنة التي رميت في مزبلة التاريخ، بل هو مختار للهداية، مجتبى للإيمان، موفق للسير الحسن المشرق المشرف المتألق، صراط الله العزيز الحميد.
تلك ومضات مما يوحي به التشبيه الجميل في الآية الكريمة، أما آخرها، وهو قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
فهذا يهتف بالحكمة الأسمى، والمطلب الأهم من الصيام، وهو بلوغ درجة التقوى، فالصيام تهذيب وتدريب للإنسان على الكمال الروحاني الذي يؤهله لأن يكون من أهل الآخرة؛ لأن التقوى درجة كبيرة من الشفافية، ومنزلة بديعة من المراقبة، إنها استحضار عظمة الباري، واليقين بمراقبته، والحياء من اطلاعه، إنها المنزلة التي إذا ارتقى إليها العبد قرت عينه، وزكا قلبه، وصفا ذهنه، وهذبت أحاسيسه، وتألقت مشاعره، وامتلأت روحه بجلال الله، ومضت مسيرته على نور من الله، فالسير في رضاه، والنطق في طاعته، والسماع لما يرضيه، والأكل مما أباحه، والشرب مما أحله، والكسب مما شرعه، فهو لله، وفي الله، وبالله، ومع الله.
وتعذيب الجسد في الإسلام لا قيمة له، كثير من الوثنيين كانوا يصومون لتسكين غضب آلهتهم، أو لإرضائها أو استمالتها، وكانوا يعتقدون أن إرضاء الآلهة هو بتعذيب الجسد، وحرمان النفس؛ أما الإسلام فيقول لنا: صوموا وزكوا أنفسكم لكي تصلوا إلى درجــة التقوى؛ لتكون طريقا لأنسكم، وسببا في سعادتكم، وجسرا إلى جنان ربكم.
والصوم هو من أعظم العبادات التي توصل إلى التقوى، وذلك لأمور عدة أهمها الرقابة الذاتية، والموعظة الشخصية، وأن المرء في صيامه تعرض له كل الشهوات، فيترفع عنها ويتركها امتثالا لله، ومراعاة لمراقبته، وهذه الروح لا تزال بالمرء حتى تجعله في قمة المراقبة والحياء منه تعالى أن يراه حيث نهاه.
انظر إلى الصائم تتجلى له الشهوات والملذات في وجهها الخلاب، ومنظرها الجذاب ثم يعرض عنها ولا يلتفت إليها.
هذه هي الزوجة الحسناء، تميس أمامه، وتتمشى بين يديه، في قدها المياس، ووجها الجميل، وملبسها القشيب، وبسمتها الآسرة، ونظراتها الساحرة، يفوح عطرها، وينتثر عبيرها، وهو الذي يهيم بها حبا، ولا يطيق عنها صبرا؛ ولكنه مع كل ذلك كابح لجماحه، كافّ لنفسه، حازم لشهوته، مالك لإربه، ليس خوفا من أحد، ولا مراعاة لرقيب، فالأبواب مغلقة، والشبابيك موصدة، والفراش وثير، والأمر مثير، ولكنه أعرض عنها خوفا، ومراقبة، ومراعاة، وإجلالا، وحياء من الله الواحد الأحد، السميع البصير، العليم الخبير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. أليست هذه درجة من التقوى بديعة؟.
انظر إلى الصائم، وقد يكون أرهقه التعب، وأنهكه الجوع، وأمضَّه العطش، ثم يرى من صنوف الطعام، وأشكال الشراب، وموائد الأكل، ما تهفو له النفوس، وتضعف عنده القوى، وتتحطم أمامه العزائم؛ مناظر لو رآها في يوم فطره لانقض عليها كما ينقض الأسد، ولَهَبَّ لَهَا كما يهبُّ الصقر، ولكن الصيام هذب نفسه، وصبَّر جوعه، وسكّن ألمه؛ فالله مطلع، والخالق رقيب، والعظيم يرى، فيصرف النفس عن كل ذلك، ويصبح طمعه وشوقه ورجاؤه في غفران ربه، وقبول صومه.
بل هذه هي المرأة الصائمة المؤمنة تظل ساعات في مطبخها، وقد تكون منهارة القوى، ظامئة الفؤاد، وهي تهيئ الطعام، وتعد الشراب، وترتب المائدة، ثم لا تهفو نفسها لها ولا تميل شهيتها إليها، إلا بعد أن تسمع هتاف المؤذن، ونداء الصلاة. أليست هذه درجة من درجات التقوى؟.
انظر إلى الصائم يستفزه الغضب، ويستثيره الخصم، ويماحكه الآخر، ويجـادله المجـادل، ويثير انفعاله الحدث، ويهزه الخطأ، فيكاد يطلق للنفس زمامها، وينساق وراء الغضب، ويندفع خلف الهوى، ويطلق اللسان بما يشاء، فيتذكر الصوم، فيحبس لسانه، ويكبت غضبه، ويكظم غيظه، ويُهدِّئ أعصابه، ويتذكر ربه، ويتعوذ من الشيطان، ولا يسمح لنفسه أن يتمتم إلا بكلمتين خفيفتين لطيفتين حبيبتين: اللهم إني صائم، اللهم إني صائم، أليست هذه منزلة من منازل التقوى.
انظر إلى الصائم! قد يكون في أيام فطره له ميل إلى بعض اللهو، أو ولوغ في شيء من المعاصي، أو جرأة لبعض المحرمات، أو تلبس ببعض المخالفات؛ فإذا صام قاده صومه إلى الطاعة، وجره إمساكه إلى المسجد، وقاده رمضانه إلى الخير؛ وما إن يلم به طائف، أو تستهويه شهوة، حتى يتذكر صيامه، ويحاسب نفسه، ويعاتب ضميره. (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف:201]، فالصيام أعظم مُرَبٍّ للإرادة، وكابح لجماح الأهواء.
ومن طرق الوصول للتقوى بالصوم، أن الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتا، فيحمله ذلك على الرأفة والرحمة واللين التي تدعوا إلى البذل والصدقة والسخاء وتطرد الأنانية، وتزرع الشفقة، وبها يحصل التكافل والتعاون بين المسلمين، (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح:29]، وهذه منزلة من منازل التقوى.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي