إن هذا الدين كُلٌّ لا يتجزَّأ، وإنَّ من أهم بنوده ومتطلباته السعي في العفو، والقيام بالإصلاح، وبذل المعروف، والإحسان إلى? الخلق، وإغاثة اللهفان، وإطعام الجائع، ورفع الضيم، وتنفيس الكروب، وتفريج الهموم، وغير ذلك من روائع البر، وفضائل الإحسان التي تبذل إلى? عباد الله تعالى?؛ وإن العمل بها، والسعي فيها، دِينٌ يُدَانُ لله تعالى? به، بل وأمر شرعي يجب القيام به، ولا يجوز إهماله، أو التخلي عنه، أو التفريط في شأنه..
كلما أمعنتَ النظر في هذا الدين بهرك بجلاله وجماله، وشموله وكماله، وسمو مقاصده، ونبل مراميه؛ فالله -جل وعلا- هو الخالق الرازق، والمالك المتصرف، والواحد الأحد، وهو الذي له الخلق والأمر، فلو قضينا أعمارنا، وبذلنا أوقاتنا في صلاة وصيام، وركوع وسجود؛ بل لو مرغنا جباهنا له دهرنا كله ما وفينا بحقه، وما عبدناه حق عبادته.
ومع ذلك فإنه -جل وعلا- لم يُقِم دينه على مجرد الإتيان بحقوقه وحده، وصرف العمر للصلاة والصوم والحج والعمرة وما إلى ذلك فقط، بل أقام هذا الدين على دعامتين جليلتين، وقاعدتين متينتين، لا غنى لإحداهما عن الأخرى، وهما حقوق الله تعالى، وحقوق عباده.
وجعل حقوق عباده من ضمن عبادته وطاعته، وهي ثمرة حقيقية، ونتيجة حتمية لتقواه والإيمان به، ورتب عليها من الأجر والثواب مثلما رتب على القيام بحقوقه من أجر، فيغدق الفضل، ويهب الحسنات المضاعفة، ويغفر الذنوب، ويرفع الدرجات، ويرضى عن العبد لقيامه بأمور يسيرة أحسن بها إلى المخلوقين، أو تفضل بها على المؤمنين، فيُسكن رجلا في الجنة يتبوأ منها ما يشاء من أجل غصن شجرة أزاحه من طريق المسلمين، ويدخل الرجل الجنة بسبب منيحة العنز، بل ويغفر لبغيٍّ في كلب سقته.
بل الأعظم من ذلك أن يجعل جزاء الإحسان إلى الناس والقيام بحقوقهم أكبر أجرا وأجل مثوبة من التقرب إليه -سبحانه- بالصلاة والصيام، والصدقة والنفل، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بدرجة أفضل من الصلاة والصيام والصدقة؟" قالوا: بلى يا رسول الله, قال: "إصلاح ذات البين" أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
بل ويذكر -تعالى- صفات المتقين، فيقدم حقوق عباده ومدح القائمين بها قبل الحديث عن حقوقه -جل وعلا-، فيقول: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران:133-136].
وربط القيام بحقوق العباد بتقوى الله تعالى والإيمان به بأسلوب ماتع رائع في كتاب الله تعالى في آيات كثيرة، ومن ذلك قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال:1]، فهي الإشارة الواضحة إلى أن التقوى والمراقبة الحقيقية لله تعالى، وإسكان هيبته وجلاله في القلوب؛ هي أصل لانطلاقة الخير، وحسن العمل، وصدق العبادة، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.
ولك أن تتأمل هذا النص القرآني الآسر, والأسلوب البياني الساحر, الذي يشرح لنا حقيقة البر, ويجلي لنا جوهر التقوى, فيرسم صورة هائمة بالجلال, ناطقة بالجمال؛ إذ حوت مزيجاً من روائع الإيمان, ودلائل الإحسان, وحقوق الديَّان, وحقوق الإنسان, أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟ يقول تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177].
وقبل زيادة التفصيل في هذا الموضوع تجدر الإشارة إلى أن من روائع هذا الدين أنه لم يكتف بحفظ حقوق العباد فقط, بل وسائر المخلوقات كالحيوانات والطيور, وهذا أمر جميل وجليل, بل حتى الأشجار والأزهار, ولذلك يُدخل امرأةً الجنة في كلب سقته, ويدخل امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت! وهكذا.
ولك أن تنظر إلى هذا التلازم بين الإيمان به تعالى وبين الإحسان إلى عباده، حيث يقول تعالى عن صاحب الجحيم: (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الحاقة:33-34]، ثم انظر إلى سورة الماعون لِتَرَ ذلك التمازج الأكيد، والوعيد الشديد، (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [سورة الماعون].
ومن أوضح الأدلة التي تجلِّي هذا الترابط الوثيق في دين الله تعالى بين حقوقه وحقوق عباده عشرات الآيات التي تقرن بين الأمر بالصلاة والأمر بالزكاة، فالصلاة حق لله، والزكاة حق لعباده، ولا يكاد ينفك الأمر بالصلاة عن الزكاة في القرآن الكريم، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة:43].
وحينما يذكر -جل وعلا- صفات عباد الرحمن يبدأ بصفات تدل على حسن الخلق، وجميل التعامل، وروعة التواضع، فيقول تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان:63-64].
وإن الذي يأتي بحقوق الله تعالى دون حقوق عباده فلا قيمة لعمله، ولا ثمرة لجهده، والذي يأتي بحقوق عباده ولا يؤدي حقوقه -جل وعلا- فعمله مرفوض، وفعله مردود؛ هذه امرأة ذكروا للنبي -صلى الله عليه وسلم- حسن صلاتها وصيامها، ولكنها تؤذي جيرانها, فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا خير فيها، هي من أهل النار" أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصحَّحه الألباني.
وإذا أردت أن تنظر إلى هذا التواؤم الجميل، والتناغم النبيل، بين حقوق المولى وحقوق عباده، فانظر إلى هذه الأحاديث في حسن الخلق من المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وكيف يمزجها بتقوى الله تعالى، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "اتق الله حيثما كنت، وأتْبِع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وحينما سئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة قال: "تقوى الله وحسن الخلق" أخرجه الترمذي وصحَّحه؛ ويبين -صلى الله عليه وسلم- أن الإنسان بقيامه بحقوق العباد يصل إلى درجة المجتهدين في حقوقه تعالى بكثرة تنفلهم من الصلاة والصيام، فيقول: "إن المؤمن لَيُدْرِكُ بحسن خلقه درجة الصائم القائم" أخرجه أبو داود وصححه الحاكم وابن جبان.
بل ويرفع درجة حسن الخلق وجميل التعامل مع الناس على درجة الصيام والقيام، فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن" أخرجه الترمذي؛ بل يذهب -صلى الله عليه وسلم- إلى أبعد من ذلك حينما يؤكد أن كمال الإيمان، وتمام الإحسان ليس بكثرة الصلاة أو الصيام، لكنه بحسن الخلق، فيقول: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" أخرجه الترمذي وحسَّنه.
ويؤكد -صلى الله عليه وسلم- أن نيل محبة الله ومحبة رسوله هو بالأخلاق الفاضلة، فيقول: "إنْ أحببتم أن يحبكم الله تعالى ورسوله فأدوا إذا ائتمنتُم، واصدقوا إذا حدثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم" صحيح الجامع؛ ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء؛ ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس".
وأدعوك أن تتأمل هذا الحديث النبوي العظيم الذي فيه هذا الملحظ الجميل من التمازج، بل من تقديم الاهتمام بأداء حقوق العباد، حيث يقول -صلى الله عليه وسلم-: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله" وأحسبه قال: "وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر" متفق عليه.
وهكذا يعلمنا ربنا -جل وعلا- ويبين لنا نبينا -صلى الله عليه وسلم- أن من لب ديننا، وجوهر إسلامنا، وأحسن ما يقربنا من ربنا الإحسان إلى الناس، وجمال الخلق، ولطيف التعامل، وإصلاح ذات البين، وبذل المعروف، وحسن الظن، ونبذ الفرقة، وغير ذلك من روائع الخلق.
وكما أن حقوق الله تعالى تتفاوت من حيث الأهمية فمنها ما هو أساس لا يقوم دين إلا به، ولا يصح عمل إلا معه، كتوحيد الله تعالى، والإخلاص له، والمتابعة لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، والقيام بأركان الإسلام، ومنها ما هو واجب وما هو مستحب؛ فكذلك حقوق العباد، فمنها ما هو أصل من الأصول، وتركه مانع من الجنة، موجب للنار، كطاعة الوالدين التي قرنها الله تعالى بطاعته، وأمر بشكرهما مع شكره: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان:14]، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء:23].
ويحذر تعالى من الإشراك به، ويأمر بعد ذلك مباشرة بالإحسان إلى الوالدين، وهذا من التمازج الجميل: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الأنعام:151]، وكذلك صلة الرحم التي قال تعالى عنها: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22-23]، وكحق الجار الذي قال عنه -صلى الله عليه وسلم-: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أخرجه البخاري ومسلم.
وإن من حقوق العباد ما هو ركن من أركان الإسلام، وهو أداء الزكاة، ثم تتفاوت حقوق العباد بعد ذلك من الواجب إلى المستحب إلى السنن.
إن هذا الدين كل لا يتجزأ، وأن من أهم بنوده ومتطلباته السعي في العفو، والقيام بالإصلاح، وبذل المعروف، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة اللهفان، وإطعام الجائع، ورفع الضيم، وتنفيس الكروب، وتفريج الهموم، وغير ذلك من روائع البر، وفضائل الإحسان التي تبذل إلى عباد الله تعالى؛ وإن العمل بها، والسعي فيها، دِينٌ يُدَانُ لله تعالى به، بل وأمر شرعي يجب القيام به، ولا يجوز إهماله، أو التخلي عنه، أو التفريط في شأنه.
وهكذا يمتلك هذا الدين القلوب, ويهيمن على المشاعر, ويستولي على النفوس, وينشر المتعة, ويثير الإعجاب, ويبعث الإكبار, فله الحمد -جل وعلا- أنْ مَنَّ علينا بالإسلام.
كانت تلك إطلالة عابرة, وجولة موجزة, رأينا من خلالها روعة الدين, وسمو المنهج, ونبل الرسالة, وجلال العقيدة؛ رأينا كيف يرسخ الدين هذا النموذج البديع, والتلازم الرفيع بين حقوق الله تعالى وحقوق عباده, وحتى يزداد هذا الأمر وضوحاً, تأمل أركان الإسلام, وأصول المنهج, لترى ما يغمر القلب بالرضا، ويملأ النفس بالمنى.
فأركان الإسلام نفسها تُجَلِّي هذه المتعة الظاهرة, والبهجة الطاهرة, فالركن الأول، وهو توحيد الله تعالى وتوحيد متابعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، تثمر توحيد القلوب والأفكار, وامتزاج الضمائر والأرواح.
والركن الثاني، وهو إقامة الصلاة، يثمر هذه المعاني الجميلة بما فيها من أخلاق وتهذيب وتزكية, وكذلك ما ترسيه صلاة الجماعة من تراص الصفوف والأقدام الذي يثمر الوحدة، والألفة والمحبة، والتلاحم والتراحم والترابط والأخوة, لدرجة أن يؤمر الإنسان في صلاته بإرسال سلامه المعطر بالتقوى والخشوع إلى إخوانه من عباد الله الصالحين على مر التاريخ، ممزوجاً بتحياته لربه وسلامه على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: "التحيات لله، والصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين".
أما الركن الثالث فهو كله حق للعباد, ومع ذلك فدرهم يقدمه الإنسان لعبد من عباد الله كأنما قدمه لله تعالى, بل وكأنما هو قرض منه لربه -جل وعلا-، ويسميه القرض الحسن: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [البقرة:245]، ويقدم الإنسان صدقة وزكاة لعباد الله، فيتولى الله تعالى الإثابة عليها، والترحيب بها؛ بل وتنميتها، والتجاوز عن الذنوب والخطايا بسببها, بل ويضله بها في يوم يجعل الولدان شيباً.
أما الركن الرابع، وهو الصوم، فالأمر كذلك؛ فإن من أهم المعاني التي يرسيها بعد تقوى الله تعالى حسن الخلق للناس, وحسن التعامل معهم, لدرجة أنه لو خالف ذلك فقد أفسد صومه, يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" أخرجه البخاري.
وكذلك الشأن بالنسبة للركن الخامس، وهو الحج، فإن الحج لكي يكون مبروراً مقبولاً يجب أن لا يكدره الرفث والفسوق والجدال, فهو فرض, قال تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة:197]، وكذلك إذا قصر الإنسان مع ربه في الحج فإنه يسترضيه بدم يقدمه للفقراء؛ ومن تمام الحجِّ حَجُّ المتمتع الذي يذبح هدياً للفقراء.
وحينما نتأمل خطب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ومواعظه في الحج نجد أن أغلبها وصية باحترام حقوق العباد والمحافظة عليها, كما في خطبة الوداع وغيرها؛ وحينما سئل -صلى الله عليه وسلم- عن بر الحج قال: "إطعام الطعام، وطيب الكلام" أخرجه الحاكم وحسَّنه الألباني؛ بل لقد كانت خطبة الحج أعظم ميثاق عالمي لحقوق الإنسان.
فيجب على المسلم أن يحرص على تمام دينه, وكمال معتقده, وصفاء منهجه؛ وأن يعلم أنه كما يحرص على هذه الحقوق الربانية من توحيد وصيام وصلاة وزكاة وحج؛ أن يحرص على حقوق إيمانية أخرى, وأوامر ربانية كبرى, وهي امتثال أمر الله -عز وجل- في القيام بحقوق عباد الله عليه, فيحسِّن أخلاقه, ويصفِّي قلبه, ويبذل حبه ونصحه وصدقه لإخوانه.
ويصل ما أمر الله به أن يوصي، ويؤدي الأمانات, ويبذل الحقوق, ويصون الأعراض, ويحافظ على العهود والوعود, ويحذر الحقد والغل والحسد والضغائن، والغش والخيانة، والغيبة والنميمة والأذى والحقوق والقطيعة, وغير ذلك مما يكدر الصفو, ويشوش جلال المنهج, بل ويغضب المولى -عز وجل-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي