ولقد كثرت مجالس الناس اليوم، وكثرت لقاءاتهم ومنتدياتهم، ولياليهم ومسامراتهم وعلاقاتهم، ولكن البركة من الله، فأكثرها مجالس مرض، ولقاءات هوى?، ومسامرات لغط، وأحاديث لهو، وضياع أوقات، وتنابز بالألقاب، كثرت موائدها، وقلت فوائدها، وتنوع طعامها، وفشل نظامها، وطاش كلامها ..
الحياة أفنان، والمتع ألوان، والملذات أصناف، والمسلِّيات آلاف؛ ولكن أمتع المتع، وأحسن الهبات، وأجمل اللذات -بعد الإيمان- هو المجالس الصالحة، والرفقة الناصحة.
إن المناصب مهما علت، والأموال مهما طغت، والمتع مهما كثرت، فأكثرها تعب وشقاء، وهم وعناء، ونصب ووصب؛ أما المجالس الطيبة، واللقاءات الشيقة، والملاطفات الوارفة، والمداعبات الباسقة؛ فهي طب للأرواح، وغذاء للعقول، ونشوة للأبدان، وعون على الطاعة، ورفعة في الدرجة.
لقد أجمع العقلاء أن مجالسة الإخوان، وملاطفة الأحبة، والفوز بذوي المروءة، هو من أعظم المكاسب، وأجل المراتب؛ يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: لولا أن أسير في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب لله، أو أجالس قوماً يلتقطون طيب القول كما يلتقط طيب الثمر، لأحببت أن أكون قد لحقت بالله.
ويقول -رضي الله عنه-: لا تصحب الفجار لتعلم من فجورهم, واعتزل عدوك, واحذر صديقك إلا الأمين, ولا أمين إلا من خشي الله؛ واستشر الذين يخشون الله. وقال الآخَر: ما آسى على شيء من مفارقة الأوطان إلا على ظمأ الهواجر، وتجاوب المؤذنين، وإخوان لي أجالسهم.
والمتأمل قبل ذلك في حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد أن سلوته وراحة قلبه، بعد مناجاة الله تعالى والأنس بذكره، مجالسة من يحب، والحديث مع من يود، كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي هريرة وغيرهم، رضي الله عنهم جميعا.
ولقد كثرت مجالس الناس اليوم، وكثرت لقاءاتهم ومنتدياتهم، ولياليهم ومسامراتهم وعلاقاتهم، ولكن البركة من الله، فأكثرها مجالس مرض، ولقاءات هوى، ومسامرات لغط، وأحاديث لهو، وضياع أوقات، وتنابز بالألقاب، كثرت موائدها، وقلت فوائدها، وتنوع طعامها، وفشل نظامها، وطاش كلامها.
كثر فيها العدد، وتربع في قلوبها الحسد، وقل أن تسلم من النكد؛ الفائدة فيها قليلة، والموعظة ثقيلة، والمنفعة ضئيلة؛ أودى بها التباهي، وأترعت بالمناهي؛ أشرعت أبوابها، ولكن ضاعت آدابها، وتعكر مزاج أربابها؛ قل أن يُقَّدر الكبير، ويعطف على الصغير، ويوسع للفقير، ويحترم العالم، ويقدم الأولى، ويُنصَت للحديث، ويُتفنن في الإيناس، ويُتودد للجُلاس.
وهذه جولة عابرة، ووقفة موجزة مع أهم النفائس لأدب المجالس، إنه مجلس مختصر، وحديث مبتسر، أوجز فيه أهم النصائح، وأحسن الآداب، لنعطر بها مجالسنا، ونحيي بها ضمائرنا، وندخل السرور على أنفسنا، ونحافظ على كرامتنا؛ فأَشرِعوا أبواب القلوب، وافتحوا نوافذ العقول، وأغلِقوا كل القنوات، واقطعوا الاتصالات، واستمعوا إلى حديثي لكم، فوالله إني لأحب لكم ما أحب لنفسي، إذ أنتم جمال علمي وبهاء درسي!.
1/ اختيار الجلساء الصالحين: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يُحذيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة؛ ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة" متفق عليه.
وقد بيَّن -صلى الله عليه وسلم- أن مِن الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله, رجلين تحابا في الله, اجتمعا عليه وتفرقا عليه. وفي الحديث القدسي الجميل، والنداء الرباني العليل، يقول تعالى: "وجبَت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ" أخرجه أحمد وصححه الحاكم وابن حبان.
2/ اختيار الكلام الطيب، والحديث الحسن، والممازحات البريئة، والمداعبات اللطيفة، والبعد عن الفحش في القول، والكذب في المزاح، والحديث في الناس؛ وعلى المرء أن يتذكر في مجالسه أنه سيجلس يوما بين يدي ربه، ويقف أمام خالقه، وعلى قدر طيب مجالسه في الدنيا يكون مجلسه يوم القيامة.
فعلى المجالس إذا دخل مجلسا أو قعد إلى رفقة أن لا يكون كل همه فيما يرضيهم فقط، بل فيما يرضيهم برضا الله تعالى وعلى غير معصيته، وليعلم أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله -لا يرى بها بأساً- فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفا" أخرجه ابن ماجة وصححه الحاكم وابن حبان؛ وقال أحد العلماء: إهداء الكلمة الطيبة خير من إهداء المال. وقال الآخَر: كلمة حكمة لك من أخيك خير لك من مال يعطيك؛ لأن المال يطغيك، والكلمة تهديك.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "رحم الله عبدا قال خيراً فغنم, أو سكت عن سوء فسلم" أخرجه ابن أبي الدنيا وصححه الألباني؛ ورؤي ابن عباس -رضي الله عنه- يطوف بالكعبة وقد أخذ بلسانه وهو يقول: يا لسان! قل خيراً تغنم، أو اصمت تسلم قبل أن تندم. أخرجه أحمد.
تَعمَّدْ لِحَذْفِ فُضُولِ الكَلا *** مِ إِذا ما نأَيْتَ وعند التَّداني
ولا تُكْثِرَنَّ فَخيرُ الكَلا *** مِ قليلُ الحُروفِ كثيرُ المعاني
3/ إنزال الناس منازلهم، فمما يكدر صفو كثير من المجالس أن ترى فيها غياباً لكثير من معاني الأدب، وضياعا لبعضٍ من روائع الخلُق، فتدخل المجلس فتجد صغار السن وعوام الناس وقليلي العلم يسابقون إلى صدر المجلس، ويتربعون في مقدمة الناس، ومعلوم أن أكرم الناس عند الله أتقاهم، ولكن الله تعالى علمنا الأدب، وجمَّلنا بالحياء، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- أفاض علينا من روائع الآداب، وبدائع الأخلاق، ولا بد من إنزال الناس منازلهم، فيقدر الكبير لكبره، ويحترم العالم لعلمه، فكيف إذا جمع الرجل بين كبر السن ومنزلة العلم، ثم زج به في ذيل المجلس؟! إن هذه ليست من شيم النبلاء.
ومن المؤسف أن بعض الناس يظن أنه إذا حوى شيئا من العلم، أو كمّاً من المال، أنه بذلك أخذ بطاقات لتصدر المجالس وانتقاص الآخرين، والتصدر للعالمين؛ ولكن ذلك يزري بقدره، ويحط من قيمته؛ إذ إن الأدب والتواضع والاحترام والتقدير واللطف والعطف يسامي بالمرء النجوم، ويرفعه إلى الثريا.
4/ إعمار المجالس بذكر الله تعالى: بعض المجالس يلذ لهم الحديث في كل شيء، ويطربون للتحاور في أي شيء، ويرد على خواطرهم كل شيء، إلا ذكر الله وما والاه؛ بل إذا ورد شيء من ذلك كان ثقيلاً على نفوسهم، بعيداً عن اهتمامامتهم.
ولا يعني ذلك أن تكون كل المجالس حلقات قرآنية، أو مواعظ إيمانية، فذلك أيضا محال، ولكن يجب أن لا يخلو المجلس من تحفة دينية، أو درة إيمانية، أو ملاطفة وعظية، حتى لا يقوم الجالسون عن جيفة حمار.
والوسط مطلوب، والاعتدال مرغوب؛ فلا يكون المجلس كله خلواً من الذكر، ولا تتحول المجالس كلها إلى بكائيات ومواعظ؛ فإن بعض الطيبين الحريصين يظن أن كل اجتماع للناس هو فرصة لإلقاء خطبة مدوية، أو موعظة مدبجة، فتجده يلاحق الناس بذلك، موعظة في المجلس، وموعظة مع الشاي، وخطبة على السفرة، وتذكرة عند الغسيل، ومحاضرة في ليلة الزواج، وعند المقبرة، وعند العزاء، وعند الفطور، وعند الغداء، وحين يضعون ثيابهم من الظهيرة، وقبل النوم، وهكذا حتى يصبح كلامه هذراً وهراءً لا قيمة له!.
إن التخول نهج نبوي، وترقب الفرص ذكاء دعوي، ومع ذلك فما جلس قوم مجلساً يقرؤون فيه القرآن، ويذكرون السنن، ويتعلمون العلم، ويتدارسونه بينهم، إلا حفتهم الملائكة، ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده.
5/ عدم المبالغة في الإطعام والإكرام: معلوم أن الكرم سمة عظيمة، ومنزلة رفيعة، ولكن بقدر؛ أما ما يحدث في بعض المجالس فهو تبذير ومفاخرة، ومبالغات ومكاثرة.
6/ احترام الأكبر والأعلم وتقديمه في الحديث: فإن كثيراً ممن يحضر المجالس لا يقدر من هو أولى منه بالحديث، وأجدر بالكلام، فتجده أخذ على لسانه عهدا أن لا تأخذه سنة ولا نوم! وأكثره حديث ممل، أو كلام مخل، أو ممازحات ممجوجة.
إن على صاحب العلم والحكمة والأدب والفضل أن يعمر المجالس ببعض من عبق علمه، وشيء من أريج أدبه، وذلك بقدر معلوم؛ وعلى الذي يحترم نفسه أن لا يكثر الكلام في غير فائدة، ولا أن يتعدى على صاحب المجلس إلا بإذنه، وأن لا يزري بنفسه، فإن السكوت في أحيان كثيرة هو الأفضل.
وحتى السكوت فلا بد أن يكون له هيئة مخصوصة، وسمة مقبولة، ينصت المرء ولكن بوجه حسن، وابتسامة مشرقة، وإنصات للمتحدث، وبشاشة في المحيا؛ أما بعض الساكتين فإنك تقول: ليته ما جاء! أو ليته ما سكت! يسكت ولكن في وَجه عبوس، ومحيا مظلم، ونظرات مخيفة، وقسمات مريبة، حتى إذا ما نظر إليه الجالسون قالوا: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون!.
7/ ومن آداب المجالس أن لا يزج المرء بنفسه بين متحابين، أو يفصل بين متحدثيْن، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما" أخرجه أبو داود وصححه الألباني. فانظر إلى هذا الأدب الجميل! القــادم الذي يحـترم نفسه لا يؤذي الجالسين، والجالسون يوسعون له ويتفسحون، وهذا أدب قرآني عظيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة:11].
يقول سعيد بن العاص: لجليسي عليَّ ثلاث خصال: إذا دنا رحبت به، وإذا جلس وسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه. والعرب يقولون: رأس التواضع الرضا بالدون في المجلس. وقال أحد الحكماء: إياك وصدرَ المجلس! فإنه قلعة.
8/ من أدب المجالس السلام: أن يسلم القادم إذا دخل، ثم إذا خرج وعاد فليسلم أيضا، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم, فإن بدا له أن يجلس فليجلس، وإذا قام فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة" أخرجه الترمذي وحسنه.
9/ المظهر والمخبر: ديننا يعلمنا نظافة المظهر، ونقاء المخبر؛ وإن من زينة المجالس أن يهتم الإنسان بمظهره، ويحسِّن ملبسه، ويجمل هندامه، فذلك مع أنه رفعة في المجالسين، فهو مرضاة لرب العالمين؛ فالله تعالى جميل يحب الجمال، ولم يكن أحدٌ أجمل مظهراً، ولا أحسن لباساً، ولا أزكى طيباً من محمد -صلى الله عليه وسلم-.
وعلى المرء اختيار الطيب الجميل الحسن, وهو متوفر للغني والفقير كل على قدر استطاعته؛ وثمة عطور طيبة تباع بسعر مقبول, فلا عذر للفقير في ترك الطيب, ولا علاقة للفقر بأن يكون المرء متسخ الثياب, خبيث الرائحة, فإن تنظيف الثياب ومس الطيب غير مكلف.
كذلك فإن بعض الناس يظن أن المسألة أن يتطيب فقط، فيملأ جيبه بطيب أصدق ما يوصف به أنه عدو الطيب! ثم يصبغ به يده ولحيته وملابسه، فإذا ما شمه الناس زهدوا في المجلس والمأكل والمشرب، وارتدت أيديهم إلى سد أنوفهم!.
يجب على المسلم أن يتطيب بأحسن الطيب أسوة بالحبيب، تقول عائشة -رضي الله عنها-: "كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو محرم" متفق عليه، ويقول أنس: ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. أخرجه مسلم.
وكان ابن عباس -رضي الله عنه- يطلي جسده بالمسك، فإذا مَرّ بالطريق قال الناس: أَمَرّ ابن عباس أم مَرّ المسك؟ وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- إذا خرج إلى المسجد عرف جيرانه ذلك بطيب ريحه، وقال أحدهم: رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لي لكان رأس مال كبير!.
أيها الأحبة: آداب المجالس كثيرة، وأخلاق المنتديات عديدة، ولكن الوقت لا يسمح، وإلا فإن هنالك ملاحظات عديدة لا بد من الإشارة إليها، والتواصي بها؛ فإن المجالس عنوان الأمم؛ فَلْنَرْتَقِ بمجالسنا، ولنتواصَ بما ينفعنا ويرفعنا.
أسأل الله تعالى أن يمن عليَّ وعليكم بأحسن المجالس، وأمتع اللقاءات؛ مجلس لا نصب فيه ولا وصب، ولقاء يكون الحاضرون فيه إخوانا متحابين، على سرر متقابلين، يدعون فيه بكل فاكهة آمنين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي