تحطم طائرة

ناصر بن مسفر الزهراني
عناصر الخطبة
  1. أخذ العبرة من تحطم الطائرة .
  2. ضرورة الاستعداد للموت وعدم الغفلة عنه .

اقتباس

يا الله! ما أعجب الموت! وما أشَدَّ فاجعته! وما أصعب قارعته! وما أدهى? نازلته! زائر لا يستأذن، وضيف لا يجامل، وباطش لا يتردد؛ يتسلق الجدران، ويعبر البحار ويصعد للأفق، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) ..

بينما الركاب في هناءٍ وسرورٍ، وغبطةٍ وحبورٍ؛ بالٌ مطمئن، ونفْسٌ ساليه، فرَحٌ بالعودة، وتطلُّع للوصول، وترقب للنزول، تجاذُبٌ لأطراف الحديث، وتذاكر في أخبار الدنيا وأحوالها؛ هذا يرتب أوراقه، وذاك يتفقد جواز سفره، وآخر يجمع أغراضه، وغيره يهيئ حقائبه. 

وأم تمشط شعر ابنتها الصغيرة وتزينها لمقابلة أهلها وأقاربها، وأخرى تغير ملابس أبنائها وتبشرهم بقرب هبوط الطائرة، وثالثة تتأمل في ملابسها الضيقة وساقيها الجميلتين، ورابعة أحضرت حقيبة مكياجها وبدأت تزين وجهها، وتتأمل كحل عينيها، وتنظر في قصة شعرها، وتستعيد أحداث الرحلة، وأخبار الإجازة لتتحدث بها إلى صديقاتها، وتتباهى بها مع زميلاتها.

وراكب آخر منشغل بفتح شريحة جواله ليبدأ اتصاله بأهله، ويبشر أقاربه بوصوله، وتاجر في مقدمة الطائرة مكب على كمبيوتره، ومنهمك مع آلته الحاسبة يخطط لتجارته، ويحسب مرابحه؛ وراكب آخر قد خفق قلبه، وعظم شوقه، وزاد تلهُّفه لرؤية زوجته وأبنائه الذين وصلوا إلى المطار لاستقباله يحملون باقات الورود، وأنواع الزهور؛ وراكب سرح بخياله، وتاه بفكره، يتذكر ساعة لقائه بوالده ووالدته، وعناقه لزوجته، وضمه لأبنائه؛ قد أحضر لهم الهدايا، وجلب لهم المفاجآت.

وهنالك راكب يغط في سبات عميق، قد أضناه السهر، وراكب مُنْزَوٍ في ركن الطائرة يقرأ في مصحفه، ويتفكر في عظمة خالقه، ويدعو الله في سلامة الوصول؛ أنواع وأشكال، وأعداد وأحوال، وآلام وآمال، وأخبار وأفكار، كلٌّ في وادٍ يَهيم، وفي خيال يسبح، وفي فكر يتيه؛ وربما لم يكن في ذهن واحد منهم أن هذه اللحظات هي آخر زاده من الدنيا، ونهاية ساعاته من الحياة، وبداية رحلة أخرى لا عودة معها إلى أهل ولا مال ولا ولد.

وفي تلك اللحظات، والناس على هاتيك الحالة، وإذا بالطائرة تضطرب، والهول يقترب؛ تغيرت نظرات المضيفين، وارتبكت أحوال المسؤولين، دبت علامات الخلل، أشَّر مؤشر العُطل، دق جرس الإنذار، أشارت إضاءات الأخطار، نودي في الركاب بلغة قلقة، وصوت مرتبك، أن أعِدُّوا العدَّة، وشدُّوا الأحزمة، وهيئوا قوارب النجاة، وتنبهوا للأوكسجين.

الطاقم انهارت أعصابهم، الركاب جفت أرياقهم، بعض العاملين خر مغشيا عليه، الخطر زاد، والهول عظُم، الأمر ادْلَهَمَّ، ارتفع بكاء النساء، واشتد عويل العجائز، وعظم صياح الأطفال، واشتد نحيب الرجال؛ ارتجت الطائرة بالبكاء، اكتظ الأفق بالضجيج، هذا يده على قلبه، وذاك كفاه على عينيه، وآخر ينهش أنامله، وتلك تنكب على طفلها.

هول وفزع، خوف وقلق، حيرة واضطراب، لوعة واحتراق، حسرة وألم، خشية وندم؛ وفي لحظات سريعة يهوي الجميع في البحر، فإذا بالطائرة العظيمة قطع مترامية، وأوصال متباعدة؛ وإذا بالأجسام الحسنة، والوجوه الجميلة، جثث هامدة تتدافع بها الأمواج، وإذا بالأصوات تنقطع، والبسمة تختفي، والفرحة تنطفي، والآمال تنتهي، وكأن شيئا لم يكن، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) [مريم:98].

ثم تأتي فرق الإنقاذ فتجرد الجميع من أغراضهم الشخصية، وتجمع حُلِيَّهُم، ثم يودَعُون في الثلاجات مجردين من كل ما يملكون، (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام:94].

يا الله! يا الله! يا الله! ما أعجب الموت! وما أشَدَّ فاجعته! وما أصعب قارعته! وما أدهى نازلته! زائر لا يستأذن، وضيف لا يجامل، وباطش لا يتردد؛ يتسلق الجدران، ويعبر البحار ويصعد للأفق، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء:78]، لا يمهل الذي في يده كأس من الماء ليشربه، ولا ينتظر الذي في يده لقمة ليأكلها.

مئات العبر التي يبثها الله تعالى في الكون، لأخذ الذكرى، والإفادة من الموعظة، ولكنْ قَلَّ المدّكرون! وندر المعتبرون؛ هكذا يهجم الموت، والمرء في غفلة من أمره لا يخبره فيتجهز، ولا ينذره فيستعد، ولا يعطيه الفرصة ليتوب؛ فيا بشرى لمن فاجأه الموت، وهو على أهبة من أمره، وحيطة من شأنه، وبصيرة من حياته!.

وفرْقٌ بين خاتمة حسنة ونهاية مرضية، وبين خاتمة سيئة ونهاية مخجلة؛ الذي كان على متن تلك الطائرة أو غيرها ممن عصى ربه، وحارب مولاه، وسافر للفساد، ورحل للفجور، كيف يقابل ربه؟ وبمَ يدلف على مولاه؟.

لو جاءه مَن يقول له: ماذا تتمنى الآن قبل أن تموت؟ لقال: أتمنى أن أُعْطَى مهلة لأتوب إلى ربي وأعمل صالحاً، (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100].

ولكن البشرى لمن كان على طاعة خالقه، ورضوان رازقه، والبون بين الفريقين شاسع، قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية:21].

فيا أيها الغافل إلى متى الغفلة؟ ويا أيها المغرور إلى متى الغرور؟ أما آن لك أن تعود إلى ربك، وتثوب إلى رشدك، لتكون من عداد المفلحين، ومن صفوف التائبين، استجابة لنداء رب العالمين: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31].

سئل -صلى الله عليه وسلم-: من أكيس الناس وأحزم الناس؟ فقال: "أكثرهم ذكرا للموت، وأشدُّهم استعدادا للموت قبل نزول الموت، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة" أخرجه الطبراني وحسَّنه الهيثمي. ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" أخرجه البخاري.

واغْنَم العُمْرَ فَالمنَايا خفَايا *** كَمْ دهَا الخطْبُ أنْفُسَاً غافِلاتِ
ليسَ تُغْنيكَ توبةٌ أو بُكاءٌ *** حينَ تُمْنى بهجْمَةِ النَّازِعاتِ
إِنَّهُ مَوْعِدٌ ومَا عنْهُ مَأوىً *** لَو سكَنْتَ البُروجَ والنَّاطِحاتِ
أينَ أهْلُ السُّلْطانِ والجاهِ ممنْ *** تاهَ فَخْراً في الأعْصُرِ الماضِياتِ
كدَّر الموْتُ صفوَهُمْ ثمَّ بادوا *** وتجلَّتْ رسومُهُمْ دارساتِ
أينَ مَنْ غَرَّهُ جَمالٌ ومَالٌ *** مِنْ كِبارِ السَّاداتِ والسيِّداتِ
سكنوا باطِنَ الثَّرى بعدَ عِزٍّ *** في ظِلالِ المنازِلِ الشَّامِخاتِ
أكلَ التُّرْبُ حُسْنَهُمْ وَتَمَشَّى الـ *** ـدُّودُ يرْعَى في أعْظُمٍ بالياتِ
فلْتُبَادِرْ إِلى اغْتِنامِ اللَّيالي *** ولُحٌوقٍ بالرَّكْبِ قبلَ الفَواتِ


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي