الرحمة

سليمان بن حمد العودة
عناصر الخطبة
  1. الرحمة وأثرها .
  2. الرحمة ومظاهرها .
  3. بِمَ تنال الرحمة؟ .
  4. بعض المفاهيم المغلوطة في الرحمة .

اقتباس

وإذا انتكست الفطر سحق الإنسان، وبات يحوم حول المزابل بحثاً عن طعام أو شراب، أو شلت أعضاؤه من ويلات الحروب وقنابل الدمار، هذا إن كان في عداد الأحياء. وباتت القطط والكلام مدللة إلى حد الترف في المطعم والمشرب والمسكن، وملازمة لأصحابها في الحل أو الترحال، وأين هذا والرحمة في شريعة الإسلام؟ ..

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء علماً، ورحمته وسعت كل شيء، ورحمة ربك خير مما يجمعون. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأحرص الناس على هداية أمته، وجاء في صفته: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة:128].

 

اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، الذين كانوا رحمة مهداة من الله لأممهم، أنقذ الله بهم من شاء من الغواية إلى الهدى، ومن دركات الجحيم إلى درجات الجنان، ومن يضلل الله فما له من هاد، وارض اللهم عن آل محمد المؤمنين وعن صحابته أجمعين و التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

فأما بعد: فاتقوا الله -معاشر المسلمين- امتثالاً لأمر الله ووحيه: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10].

 

أيها المسلمون: والرحمة كلمة ندية، رخية في لفظها، وهي ذات مفاهيم ومدلولات كبيرة في معناها، بها ينتشر الود، ويتحقق الإخاء، ويسود القسط. وبالرحمة ترعى كرامة بني الإنسان، وينتشر العدل، بها تستعلي النفوس إلى أصل فطرتها، وبفقدها يهوي الإنسان وترتكس فطرته إلى منازل الجماد الذي لا يعي ولا يهتز.

 

أجل إن الرحمة كمال في الطبيعة، وجمال في الخلق، يرق صاحبا لآلام الخلق ويسعى لإزالتها، ويأسى لأخطائهم وجنوحهم، فيترحم عليهم ويتمنى لهم الهداية والرحمة.

 

أما القسوة فتبلد في الحس، وارتكاس في الخلق، وغلظة في الطبع، وغرور وكبرياء، لا يكاد تفكير أصحاب هذا الطبع أن يتجاوز دوائرهم الضيقة، وذواتهم المريضة. بالرحمة أو خلافها يتميز الناس إلى رحماء يرحمهم الرحمان، وقساة قلوب لهم الويل في الحياة وبعد الممات.

 

إخوة الإسلام: ويطيب الحديث عن الرحمة في كل آن، ولكنه يجمل ويتأكد حين يستعلي الكبراء، ويتغطرس الأقوياء، حين تبقى فئة من البشر تتحكم في الموارد والأرزاق، فتعطي وتشترط، وتمنع وتحاصر، تهدد بالحصار العسكري تارة، وبالحصار الاقتصادي أخرى، وبين هذا وذاك تعمل بكل ما أوتيت من قوة في سبيل الحصار الفكري والتعبير الثقافي في المجتمع العالمي.

 

وحين تفقد الرحمة تموت آلاف من الأطفال حتف نفسها جوعاً أو عرياً وتشرد آلاف أخرى من البشر عن ديارها، وتباح لغيرها ظلماً وعدواناً، ويعتدي على النساء بغياً، بل وتبقر بطون الحوامل لاستخراج ما في أرحامها همجية وحقداً.

 

أين هذا من شرع السماء وهدي الأنبياء عليهم السلام؟ والرحمة في أفقها الأعلى صفة من صفات الرب -تبارك وتعالى-، وملائكة السماء تشهد بذلك وتتضرع إلى خالقها: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر:7]. بل الله أرحم الراحمين، ويشهد برحمته كل من قرأ: (الرحمن الرحيم) أو يقرأ: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء) [الأعراف:156]. إنها رحمة من يقتدر على الأخذ بقوة: (فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام:147].

 

وهي رحمة لا يستطيع كائن إمساكاً لها أو إرسالاً: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر:2].

 

أيها المسلمون: ورحمة ربي شاملة للحياة والأحياء لبني الإنسان والجن والحيوان، للمتقين والفجار، للأولين والآخرين، وفي الدنيا والآخرة. وظواهر هذه الرحمة يدركها من يتأمل كتاب الله أو ينظر في ملكوت الله.

 

من مظاهرها: تسخير الكائنات: (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص:73]. (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [الاسراء:66].

 

ويمتد التسخير للمركوب والمأكول، ويربط ذلك برحمة الله كما قال تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [النحل: 5-7] إلى قوله تعالى: (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [النحل:8].

 

ومن مظاهر الرحمة: رفع البلاء، وإن جحد المبتلون: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا) [يونس: 21]. (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ) [يّس:43-44].

 

وفرق بين من يقال عنهم: (وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [المؤمنون:75]، وبين من قيل عنه: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) [الانبياء:83-84]. أجل إنها رحمة وذكرى كما قال ربنا، ولكنها لمن؟ للعابدين.

 

عباد الله: ومن مظاهر رحمة الله رفع الحرج لمن به علة أو حاجة: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة:91]، (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:173].

 

ومن مظاهرها: قبول التوبة للمذنبين: (فتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة:37]، وليست قصراً على آدم وحده، بل تشمل غيره: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:74]، (قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:92].

 

يا أخا الإسلام: وهل علمت أن هبة الله الأهل، والذرية الصالحة من رحمة الله (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً) [مريم:49-50]، (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) [مريم:2]، (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [صّ:43].

 

وأن إنزال الغيث رحمة من الله: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) [الشورى: 28]، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الروم: 46].

 

ترى أي حد لرحمة الله، وتقديرها أزلي في كتاب عنده فوق العرش كما قال عليه الصلاة والسلام: "لما خلق الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي" رواه البخاري ومسلم.

 

وأثرها يمتد من الدنيا إلى الآخرة، وهو في الآخرة أعظم، والحاجة إليها أكبر فقد صح عنه -صلى الله عليه وسلم-: "إن لله مئة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وفيها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخر الله تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة". رواه مسلم.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين صاحب الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شمل بفضله ورحمته الإنس والجان والمتقين والفجار، وشهد جوده وآلاءه أولو الألباب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ناله من رحمة ربه ما ألان قلبه لمن حوله فاجتمعوا إليه، ولو كان فظاً غليظاً لانفضوا من حوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

 

أيها المسلمون: وإذا كانت الرحمة بمفهومها العام شاملة للخلق حتى تقوم الحياة ويبتلى الأحياء، ويتميز الشاكرون المؤمنون عن الكافرين الجاحدين، فثمة نوع من الرحمة رجح ابن القيم أن المقصود بها النعمة، فرحمته: نعمته. ثم قال: "فالهدى والفضل، والنعمة والرحمة متلازمان، لا ينفك بعضها عن بعض".

 

ونقل القرطبي عن السلف تفسير فضل الله: "بالقرآن"، "والرحمة بالإسلام". عن أبي سعيد الخدري وابن عباس: فضل الله: "القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله". وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة: "فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن".

هذه الرحمة ينالها طائفة من عباد الله بعمل الصالحات والمجاهدة والإحسان، والمتتبع لآيات القرآن يجد بيان ذلك واضحاً... فبم تنال هذه الرحمة؟

إن مما تنال به الرحمة المجاهدة في سبيل الله، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ) [التوبة:20-21]، (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:110].

 

كما تنال الرحمة بالصبر: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:156-157].

 

وتنال بالإحسان كما قال تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [لأعراف:56]، (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النمل:11].

 

وتنال الرحمة بالإيمان والتقى والطاعة لله والرسول وأداء الواجبات: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران:132]، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) [النساء:175]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد:28].

 

(وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) [لأعراف:156-157].

كما أن للقانتين آناء الليل كفلاً من رحمته: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:9].

 

عباد الله: ومن علائم السعادة أن تسود الرحمة مجتمع المسلمين إذا شقي غيرهم بالغلظة والأنانية والجفاء، ورحمة الخلق سبب لرحمة الخالق، قال عليه الصلاة والسلام: "الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" رواه أبو داود والترمذي وهو صحيح بشواهده، وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما: "لا يرحم الله من لا يرحم الناس".

 

إن نزع الرحمة من علائم الشقاء كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي". حديث حسن أخرجه الترمذي وأبو داود.

 

وإذا كانت القسوة في خلق الأفراد دليل نقص كبير، فهي في تاريخ الأمم دليل فساد خطير، وهي علة الفسوق والفجور كما قال تعالى:(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16].

 

أيها المسلم والمسلمة: إن أحدنا قد يهش لأصدقائه حين يلقاهم، وبكل تأكيد يرق لأولاده وأحبائه حين يراهم، وتلك جوانب من الرحمة، بيد أن المفروض في المؤمن أن تكون دائرة رحمته أوسع، فهو يبدي بشاشته، ويظهر مودته واحترامه لعامة المسلمين.

 

فالمؤمنون إخوة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وأقرب الناس منزلة من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أحاسنهم أخلاقاً، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير في من لا يؤلف.

 

بل شملت الرحمة في الإسلام الحيوان فضلاً عن الإنسان، "فقد شكر الله عز وجل للمرأة البغي التي سقت الكلب الذي كان يأكل الثرى من العطش". متفق عليه. "ودخلت النار امرأة بسبب هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض". متفق عليه.

 

وإذا انتكست الفطر سحق الإنسان، وبات يحوم حول المزابل بحثاً عن طعام أو شراب، أو شلت أعضاؤه من ويلات الحروب وقنابل الدمار، هذا إن كان في عداد الأحياء. وباتت القطط والكلام مدللة إلى حد الترف في المطعم والمشرب والمسكن، وملازمة لأصحابها في الحل أو الترحال، وأين هذا والرحمة في شريعة الإسلام؟

 

أيها المؤمنون: وليس من الرحمة في الإسلام ترك القسوة لمن به حاجة إليه، حتى وإن بدا فيه شدة على المؤدب ظاهراً.

 

فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً *** فليقس أحياناً على من يرحم

 

وليس من الرحمة تعطيل حدود الله على من يقترف محظوراً يستحق العقاب: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النور:2].

 

ومن بلاغة القرآن أن عبر عن قتل القصاص بالحياة لما في ذلك صيانة الأحياء واستمرار الحياة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:179].

 

إن الرحمة -يا عباد الله- في الإسلام ليست حناناً لا عقل معه، أو شفقة تتنكر للعدل والنظام، كلا إنها عاطفة متزنة ترعى الحقوق كلها وتقيم وزناً لمصلحة الفرد والمجتمع والأمة... وبهذه وتلك فاقت رحمة الإسلام كل رحمة، وانتشر صيت رحمة المسلمين في الآفاق، ودخلت أمم في الإسلام لم يقهرها السيف، ولم يستهوها الدرهم والدينار - لكنها القناعة بشريعة الإسلام والإعجاب بأخلاق المسلمين... على حين أفلست الحضارة المادية المعاصرة رغم تشدقها بالعبارات الخادعة، لم يشفع لها بريق الهيئات والمنظمات الكاذبة... فحقوق الإنسان. ومنظمات العدل الدولية، وهيئات الأمم... وما شاكلها، كل هذه وتلك عند واقع الحال وحين يتعلق الأمر بالمسلمين بالذاب، ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد؟

 

وما أحوج الدنيا إلى شرع السماء وهدي الأنبياء، وتلك مسؤولية المسلمين شعوباً وحكومات: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد:17].

 

اللهم أصلح أحوال المسلمين وردهم إليك رداً جميلاً. اللهم هب لنا من رحمتك ما تصلح به أحوالنا في الدنيا، وترحمنا يوم العرض عليك في الآخرة؛ فأنت أرحم الراحمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي