بين العقل والعاطفة

عبد العزيز بن عبد الله السويدان
عناصر الخطبة
  1. العقل ميْزة الإنسان على الحيوان الأعجم .
  2. أهمية العاطفة .
  3. التأثير السلبي للعاطفة على سلامة التفكير .
  4. أهمية التوازن بين العقل والعاطفة لضبط السلوك والتفكير واتخاذ القرار .
  5. ما يعين على هذا التوازن .
  6. الخطأ في ربط الإيمان بالعقل المجرد .

اقتباس

موضوعنا اليوم يتناول هذا التوازن وبالأخص التوازن بين العقل والعاطفة، العاطفة من عَطَفَ، أي: مال، وهي قابلية النفس للميل والتأثر الشديد بسبب المشاعر، كالمحبة، والبغض، والشفقة، والعصبية، وغيرها من المشاعر. هذه المشاعر إذا تأججت بالنفس وتحرك الإنسان بموجبها وحدها دون العقل سوف توقعه في الظلم والإساءة والإفساد؛ لأن العاطفة لوحدها -أيها الأخوة- تؤدي إلى الميل الشديد نحو شيء معين دون تبصُّر ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد: فلقد كرم الله ابن آدم، ومَنَّ عليه بالعقل والقدرة والإرادة، وميَّزه بها على سائر الخلائق، قال سبحانه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء:70].

وبهذا التكريم والتفضيل افترق الإنسان عن البهيمة في عدة صفات منها العقلُ الراجح الذي يؤهله لتحمل التكاليف، ومنها التوازنُ بين العقل وبين الشهوة، فالبهيمة لا تحركها إلا الغرائز والشهوات، كشهوة الأكل، وشهوة الشرب، وشهوة النوم، وكغريزة البقاء، وغريزة التزاوج. وهكذا.

وليس للعقل في عالم البهائم أثر حقيقي وإنما السيطرة في عالم البهائم للشهوات والغرائز، أما الإنسان فعالم آخر عقله راجح وغرائزه وشهواته وعواطفه متزنة مع عقله، وكلما اكتمل لدى الإنسان هذا التوازن كلما ازداد كمالا وعدلا وتوفيقا.

موضوعنا اليوم يتناول هذا التوازن وبالأخص التوازن بين العقل والعاطفة، العاطفة من عَطَفَ، أي: مال، وهي قابلية النفس للميل والتأثر الشديد بسبب المشاعر، كالمحبة، والبغض، والشفقة، والعصبية، وغيرها من المشاعر.

هذه المشاعر إذا تأججت بالنفس وتحرك الإنسان بموجبها وحدها دون العقل سوف توقعه في الظلم والإساءة والإفساد؛ لأن العاطفة لوحدها -أيها الأخوة- تؤدي إلى الميل الشديد نحو شيء معين دون تبصُّر أو هوية أو اعتبار لحق أو باطل، وعلى العكس أيضا تؤدي إلى الابتعاد عن ذلك الشيء ومجافاته بلا سبب شرعي أو عقلي سوى العاطفة، العاطفة لوحدها لا توصل إلى الحق.

ولا ننسى أن نذكر في هذا المقام أنه بالرغم من ذلك فإن العاطفة صفة مطلوبة وضرورية في الإنسان، إذ بها يرغب في الأجر، ويرهب من فواته، ويرجو ويخاف ويتأثر بما في كتاب الله من الوعظ والتذكير.

بالعاطفة يبقى الحب، ويتآلف الناس، ويصفح بعضهم عن بعض، ويزول الشقاق، (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159]، (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الحجر:88]، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].

لولا العاطفة لفسدت عقيدة الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله، لكن ينبغي ألا يكون للعاطفة المجردة الفصل في المواقف دون العقل، بل لا يكون الرشاد إلا بالتوازن، فالإنسان الذي تحركه عاطفته قبل عقله فهي الخداع، سهل الخداع، كثير الأخطاء، سريع القرار.

لقد كان من أسباب اشتراط شهادة امرأتين في العقود والمعاملات التجارية أن المرأة في فطرتها ذات عاطفة فياضة، قد تؤدي بها إلى النسيان: (أنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى) [البقرة:282].

وجاء فيما ينبغي مراعاته في المفتِي ألا يُفتي في حال انشغال قلبه بغضب أو رهب أو إرهاق أو شهوة، أو طمع في مصلحة أو غرض يناله من قِبل المستفتي مما يخرجه من الاعتدال، وكذلك إذا طغت عليه شدة الحزن أو شدة الفرح ونحوهما، فإن غلب انفعاله على صحة تفسيره وجب عليه أن يكف عن الإفتاء حتى يعود إلى طبيعته.

وقد صح في البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقضين حكَم بين اثنين وهو غضبان"، وذكر مما ينبغي مراعاته أن لا يفتي في المعاملات شخصاً قريباً له إن كان إفتاءه بما هو في صالح قريبه، ولا يفتي عدوا إن كان الجواب في غير صالحه، كل هذه الاعتبارات والشواهد تشير إلى شدة تأثير عاطفة الإنسان في مدى حكم تصرفاته، واستقامة فكره، وصحة قراره، واعتدال موقفه.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: ومعلوم أن الرأي لا يتحقق إلا مع اعتدال المزاج... فالبدار بالانتقام حال الغضب يعقب ندما؛ لأن عاطفة الغضبان تكون متأججة بالغضب مما يحمله على الإسراف في الانتقام، فإذا هدأ وزال غضبه ندم على ما بدر منه... وطالما ندم المسرور على مجازفته في العطاء، نعم! لأنه كان وقت عطائه غارقاً في السرور فبالغ في العطاء... وود لو كان اقتصد -أي بعد أن زال عنه السرور الغامر وأصبح في حالته الطبيعية-.

أيها الأخوة: اشتهر أن لدى العرب من المشاعر العاطفية القوية ما ليس عند الغربيين، الغربيون إجمالا أعصابهم باردة، لا يشتعلون بسرعة، أما العرب فيشتعلون بحرارة، سريعون في الغضب، سريعون في الفرح، سريعون في التأثر؛ والحقيقة أن كلا الطرفين ذميم: البرود وشدة الحرارة.

فالإنسان يحتاج إلى توازن بحيث لا يطغى العقل على العاطفة، ولا العاطفة على العقل، فمن الخطأ أن لا تجد الرحمة في مواقف تستدعي الرحمة، وألا تجد العقل والحزم في مواقف تستدعي ذلك، المخرج من هذه الفوضى إنما يكون أولا بالتؤدة والتأني؛ لأن العاطفة المفرطة تدفع صاحبها للعجلة، وتحجب عنه الصورة الكاملة، وتمنعه من كمال الفهم، واستيفاء النظر، واستشراف العواقب.

وقد حصل هذا من أفضل الناس بعد الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، حصل من عمر الفاروق بنيته الطيبة وغيرته على الإسلام، نعم، لقد كانت عاطفته إيمانية فياضة ولكنها دفعته إلى الاستعجال في اتخاذ الموقف الخطأ بالرغم من مواقفه العظيمة -رضي الله عنه- التي وافقها القرآن مرات عديدة.

ففي موقفه يوم الحديبية اعترض على بعض بنود الصلح غيرةً للدين، فكان يقول: يا رسول الله! ألسنا المسلمين؟ ألسنا المسلمين؟ أليسوا المشركين؟ فكيف نرضى بالدنية في ديننا؟ ويضطرب ويتألم -رضي الله عنه-، هذه عاطفة إيمانية، وموقف حميد في أصله من حيث المنبع، لكنه في تلك الظروف وبتلك الكيفية كان خطأ.

ولذلك يقول -رضي الله عنه- بعد ذلك الموقف: "عملت لذلك أعمالا"، أي أعمالا صالحة تجبر ذلك الخطأ، حيث كان -رضي الله عنه- بعد ذلك إذا تذكر موقفه مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتصدق ويعتق وينفق ليكفر عن ذلك الموقف.

إذاً -أخي المسلم- لا تعجل في اتخاذ قرار ما لمجرد فرط محبة، أو من أجل العصبية لعرق أو نسب أو بلد، أو لمجرد الكراهية الشديدة لأمر ما، هذه المشاعر العاطفية المجردة تدفعك للعجلة، تمهَّلْ وفكر ودع لنفسك وقتا كافياً للتأمل وإبعاد النظر؛ فإن التؤدة مهمة في ضبط التوازن بين العقل والعاطفة.

هذا أولا، وثانيا ينضبط التوازن بالتحكُّم في المشاعر، بوضع كل شيء في مكانه الصحيح، فكما أن مقام الشفقة والرحمة لا يحتمل القسوة، فإن مقام الحزم والشدة لا يحتمل اللين والرأفة، هذا ما نتعلمه من القرآن، قال سبحانه: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ) [النور:2]، الرأفة هي أرق الرحمة، يعني لا تمعنكم الشفقة من إقامة حدود الله.

فليس الإنسان منهياً عن الرأفة ذاتها، لا، بل الرأفة صفة جميلة اتصف بها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128]، حَرِيٌّ بنا أن نتصف بها؛ وإنما النهي عن تأثير الرأفة في منع إقامة الحد، أو إنكار المنكر، أو تعطيل إثبات الولاء والبراء من المشركين.

فينبغي أن يكون استحضار الرأفة والعمل بمقتضاها في مواطنها الصحيحة، كان لسعد بن معاذ -رضي الله عنه- موقف حازم مع مَواليه وأنصاره السابقين من يهود بني قريظة، فقد نزلوا على حكمه فيهم؛ طمعاً في حميَّته لكونه سيد الأوس، والأوس هم أقرب الناس إليهم من المسلمين، هم حلفاؤهم حلفاء بني قريظة.

ولكن لم يمنع سعداً عاطفةٌ ولا شفقة ولا سابق حلم وحمية من الحكم الصحيح في خيانتهم الكبرى، ولما أسر عليه بعض قومه من الأوس وهو على الدابة سائراً إلى موقع الحدث: يا سعدُ أَجْمِلْ إلى مواليك فأحسِنْ فيهم؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حكَّمَكَ فيهم، يكررون ذلك عليه وهو ساكت لا يرجع إليهم شيئاً.

فلما أكثروا عليه قال مقالته المشهورة: لقد آن لسعد ألَّا تأخذه فى الله لومة لائم. فحكم فيهم أن يُقتَل الرجال، وتسبى الذرية، وتقسَّم الأموال؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات".

هكذا تجتنب العاطفة عند إقامة الحدود، ولقد كان موقف أبي بكر خير من موقف الفاروق بحادثة ارتداد بعض الأعراب عن دفع الزكاة، وذلك لما أمر أبو بكر بقتالهم، وقال له عمر: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم، رد عليه الصديق: أجَبَّارٌ في الجاهلية خوَّارٌ في الإسلام؟! فلماذا أتألفهم؟! قُبِض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانقطع الوحي وتم الدين، أينقض وأنا حي؟ والله لو منعوني عقالا كانوا يعطونه رسول الله لقاتلتهم عليه.

إذاً، فالتحكم بالعواطف تجاه الحدود والأحكام مهم جداً، كما أن التحكم بالعواطف حين التقاء السيوف مع أعداء الله في أرض المعركة أمر لازم، ولذلك قال تعالى: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) [محمد:4]، وقال تعالى: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) [الأنفال:12]، لا وقت هنا للعاطفة.

لكن تفيض العاطفة في مكانها الصحيح حين التعامل مع الأطفال والنساء والضعفاء، كصبره -صلى الله عليه وسلم- على نسائه وغيرتهن، وتفهمه لصغر سن عائشة -رضي الله عنها- حين وضعت رأسها على منكبه وهي تنظر على لعب الحبشة، يسترها حتى ملَّتْ وشبعت. ويركب على ظهره الشريف الحسَنُ والحسين وهما طفلان -رضي الله عنهما- فيسعد بذلك -صلى الله عليه وسلم- رأفة بهما، وهكذا.

أيها الأخوة: ينبغي أن يدرب المسلم نفسه على التحكم بعاطفته بحسب الموقف، وهذا ما يقودنا إلى العامل الثالث من عوامل ضبط التوازن بين العقل والعاطفة، ألا وهو معرفة الموقف الشرعي الصحيح قبل الموقف العاطفي؛ لأننا أصلا محاسبون على ما تكنه قلوبنا من ود وحب، أو بغض وكره، بل إن دين الإسلام قائم على ذلك.

ففي إسناد سنن أبي داوود بإسناد صحيح عن أمامة عن رسول الله قال -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان"، إذاً فمن أحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان.

وقال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا -رضي الله عنه-مْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22].

ويقول سبحانه: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24].

فلينتبه كل مؤمن إلى هذا الأمر الحاسم من أمور العقيدة، محبة الله ورسوله تُقَدَّمُ على كل محبة، والناس إنما يقربون من قلب المؤمن أو يبتعدون عن قلبه بحسب قربهم من الله أو بعدهم عن الله، هذا هو الميزان الصحيح.

أما الأصل من القبيلة أوالعرق أو القربة إنما يأتي مكملا للحب في الله، فإذا خرج الإنسان عن دين الله، أو ابتدع فيه، أو أعرض عن أصل من أصوله، أو قدَّم رضا الخلائق على رضا الله تعالى، أو قدَّم قوانين البشر على شريعة الإسلام، فقد يعيش معه المؤمن، وقد يصبر على كبائره، ولكن لا يكون له في قلب المؤمن موطن ولو كان ذا رحم، ولو كان ما كان ليس له في قلب المؤمن مودة، وذلك حتى يصطلح مع الله، حتى يتوب إليه.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، واستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن ولاه.

أما بعد: فيقول -سبحانه وتعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [هود:23]، هذا الإخبات الذي هو الخشوع والاطمئنان عمل قلبي محض، لا يحصل إلا من خلال عاطفة إيمانية عالية؛ لأن بعض الناس يصرون على ربط الإيمان بالعقل المجرد، وهذا مفهوم عقلاني جاف.

وإنما خلق الله العقل للاستدلال على آياته، والتعرف على أحكامه؛ أما القلب الذي هو محل المشاعر والأحاسيس فهو مكان ارتقاء الإيمان، فلا غنى لنا عن عاطفة إيمانية هي روح الدين، ومكان انعقاده، قال تعالى في القلوب: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) [الفتح:4].

أعود وأقول: عند الحكم على الأشياء، واتخاذ الموقف، والتعامل مع الآخرين، لابد من الاتزان بين العقل والعاطفة.

وفقنا الله وإياكم إلى السداد.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي