تجارة الكذب

عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس

عناصر الخطبة

  1. ظاهرة فشوّ الكذب
  2. ذم الكذب
  3. فضل الصدق
  4. سرعة انتشار الشائعات في المجتمع
  5. أسباب انتشار الشائعات
  6. مفاسد الشائعات
  7. حسن عواقب الصدق
  8. علاج هذه الآفة

أما بعد: 

فيا عبادَ الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله ذي العظمةِ والجلال، ولزومِ الصدق في الأقوال والأفعال؛ ليتحقَّق لكم الخير والفلاحُ في الحال والمآل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة: 119].

وَإِذَا اتَّقـى اللهَ امْـرؤٌ وأَطَاعَـهُ *** فَيَـدَاهُ بَيْنَ مَكَـارِمٍ وَمَعَالِـي وَعَلَـى التّقِيِّ إِذَا تَرَسّخَ فِي التُّقَى *** تَاجَـان: تَـاجُ سَكِيْنَةٍٍ وَجَلالِ

أيها المسلمون: مع قمَّةِ السّناء الباهر والألَق الطاهِر في مقاصد شريعتِنا الغراءِ ومراميها، إلا أنه -ومع شديد الأسَف- ينبَجس بين المسلمين بين الفينة والأخرَى ظواهرُ خطيرةٌ جدِيرة بالطَّرح والمعالجة. وهناك أمرٌ مقلقٌ ملمٌّ وفادِحٌ جلَلٌ مهمّ، هو منكرٌ فاحشٌ في حقيقتِه، علقمٌ في نتيجته، خطرُه على الأفراد شديد، وللمجتمعات مقوِّضٌ مبيد، لا يتَّطِن إلا النفوسَ العقيمة والأرواح السقيمة، مشوِّهٌ لإشراقات الدين وجماليَّات الرسالة، ولا أُرَى أنه بعد ذلك يخفَى على شريفِ عِلمكم ولطيفِ فهمكم.

ذلكم -يا رعاكم الله- هو الكذبُ وحَبك الأقاويل وتَلفيقُ الافتراءات والأضاليل، فكَم أحقَّت باطلاً وأزهقت حقًّا وأورثت ضَررًا يفتك رتقًا، كيف وقد حذَّر المولى -سبحانه وتعالى- من ذلك في قوله -عزَّ وجلَّ-: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النحل: 105]، وزجر عنه المصطفَى في قوله: "كفى بالمرء كذبًا أن يحِّدث بكل ما سمع". أخرجه مسلم في صحيحه.

وَمَنْ يَجْعَلِ الإِفْكَ الْعَظِيْمَ شِعَـارَهُ *** تَجَرَّعَ كَأْسَ الْعَـارِ طُولَ حَيَاتِه وَنَادَى لِسَـانُ الْحَقِّ ذَاكَ مُكَذّب *** جَزَاهُ عَلَى دَعْـوَاهُ قَطْعُ لهاتِـه

الكذبُ -يا عباد الله- عملٌ مرذول وصفةٌ ذميمةٌ، من صفات النفاق وشعَب الكفر عياذًا بالله. الكذب دليلٌ على ضعَة النفسِ ونَزع الثّقة وحقارة الشأن. أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله قال: "عليكم بالصدق؛ فإنَّ الصدق يهدي إلى البر، وإنّ البرَّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدُق ويتحرَّى الصدق حتى يكتَب عند الله صِدِّيقًا، وإياكم والكذب؛ فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النّار، ولا يزال الرجُل يكذِب ويتحرَّى الكذبَ حتى يكتَب عند الله كَذَّابًا".

وَمَا شَـيْءٌ إِذَا فَكَّـرْتَ فِيهِ *** بِأَذْهَبَ لِلْمُرُوءَةِ وَالجَمَـال مِنَ الْكَذِبِ الّذِي لا خَيْرَ فِيهِ *** وَأَبْعَد بِالْبَهَاءِ مِنَ الرّجَـال

قال الإمام الماوردي -رحمه الله-: "والكذب جِماع كلّ شرٍّ وأصلُ كلّ ذمٍّ؛ لسوء عواقبه وخبث نتائجه". وقال الحسن -رحمه الله-: "الكذب جِماع النفاق"، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله: "إياك أن تستعين بكذوب؛ فإنك إن تطعِ الكذوب تهلِك".

إِذَا مَا الْمَرْءُ أَخْطَـأهُ ثَلاثٌ *** فَبِعْهُ وَلَوْ بِكَفٍّ مِنْ رَمَـادِ سَلامَةُ صَدْرِهِ وَالصِّدْقُ مِنْهُ *** وَكِتْمَانُ السَّـرَائِرِ في الْفُؤَادِ

معاشر المسلمين: يقابِل ذلك -يا رعاكم الله- فضيلةُ الصدق في النقول والأخبار، حيث يغرِس الودَّ والتراحم في القلوب، ويثمر التآخيَ الذي لا يعتريه لغوبٌ، ويتوَّجه بجزاءِ علاّم الغيوب: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ [الأحزاب: 24]. قال ابن حبّان البستيّ -رحمه الله-: "الصدق يرفع المرءَ في الدارين كما أنَّ الكذبَ يهوي به في الحالين".

كَمْ مِنْ حَسِيبٍ كَرِيمٍ كَانَ ذَا شَرَفٍ *** قَدْ شَانَهُ الْكِذبُ وَسطَ الحَي إِن عَمَدَا وَآخَرُ كَـانَ صُعْلُوكًـا فَشَرّفَـهُ *** صِدْقُ الْحَدِيْثِ وَقَوْلٌ جَـانب الفَنَدا

وقال الشعبي -رحمه الله-: "عليك بالصدق حيث ترَى أنه يضرُّك؛ فإنه ينفعك، واجتنِبِ الكذبَ حيث ترى أنه ينفعك؛ فإنّه يضرّك".

وَإِذَا الأُمُـورُ تَزَاوَجَـتْ *** فَالصِّدْقُ أَكْرَمُهَا نِتَاجًا وَالصّدْقُ يَعْقِدُ فَوْقَ رَأْسِ *** حَلِيفِهِ بِالصّدْقِ تَاجـًا

أيها المؤمنون: وفي هذه الآوِنة من أعقابِ الزمَن قد اشرأبَّت في أعناقها وذرَّت بقَرنها شذوذاتُ الأخبار وحُثالات الأوابد الشّرار، عبر سماسِرَة الأكاذيب الملفَّقة والخيالات المزوّرة المنمّقة مِن قراصنة العقول ومروِّجي الإرهابِ الفكريّ؛ لابتزاز عقول البشر وأموالِ الناس في مآربَ أدناس، وانخدَع الأغمَار بها على غير قياس، يخبِطون في مجاهل الأقوال الخَوادع، ويعتسفون في مطاوي بِيدِ السُّخف البواقع؛ يَرجون النُّضارَ العميم والنَّشب الجميم دون عقلٍ حارسٍ نقّاد، أو فؤادٍ زكيٍّ وقّاد.

فيا لله! ويا حسرةً على عباد الله! ألا من سوَّق للمؤمنين الغافلين الخسَف والسراب فقد انتبذ في الجرم والصفاقة مكانًا قصيًّا، وأتى من البُهت والغشِّ أمرًا فريًّا، فيا ويحَ هؤلاء! ويا شناعةَ جُرم أولئك! فالويل كلّ الويل لهم: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ [الجاثية: 7].

إخوةَ الإيمان: إنّ الذين يُهرَعون حيالَ نَبأَة كلّ مارقٍ، ويشخصون تلقاءَ هَتفة كل ناعق، ويُسلِمون مَقادة عقولهم لكلّ نبأ أفّاكٍ ولكلّ وَبيصٍ زائف، بل ويكثُرون عند الطمَع ويقلُّون عند الفزع، لهُمُ الذين يَنكثون عرَى مجتمعاتهم المتينَة، ويُزرون بشموخِ أمّتهم السامية بالمطامِع الكَوالح والأهواء الخُلّبِ الأثيمة، التي ما إن تنجلي حقائقُها حتى يغدُوَ الغِرُّ في همٍّ ناصِبٍ وكدرٍ لازب:

سقَامُ الإِفْكِ لَيْسَ لَهَا دَوَاءُ *** وَدَاءُ البُهْتِ لَيْسَ لَهُ طَبِيْبُ

أمّةَ الإسلام: إنَّ إلغاءَ العقل وتركَ التثبّت حيالَ الأخبارِ المتهافِتة وتهميشَ مِسبار التّمحيص هو إذكاءٌ للَهب الأباطيل الدّخيلة على هذه الأمّة الدّرّاكة الألمعيّة، التي لا يزكو فيها بحمدِ الله إلا أطيَبُ الجنى وأشذَى الطيوب، والمسلمُ الحصيف الأحوذيّ ينشزُ بنفسه عن تلكَ السّفاسِف والأغاليط التي لا تَتَقحَّم إلاَّ عقولَ الدَهماء والرعاع.

إنه العجب العجاب! دَجَل وأكاذيب في قديمِ مَكائن، بل هو -إِي وربي- زورٌ أخطرُ في كمائِن، بل لعلَّ بعضَهم يتعمَّد تجارةَ الوهم وترويجَ الأكاذيب في شهرِ معيَّن ولونٍ مبيَّن، وكفى بذلك إزراءً وانهزامية.

فيا سبحان الله عباد الله! أين النُّهى والألباب؟! أين الوَعيُ والسداد واليقَظَة والرشاد؟! بل أين الهمَم العالية والقلوبُ الواعية والنفوسُ الشّمّاء السامية؟! أين مزاحمةُ الشُّهُب في الآمال الجلائل التي تملأ الآفاقَ وترنو لها شوقًا الأنظارُ والأحداق في عالمٍ استحكَمَت فيه للدّين غربة، وتطاول المنطِيق وعلَت راية الكذوبِ وتوارى بصدقه الصّدِّيق؟!

وايم الحق، إنَّ الأمر في بعضِ جوانبه لأنزلُ رتبةً وأقلّ اعتبارًا من أن يناقَشَ بحجّةٍ أو يُتناوَل بردّ، لكنه التواردُ لإبراءِ الذمّة وكشفِ الزُّيوف والإسهامِ النابض بقضايا الأمّة وواردات المجتمع، ثم نبتهِل فنجعَل لعنة الله على الكاذبين.

أحبتي الأكارم: أفكلَّما أكذوبةٌ هبّت وباقِعة دبَّت أُهطِع لها أقوامٌ في قرَمٍ وهُيام وسُهومٍ يقتَاتُ الأوهام؟! خبِّروا -يا رعاكم الله- أنَّى يستنيم المسلم الزّكِن لخداعٍ ويستكين لأطماع؟! وأنَّى يستجيبُ اللبيبُ الرشيدُ لأكاذيبِ الزّماع فيعيش سادرًا في أحلامٍ ورديّةٍ عامِهًا في آفاقٍ نرجسيّة؟! أما كفَت وعظًا وكوَت رَمضًا أسهمُ اللَّهْم ومُساهمات الوهم التي جرّت الخسائرَ والحزازات والغُصَص والندامات؟! ولكن يا ليت قومَنا يعلمون. يقول -عليه الصلاة والسلام-: "لا تكونوا إمّعة؛ تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنِّوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا". أخرجه الترمذي وغيره بإسناد حسن.

إخوة العقيدة: إنّ النسيجَ الاجتماعيّ المتراصَّ الفريد يتعرَّض عبرَ أكذوبات تقيمُه وتخلخِله في امتحانٍ عسيرٍ جدّ عسير، أخفَق فيه الوعيُ المادّي والنّضج الثقافيّ للتسطيح الفكريّ الضّحل لدى كثير من الفئام؛ وذلك ما يدعُو وبتضافر الجهود إلى وقفةٍ إصلاحيّةٍ مُتونُها صَقل الفهوم وسَحجُها والسمو بها في معارِجِ الوعي الراشِد والاستبصارِ المسدَّد؛ كي لا تكون نهبةً لجَلاوِزة التُّرَّهات الصدِئة، ومُفتَرَسًا سائغًا لأكذوباتِ الهُراء الغثّ التي تهدِر الإمكانات وتشعِّب الجهودَ والملكات، بل وتفسح المجالَ بعلمٍ أو بغفلةٍ لتسلُّل الانحرافات والموبقات، وحينئذ فالعفاء كلّ العفاء على شُمِّ المجتمعات وسامقِ الحضارات.

إخوةَ الإسلام: وذلِك الصّدقُ والاعتلاءُ على هديِ الوحيَين الشريفَين مدرجةٌ متينَة لتأصيل الوعيِ المزدهِر في الأمّة والفِكر البصيرِ الناقِد والرأيِ المحنَّك الراجح، به سنصدر -بإذن الله- على رُبَى النهوضِ والكمالِ، ومقوّمات السؤدَد والجلال، وإبّان ذلك قل -يا محبّ- وأنتَ على وثوقٍ وأَيد: سيتحقّق لأمّتنا الشهودُ الحضاريّ العالميّ والسَّبق في كلّ أفُقٍ علميّ ومعرفيّ، وما ذلك على الله بعزيز.

وبعد:

أمة الصّدق والأمانة: وما كلُّ ما سبق وانتظم، وزبِر واستتمّ، مِن محاسن الصدقِ ومساوئ الكذب إلا لما لهما من آثارٍ وعواقب على الأفراد والمجتمعات، فكم هي في تاريخنا المشرِق الوضّاء آثار الصّدق ونماذج الصادقين، فهذا نبيّ الله يوسفُ الصّدّيق، وذلكم هو نبيُّنا محمدٌ الصادق الأمين القدوةُ العظمى والأسوة الحسنى -بأبي هو وأمي- في عظيمِ صدقه، وها هو الصّدّيق أبو بكر -رضي الله عنه-: ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [الزمر: 33]، وهؤلاءِ الثلاثةُ الذين خُلِّفوا عن غزوةِ تبوك ما أنجاهم إلا صدقُهم.

واليومَ هيهات هيهات أن تنتظِم شؤون الأُمَم وتَسلكَ السبيلَ الأَمَم إلاّ بقدرِ إعلائها راياتِ الصدق والتزامِه في كافّة مجالاتها وميادينِها وتربيةِ النشء وبناءِ الأجيال عليها، وحينئذ ترتقِي الأمّة علياءَ عزّها ومدارات مجدِها.

لا يَأْلَفُ الْمَجْدَ إِلا السّادةُ النُّجُبَـا *** وَلا الْمَعَالـي إلا مَنْ لَهَا انتُخِبا

وبذلك تقطَع الأمّة على أعدائها نُهَزَ كيدِها والإيضاعَ خلالها لتفريقِ شملِها وإفسادِ ودِّها، وتسدُّ الكوى أمامَ الكذَبة الأفّاكين ممن يرهِقون المجتمعَ غَررًا، ويجعَلونها نهبًا وغَرضًا.

ألا فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا -يا رعاكم الله- بالصدق في كلّ قضية، وتحرَّوه في كلّ مسألةٍ جليّةٍ وخفيّة؛ لترسَخَ في المجتمع دعائمُه، وتشمخرَّ في دنيا الواقع معالمه، والله -عزّ وجلّ- يقول: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾ [محمد: 21].

بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، وبما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا وإياّكم بهدي سيِّد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين والمسلمات، من جميع الذنوب والآثام والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه وليّ المغفرة والرَحمات.

الخطبة الثانية:

الحمد لله لا يقول إلا صِدقًا، ولا يعِد إلا حقًّا، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، جعل الصدق من شِيَم الخلُق الكريم وقواعده، ومعالم المجتمع الفريد وفراقده، وأشهد أنَّ نبيَّنا وحبيبَنا محمدًا عبد الله ورسوله الصادق الأمين، حذّر من الكذب وروافِده، صلى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه دُعاة الحقّ ومعاقده، والتابعين ومن تبعهم بإحسان في أول الأمر وبادِئه، وآخره وعائده.

أما بعد:

فاتقوا الدّيان عبادَ الرَّحمن، والزَموا الصدقَ فإنه مرقاة للنعَم، ولا تقربوا الكذب فإنّه مرداة في النقَم.

إخوةَ الإيمان: ولكي تعوجَ الأمةُ بالدواء وينحسِم عضالُ الافتراءات الشنعاء فإنّه لا بدّ من تقويم سَعَر الأفَكَة المحترفين، ومقاضَاةِ نسَجَة الأكاذيب والأفّاكين، وإشعالِ مجامِر الوعيِ والتبصّر لدى أجيال المسلمين، ويحرِزُ شرفَ السَبق ورايَةَ الفضل في ذلك المقام العظيم العلماءُ والدعاةُ ورجالُ الحِسبة البناة وأصحابُ الفكر النبلاء، وحملةُ القَلم النزهاء، مع التأكيد على تأصيل معاني الصِّدق في النفوس وفقهِ الكَسب الحلال وخَفض الأفكار الهزيلة البائسة المروِّجة للثراءِ العاجِل والرِّبح السريع، زعموا.

هذا، وإنَّ الأمر الذي لا يُسأم تكراره ولا يملّ إزجاؤه وإقرارُه تعميقُ الشعور والمسؤولية بنموذجيّة وفرَادة هذه الدّيار المباركة؛ لكونها مهبط الرسالة ومثابةَ الأمن والسلام والنورَ الوضّاء بالهداية والرحمة للعالمين، وأن لا مجالَ في ربوعِ العقيدةِ لطائفِ الكذِب والافتراء ورواج الاستغفال والابتزاز، وأن المحافظةَ على أمنِها الفكريّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ من آكدِ الواجبات وأحكمِها، وآلقِ المثُل وألزمها، يؤكّد ذلك ويوطِّده الإعلامُ بكافّة قنواتِه؛ لما له من الأثَر البليغ الزّخّار في صياغة الوعي الإسلاميّ والحسّ الاجتماعيّ في الأمم، كما له الحظّ الوافر في وأدِ الأكاذيب وتفنيدها، وطمسِ الافتراءات وتبديدِها، إن تُوِّج بالمنهج الشرعيّ الحكيم، وإلا كان الوسيلةَ الهدّامة أيًّا كان البِناء شامخًا عتيدًا، في عالمٍ طغَى فيه الدّجَل الإعلاميّ عبرَ القنوات والفضائيات وسراديبِ شبكاتِ المعلوماتِ، الذي يقلِب الحقائقَ ويلبِّس على الرعاع، فيضَع الرموز والأعلام، ويرفَع الرُّويبضة والأقزام، ويغري بالرذيلة، ويزري بالفضيلة. فيا لله! كم قلب من حقائق وأفسد من عقول؛ ما يقتضي هبةً جادةً في الصدق مع الله، ثم الصدقِ مع النفس، والصدق في إصلاح أحوالِ الأمّة في كافة مجالاتها، والله المستعان.

كلّل الله الجهود بالتوفيق، وحقَّق الآمال، ودفع الشرور والأوجال، وبارك المساعي، وأتمَّ النعم الجزال؛ إنه هو الكبير المتعال، وهو ولي التوفيق والإفضال.

ألا وصلّوا وسلّموا -رحمكم الله- على أصدقِ الخليقة شيمةً وخُلةً، وأجملهم مهابةً وحلّةً، كما أمركم الباري في أقوم كتاب وأعظم مِلّة، فقال تعالى قولاً كريمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم فيا ربنا:

صَلِّ عَلَيْهِ بَعَدِّ الرَّمْلِ مُتسِقًا *** وَعَـدِّ نَبْتِ الثّرَى والوابلِ السّجمِ عَلَيْهِ أَزْكَى صَلاةٍ دَائِمًا أَبَدًا *** وَالآلِ والصّحْبِ فِي بَدْءٍ وَمُخْتَتَمِ

اللّهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الكفر والكافرين، ودمّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.  


تم تحميل المحتوى من موقع