يا حامل القرآن

سليمان بن حمد العودة
عناصر الخطبة
  1. فضيلة حافظ القرآن ومنزلته .
  2. من آداب حافظ القرآن .
  3. تعليم القرآن .

اقتباس

لا ينتهي الحديث عن القرآن عند حد معين وعجائب القرآن لا تنتهي، والموعظة بالقرآن لا تقتصر على جيل دون جيل، ولا عن فئة من الناس دون أخرى، لقد جعل الله القرآن مأدبته الأخيرة من السماء، لم ينزله جملة كغيره من الكتب، بل نجوماً متفرقة مرتلة ما بين الآية والآيتين والآيات، والسورة والقصة، في مدة زادت على عشرين سنة ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].

أيها المسلمون: لا ينتهي الحديث عن القرآن عند حد معين وعجائب القرآن لا تنتهي، والموعظة بالقرآن لا تقتصر على جيل دون جيل، ولا عن فئة من الناس دون أخرى، لقد جعل الله القرآن مأدبته الأخيرة من السماء، لم ينزله جملة كغيره من الكتب، بل نجوماً متفرقة مرتلة ما بين الآية والآيتين والآيات، والسورة والقصة، في مدة زادت على عشرين سنة وذلك لتتلقاه الأمة بالحفظ ويستوي في تلقفه في هذه الصورة الكليل والفطن، والبليد والذكي والفارغ والمشغول، والأمي وغير الأمي، فيكون لمن بعدهم فيهم أسوة في نقل كتاب الله حفظاً ولفظاً قرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف.

عباد الله لقد نزل في وصف كتاب الله قوله تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم) [العنكبوت: من الآية49].

وفي الحديث القدسي قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : "إنما بعثك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرأه نائماً ويقظان".

وعلق النووي رحمه الله على الحديث بقوله: فمعناه: محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليها الذهاب، بل يبقى على مر الزمان.

يا حافظ القرآن هنيئاً لك بحفظ القرآن إذ كنت في عداد العلماء، فانظر يا هذا ماذا علمك القرآن؟ وماذا تعلم من علوم القرآن، وأسراره، وحكمه؟

يا حافظ القرآن.. لك البشرى إذا كنت في طليعة أمة جاء وصفها في الكتب المتقدمة بأن أناجيلهم في صدورهم.

ألا ويح الأناجيل المكرمة إن لم تغن عن أصحابها شيئاً ألا ويح القراء والحفاظ، إن حملوا ما لم يعظموا، أو جهلوا بما حملوا، أو لم يعملوا بما علموا؟

يا حافظ القرآن جاء في وصف القرآن الذي تحمله في صدرك قوله صلى الله عليه وسلم : "لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق".

وقد فسره بعض أهل العلم بأن المقصود بذلك حافظ القرآن، وقال أبو أمامة "اقرأوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف فإن الله لا يعذب بالنار قلباً وعى القرآن".

وقال أبو عبيد: "وجه هذا عندنا أن يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن وجوفه الذي قد وعى القرآن" ألا فاغتبط بهذا الفضل، وعظم كتاب الله، وما أسعدك حين تكون في عداد الناجين – برحمة الله – من النار. وفي لفظ: "لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار".

يا حافظ القرآن، وأنت مغبوط، بل محسود على حفظ كتاب الله وتلاوته، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين، رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه أناء الليل وآناء النهار…" الحديث.

فهلا قدرت هذه النعمة، وهل تقوم بحقها فتتلو كتاب الله آناء الليل وآناء النهار.. تقرأه حضراً وسفراً راكباً أو ماشياً أو قاعداً أو نائماً.. ويظل يسرج في قلبك حتى تضيء منه على الآخرين.. ويظل يمدك بالنور فتكشف به آمارات الطريق لمن ضلوا السبيل.

أجل لقد نزل القرآن أول ما نزل، ومهمته إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيما أوحى: (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [ابراهيم:1].

وسائل نفسك يا حامل القرآن – ما نصيبك من إخراج من عمي في الضلالة إلى نور الهداية.. إن القرآن حجة لك أو عليك وأنت مؤتمن في حمله، ومسؤول عن العمل به، والدعوة إلى هديه.

يا حافظ القرآن وخليق بك أن تعرف بخشوعك في صلاتك إذ بعض الناس عن صلاتهم ساهون، وبحسن سمتك إذا بدأ بعض القوم في حديث الباطل يخوضون، وببكائك وخوفك إذا ما الناس يضحكون وعن أهوال يوم القيامة غافلون، وبصدق أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، إذا عمت البلوى بالمداهنة، وضعف جانب الأمر والنهي بين العامة والخاصة يا أهل القرآن أو تروا وليطل قيامكم بالقرآن، ولتمتلئ محاريبكم بالدموع خوفاً من الرحمن، وحزناً على واقع أمة القرآن وأين هممكم من همة الشاب عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه - وقصته مشهورة في الصحيحين وغيرهما – قال: كنت أصوم الدهر واقرأ القرآن كلي ليلة، فإما ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما أرسل لي، فأتيته فقال: "ألم أخبر أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة؟" قلت: بلى يا نبي الله، ولم أرد إلا الخير، قال: "فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام"، إلى أن قال: "واقرأ القرآن في كل شهر"، قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: "فاقرأه في كل عشرين"، قال قلت: أ نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: "فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً.." الحديث.

يا أيها الحافظ فإن تقاصرت همتك عن هؤلاء، وقلت في نفسك تلك أمة قد خلت، ولا سبيل لمحاكاة رجالها.. ويصعب التعلق بقصص أولي العزم فيها؟ قلت دونك وفي همم المعاصرين ما يشحذ العزائم، ويجدد ذكرى السابقين وقد حدثني من أثق به أن الله فتح عليه وأعانه في مرحلة من مراحل عمره، فكان يختم القرآن كل ليلة، وما انقضت العشر الأواخر من رمضان حتى أتم معها عشر ختمات للقرآن. وكم لله من فضل على عباده وكم في المحن من منح إلهية، وفيما تكره النفس خيراً كثيراً.

إنها فتوحات ربانية، وعزائم بشرية صادقة.. تقوي العزائم وتجدد الهمم، وتثبت أن في النفس قدرة على العطاء إذا ما أخذت بالجد، واستعانت بالواحد الأحد.. ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ومن لم يستطع أن يبلغ ما بلغه أولو العزائم فليتشبه بهم، وليحدث نفسه بسيرهم، وليحافظ على ما استطاع من ورده من القرآن فالعمل القلي الدائم يحبه الله، وهو وصية وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس في القرآن قليل،والآيتان منه خير من ناقتين كوماوين والثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل، كذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصيته لأهل الصفة في الغدو إلى المسجد وتلاوة كتاب الله.

أعوذ بالله: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام:155].

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين أنزل على عبده الكتاب لينذر به وذكرى للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعلى منزلة القرآن بين كتبه المنزلة، وجعله نوراً يهدي به من يشاء من عباده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أمره ربه بقراءة القرآن على مكث، كما أوحى الله: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) [الاسراء:79] فقام به صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه، واستن بسنته أصحابه والتابعون وخيار الأمة سلفاً وخلفاً ولن تزال العناية بالقرآن حتى ينقضي الليل والنهار تحقيقاً لوعد الله بحفظ كتابه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9].

أيها المسلمون عموماً.. وأيها الحافظون لكتاب الله خصوصاً استشعروا عظيم نعمة الله عليكم بالقرآن، وإياكم أن يكون أغلى ما عند الناس أرخص ما لديكم.

ومن وصايا الأئمة أسوق لكم قول الفضيل – يرحمه الله - : "ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له حاجة إلى حد من الخلق وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه، وحامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلغو مع من يغلو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع من يلهو".

ووصية الآجري – هي الأخرى – ذات قيمة فاعقلوها واعملوا بها، يقول – يرحمه الله -: فأول ما ينبغي لحافظ القرآن أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية باستعمال الورع في مطعمه ومشربه، وملبسه ومسكنه، بصيراً بزمانه وفساد أهله فهو يحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، حافظاً للسانه، مميزاً لكلامه، همه في درس القرآن إيقاع الفهم لما ألزمه الله من اتباع ما أمر والانتهاء عما نهى، ليس همته: متى أختم السورة؟ بل همته: متى استغني بالله عن غيره؟ متى أكون من المتقين؟ متى أكون من المحسنين، متى أكون من المتوكلين؟ متى أكون من الخاشعين؟ متى أكون من الصابرين؟ متى أكون من الصادقين..الخ الصفات الحميدة والخلال الكريمة التي يسائل نفسه متى يبلغها؟.

أما أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وهو من يعرف بحسن التلاوة لكتاب الله، فقد روي أنه جمع الذين قرأوا القرآن – وهم قريب من ثلاثمائة، فعظم القرآن وقال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخراً وكائن عليكم وزراً، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من ابتع القرآ، هبط به على رياض الجنة، ومن ابتعه القرآ نزه به في قفاه فقذفه في النار".

يا حامل القرآن إياك أن ترائي بحمله، أو تتكبر فتغمط أحداً حقه أن آتاك الله القرآن.. ولا خير فيك إن لم يهذب القرآن خلقك، ويحببك للناس ويحبب الناس إليك، بل وينبغي أن تسجد لله شكراً أن آتاك القرآن، وتحمده سراً وجهراً وظاهراً وباطناً أن جعلك من أهل القرآن، فلم تحفظه بحولك وقوتك، ولا بفرط ذكائك وقوة صبرك بل بحول الله وتوفيقه وإعانته.. فهناك من يفوقك في هذه الصفات كلها ولم تمكنه هذه القدرات كلها في حفظ كتاب الله. فاعقل وثمن نعمة الله عليك واعلم أنك ممتحن فيها، فاشكر الله عليها، وأد حق الله فيها، وليرى الناس فيك أخلاق القرآن، وصفات المؤمنين، وسيما الخاشعين فيعلموا بها وبآثارها إنك من أهل القرآن وإن لم يجزموا أنك من حفاظ كتاب الله.

يا حامل القرآن من حق الله عليك في هذه النعمة أن تعلم القرآن من احتاج إلى تعليمه.. وتذكر بقيمة تلاوته وتيسير حفظه من ظن ذلك أو توهمه أمراً عسيراً.. لتكن مصباحاً يضيء حيثما حل أو ارتحل، ولتكن نموذجاً للعلم والوعي تذود عن حياض الإسلام سهام الموتورين، وتذود عن لغة القرآن كيد الكائدين.

أيها المسلمون كباراً وصغاراً، ذكراناً وإناثاً. هذه بعض مزايا وفضائل حفظ كتاب الله.. إلا وإن الفرصة لا تزال متاحة لمن فاته الركب في سني عمره الأولى.. فلا حد للحفظ وإن كان في زمن الصبا أولى وأحرى بالثبات.. ولكن التاريخ يثبت والواقع يشهد بأن مجموعة من الناس حفظوا كتاب الله على كبر، إنها الهمة الصادقة والعزيمة القوية والاستعانة بالله وحده تذلل الصعاب وتجعل العسير سهلاً والمستحيل أمراً واقعاً.. فجدوا معاشر المسلمين في طلب كتاب الله وحفظه..

واحرصوا معاشر الآباء والأمهات على تنشئة أبنائكم وبناتكم على حفظ كتاب اله والعناية به، فمن أسرار القرآن وإعجازه أن الصبي قد يتهيأ لحفظ كتاب الله وهو بعد لا يعرف للحرف شكلاً، ولا يملك من اللسان العربي إلا كلمات محدودة.. ثم ما يلبث زمناً إلا وقد حفظ كتاب الله.

معاشر المسلمين لا يغب عن بالكم وأنتم تحاولون حفظ كتاب الله أو تحفيظه لأولادكم أن تذكروا قوله تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:17].

يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: "أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من اراد حفظه، فهل من طالب لحفظه فيعان عليه".

اللهم يسر لنا حفظ كتابك، وأعنا على تدبره والعلم به، والعمل بمقتضاه.. اللهم اجعلنا من أهل القرآن.. اللهم حكمه فينا وفي المسلمين.
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي