القدس بين دعاوى الهيكل الباطلة وحقائق الوحي الخالدة

عدنان مصطفى خطاطبة

عناصر الخطبة

  1. استمرارية الصراع على القدس بين المسلمين وأهل الشرك
  2. حقائق اليهود الكاذبة حول القدس
  3. حقائق الوحي الصادقة الخالدة حول القدس
  4. قضية القدس قضية إسلامية والشواهد على ذلك
  5. مستقبل عباده المؤمنين في القدس

الخطبة الأولى:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أيها الناس: خلود القدس بخلود المسجد الأقصى، وخلود المسجد الأقصى بخلود حاضنته القدس؛ فهما مشكاة واحدة. ومن هنا، كانت القدس حاضنة المسجد الأقصى، موطن الصراع بين أتباع الوحي الحق، وأتباع المذاهب الباطلة والأديان المحرفة، وكان المسجد الأقصى منذ أزمنة ولا يزال وسيبقى إلى ما يشاء الله محطة صراع واختلاف وتجاذب بين أهل التوحيد من أهل الإيمان وبين أهل الشرك والأديان المحرفة من اليهود والصليبين.

وفي زماننا هذا، اشتدت قضية الصراع حول القدس والمسجد الأقصى ما بين المسلمين واليهود، كما كانت سابقا ما بين المؤمنين والصليبين، بعد أن احتل اليهود أرض فلسطين. فشمّر اليهود عن سواعد الحقد وأنياب العدوان؛ لينشروا أكاذيبهم حول القدس والمسجد الأقصى، داعمين هذه الأكاذيب بأعمال يدوية حاقدة من حفريات تحت المسجد الأقصى وتغييرات تهويدية في ساحات القدس وجغرافيتها.

وزاد اليهود من خطاباتهم التاريخية والدينية الكاذبة حول حقوقهم المزعومة بالقدس والمسجد الأقصى من خلال ما يعرف بكذبة “هيكل سليمان” وأنه في القدس وتحت المسجد الأقصى، وأنه لا بد من هدم المسجد الأقصى للوصول إلى بناء الهيكل الذي يزعمون أنه معبد اليهود. واتخذوا من أجل ذلك كل ما أمكنهم من إجراءات ومواقف لدعم خطابهم اليهودي الحاقد ضد المسجد الأقصى وأسطورة الهيكل المزعوم، وأصبح هذا شغلهم الشاغل منذ احتلال فلسطين. ولذلك حرصوا كل الحرص على الوجود الرسمي والشعبي والاجتماعي والثقافي لهم في مناطق القدس.

وحتى يروجوا هذه الخرافة في أوساط اليهود ويجعلوا تهويد القدس وهدم الأقصى واجبا دينيا عليهم أسّسوا منظمات وأقاموا جماعات وجمعيات معنية بشؤون القدس والهيكل المزعوم.

خذ أمثلة على ذلك -لا كل ذلك-: فأقاموا مؤسسة الهيكل المقدس، وأسسها ستانلي جولدفوت، وأسسوا رابطة إعادة بناء الهيكل، وحركة الاستيلاء على الأقصى، وأقاموا عام 1968م منظمات يهودية دينية لديها مخططات هندسية كاملة لما تسميه الهيكل الثالث، وأقاموا جماعة جوش ايموفيم -ومعناها كتلة الإيمان-، وأسسها موشي ليفنجر أيضاً عام 1973م، وجماعة أمناء الهيكل، وتقوم بأداء الصلوات بجوار المسجد الأقصى بانتظار أن تصلي في الهيكل بعد حين، وجمعية صندوق جبل الهيكل، وأسست عام 1983م، وأسسها الثري المسيحي تيري اونهوفر، وغير ذلك من المنظمات اليهودية والمسيحية البروتستانتية. كما أنشأت الحكومة الإسرائيلية خمس مدارس دينية تعلم الطلاب عن الهيكل وطقوسه وتاريخه.

أيها المسلمون: لقد انعقد في القدس المؤتمر السنوي السابع لرابطة (إعادة بناء الهيكل) بمباركة ومشاركة حكومية، والرابطة تضم عشر منظمات كبرى اشتركت في تنظيم المؤتمر الذي عقد في 17/9/1998م وضم المؤتمر آلافاً من اليهود. وكان الهدف من المؤتمر تقسيم المهام من أجل الهدف الذي جعلوه عنواناً للرابطة وهو: (إعادة بناء الهيكل)، وقد ألقى نائب وزير المعارف الإسرائيلي موشي بيلد كلمة أشاد فيها بالحضور، وخاطب المؤتمرين قائلاً: “أدعوكم إلى مواصلة نشر قيم الهيكل وقيم التراث والثقافة اليهودية بين شباب ﴿إسرائيل﴾ في كافة مراحل التعليم”. وأردف قائلاً: “إن الهيكل هو قلب الشعب اليهودي وروحه”؛ فلاحظوا كيف يربط السياسيون عندهم قضية القدس والأقصى بتاريخهم وثقافتهم ودينهم زورا وبهتانا، ولكن يفعلون ذلك لأجل دعم دعواتهم ومزاعمهم حول القدي والأقصى دينيا وتاريخيا

أيها المسلمون: ولذلك ومنذ أكثر من ثلاثين سنة والتنقيبات والحفريات جارية في مدينة القدس حاضنة المسجد الأقصى، هناك تحت المسجد الأقصى وفي ساحات القدس؛ ظنا منهم أنهم سيعثرون على الهيكل المزعوم ومتخذين ذلك ذريعة لهدم الأقصى. ولقد أثبتت علماء آثار من اليهود أنفسهم والأروبيين والأمريكان الذين شاركوا في الحفريات والأنفاق تحت الحرم القدسي أنه لا أثر للهيكل، وأعلن عالم اليهود فانشتاين من جامعة تل أبيب أن الهيكل قصة خرافية، وقال عالم الآثار اليهودي زئيف هرتسوغ في تقريره “التوراة: لا إثبات على الأرض”: “إنه بعد سبعين عاما من الحفريات المكثفة في فلسطين توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة: لم يكن هناك أي شيء على الإطلاق يشير للهيكل“.

نعم -أيها المؤمنون- إن تلك مزاعم يهودية، لا تصمد أمام حقائق العلم، لا أمام أخبار الوحي، وهذا هو الحق؛ فما كان لنبي الله سليمان -عليه السلام- أن يبني بيتا يُشرك فيه مع الله لأمثال هؤلاء اليهود الكفرة، الذين قالوا: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ﴾ [التوبة:30]. وسليمان -عليه السلام- لم يكن يهودياً بالمعنى الذي يتحدثون عنه، بل كان داود -عليه السلام- والد سليمان يلعن يهود، يلعن هؤلاء الذين خالفوا تعاليم الأنبياء السابقين، وهو ما يعرف بلعنة داود، وقد قال القرآن الكريم: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ [المائدة:78].

كما أن التعاليم اليهودية الحاخامية ظهرت بعد وفاة سليمان وبعد السبي البابلي لليهود. كما أن أسفار موسى الخمسة المعتمدة من قبل فئات يهودية كثيرة وهذه الأسفار هي: التكوين والخروج واللاويين والتي تسمى أيضاً الأحبار والعدد أو التثنية لا تأتي على ذكر القدس من قريب أو من بعيد ومن أراد التأكد فليرجع إلى ذلك.

وقال ماندهول -حسب ما ذكرته صحيفة معاريف الإسرائيلية في عددها الصادر الجمعة 7 /11/2008-: “أن التوراة ليست دليلا ً ولا حقيقة وهناك فترات عديدة من الفترات التاريخية التي تحدثت عنها التوراة كتبت من أجل أغراض أخرى مثل فترة الآباء فتلك الفترة ليست لها أي وجود في التاريخ الإنساني، وحتى في الفترة التي قضاها بني إسرائيل في مصر قبل الخروج فإن التوراة زيفت جزءا كبير منها؛ فالمؤكد أن الشعب اليهودي لم يندمج مع المصريين بعكس ما تقوله التوراة. وأيضا لم تكن هناك آية مبان لليهود أو آثار استوجب سقوطها أو هدمها عندما قضى الفرس على مملكة إسرائيل”.

أيها المسلمون: سعى اليهود الترويج لقضية القدس دينياً في نفوس أتباعهم وعالميا من خلال كذبة (حائط المبكى) على أساس أنه جزء من الهيكل. وهذا كذب؛ فهذا الحائط في حقائق الوحي الخالدة هو حائط البراق. وهو الحائط الغربي للمسجد الأقصى. وهم قد جعلوا من (حائط المبكى) منطقة سياحية ومنطقة زيارات للوفود الرسمية والشعبية وغيرها، لذا هم يمنعون وظيفة المرشد السياحي في القدس؛ ليستمروا في تضليل الوفود وإخفاء المعالم التاريخية والدينية الإسلامية لهذا المسجد وما حوله.

وقضية أن (حائط المبكى) هذا من بقايا الهيكل القديم فصلت فيها بشكل حاسم لجنة دولية عام 1929م، حيث جاء في تقرير لجنة تقصى الحقائق، التي أوفدتها عصبة الأمم السابقة على الأمم المتحدة: “إن حق ملكية حائط البراق، وحق التصرف فيه وفيما جاوره من الأماكن، موضع البحث في هذا التقرير، هو للمسلمين؛ لأن الحائط نفسه جزء لا يتجزأ من الحرم الشريف”. ثم خرجوا لنا بكذبة دينية جديدة وهي بناء (حديقة الآثار التوراتية) حول ساحة المسجد الأقصى. وما زالت سلسلة إفكهم مستمرة.

أيها المسلمون: لقد عمل اليهود على تحويل قضية القدس والأقصى إلى قضية دينية من خلال تربية أبنائهم على يهودية الدولة الإسرائيلية، لذا يقول بن غوريون: “لا معنى لفلسطين من غير القدس ومن غير الهيكل” ويقول هرتزل: “إن فلسطين التي نريد هي فلسطين داود وسليمان”

أيها المسلمون: لقد عمل اليهود على تحويل قضية القدس إلى قضية دينية من خلال نشر أسطورتهم المزعومة (أرض الميعاد) وإقناع البروتستانت من النصارى بأنه بعد تجمع اليهود في (أرض الميعاد) سوف سينزل المسيح إلى الأرض.

أيها المؤمنون: هذا شيء من إفكهم المزعوم حول القدس والهيكل اليهودي. ولكن تبقى حقائق الوحي هي الصادقة الخالدة. ولكنها كذلك تحتاج إلى دول ورجال ليحموها ويحيوها ويحافظوا عليه واقعا على الأرض.

أيها الموحدون: إن حقائق الوحي تخبرنا بأن قضية القدس وقضية الأقصى هي قضية أمة مسلمة تخص كل الموحدين لله تعالى في العالم؛ لأن الله تعالى قد بارك المسجد الأقصى وما حوله ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء:1]، وأنى لمسجد ومنطقة قد باركها الله تعالى ونزل فيها أشرف خلق الله سيدنا محمد خاتم الرسل -صلوات الله وسلامه عليه-! أنى لها أن يكون فيها لليهود الكفرة أحقية دينية أو واقعية!.

أيها المؤمنون: لقد سمى الله أرض فلسطين بالأرض المباركة والأرض المقدسة في مواضع عدة في كتابه الكريم فلما خرج نبي الله إبراهيم -عليه السلام- من أرض العراق قصد أرض الشام المباركة فكانت مُهَاجَرَه، ثم كان موته -عليه الصلاة والسلام- في مدينة الخليل، قال تعالى: ﴿ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين﴾ [الأنبياء:71].

ولما أراد موسى -عليه السلام- من اليهود دخول فلسطين قال لهم: ﴿يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين﴾ [المائدة:21]. ثم أكد لقرآن بركة أرض فلسطين حين بقول الله تعالى: ﴿ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها﴾ [الأنبياء:81].

أيها المسلمون: لقد كان المسجد قائمًا زمن المسيح -عليه السلام-، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي، أن الله أمر يحيى بخمس كلمات يبلغها بني إسرائيل قال -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا، فَقَالَ عِيسَى: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ، وَإِمَّا أَنَا آمُرُهُمْ، فَقَالَ يَحْيَى: أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ المَقْدِسِ، فَامْتَلَأَ المَسْجِدُ وَقَعَدُوا عَلَى الشُّرَفِ“.

نعم -أيها المؤمنون-. وهكذا، فقط ارتبط بهذا المكان المقدس عدد من الأنبياء ارتباطا عقديا وتوحيديا وإيمانيا ورساليا ودعويا، باعتبار أنّ مباركة هذه الأرض خاصة بالله؛ فإنّ حكمة الله اقتضت أنْ يكون للأرض المباركة شأن فريد من نوعه لدى الأنبياء منذ إبراهيم -عليه السلام-؛ فهو أكثر من ارتبط عقدياً بها، ثم داود وسليمان وعيسى وزكريا ويحيى -عليهم السلام-؛ فالقدس والأقصى هي موطن إشعاع توحيدي نبوي؛ فكما كان المسجد الحرام زمن إبراهيم وإسماعيل موطن إشعاع توحيدي، كذلك كانت الأرض المباركة وفيها المسجد الأقصى.

أيها المسلمون: لقد جاءت أخبار الوحي بحقائق تاريخية عميقة كالشمس في رابعة النهار حول المسجد الأقصى وحاضنته القدس. فبينت للأمة أن المسجد الأقصى فهو ثاني المساجد، وقد بني بعد المسجد الحرام بأربعين سنة؛ فكما في البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: “المَسْجِدُ الحَرَامُ” قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: “المَسْجِدُ الأَقْصَى” قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: “أَرْبَعُونَ سَنَةً“.

ولذا يذهب بعض المحققين أن الذي بناه أيضاً هو إبراهيم -عليه السلام-، قال شيخ الإسلام: “فالمسجد الأقصى كان في عهد إبراهيم -عليه السلام-، لكن سليمان -عليه السلام- بناه بناءً عظيمًا؛ فكل من المساجد الثلاث بناه نبي كريم ليصلي فيه هو والناس”

عباد الله: قضية القدس قضية حضارة هذه الأمة، وقضية هوية إسلامية، صبغها بها الوحي، ولا مجال لتغييرها. نعم، لقد أخبرنا الوحي الصادق أن المسجد الأقصى هو أولى القبلتين؛ فقد جاء في الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “صلينا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم صُرفنا نحو الكعبة“.

كما أسرى الله -عز وجل- بخاتم الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- إلى بيت المقدس فصلى إماماً بالأنبياء هناك، قال الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء:1]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رحلة الإسراء والمعراج -كما في صحيح مسلم-: “أُتِيت بالبُراق فركبتُه حتى أَتَيت بَيت المقدس فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم عُرِج بي إلى السماء“.

وأن المسجد الأقصى هو أحد المساجد الثلاثة التي يجوز أن تُشدَّ لها الرحال، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى“؛ (متفق عليه).

أيها المسلمون: يشهد تاريخنا الإسلامي الصادق بأن قضية القدس والأقصى هي قضية أمة الإسلام وحضارة المسلمين؛ فقد فتح عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بيت المقدس وتسَلَّم مفاتيحها بعد أن أعطى أهلها الأمان وكان من شروط العهدة العمرية، واشترطت نصارى بيت المقدس حينذاك على المسلمين أن لا يسمحوا لأحد من اليهود أن يدخل بيت المقدس ولا يسكن بإيليا -أي المقدس- أحد منهم . وكان ذلك في شهر رجب 16 هـ.

وعندما قدم المسلمون أرض فلسطين فاتحين كان الروم قد جعلوا المكان موضعًا لرمي القذر، وذلك نكاية ببني إسرائيل. وحين قدم عمر بن الخطاب بيت المقدس فاتحًا سأل عمر كعب الأحبار -وكان من جنود الفتح- عن مكان الصخرة، وكان الزبل والقذر قد علاها فأشار إلى مكانها، فجعل عمر والمسلمون يزيلون بأيديهم ما عليها من قذر وأوساخ.

وفي شعبان 492هـ اقتحم الصليبيون المسجد الأقصى وقتلوا نحواً من سبعين ألفاً من المسلمين كما خربوا المسجد الأقصى. وقد استرد المسلمون -في وعي حضاري وقرآني منهم بأهمية القدس- المسجدَ الأقصى، وأعادوا القدس إلى حاضنة الأمة المسلمة وذلك في رجب سنة 583هـ على يد القائد صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله-. الذي عامل أهلها معاملة طيبة، وأزال الصليب عن قبة الصخرة، واهتم بعمارة المدينة وتحصينها، ثم اتجه صلاح الدين لتقديم أعظم هدية للمسجد، وكانت تلك الهدية هي المنبر الذي كان “نور الدين محمود بن زنكي” قد أعده في حلب، وكان هذا المنبر آيةً في الفن والروعة، ويعدّه الباحثون تحفة أثرية رائعة؛ ليبقى شاهدا على حضارة المسلمين العظيمة.

نعم -أيها المسلمون- إن قضية القدس هي قضية حضارة المسلمين الخالدة؛ فالقدس تمثل مخزونا حضاريا للأمة المسلمة؛ ففي القدس أبرز معالم الحضارة الإسلامية وقد تركت تلك الحضارة بصمات لا تنسى فيها مازالت ماثلة أمام التاريخ؛ كالحرم القدسي الشريف والمسجد الأقصى المبارك ومسجد قبة الصخرة والجامع العمري وحائط البراق الذي أوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- براقه عنده ليلة الإسراء، وفي القدس مقابر تضم في ثراها أعدادا كثيرة من الشهداء وأبطال المسلمين من عهد صلاح الدين الأيوبي ومن قبله ومن بعده، وفيها من المدارس الإسلامية التاريخية التي اهتمت بشتى العلوم الإنسانية والفقهية والإسلامية وغيرها من العلوم.

أيها المسلمون: يشهد تاريخنا الإسلامي الصادق بأن القدس هي قضية أمة الإسلام وحضارة المسلمين، بما حظيت به من اهتمام وحضور مشهود لكبار الصحابة وعلماء الأمة، يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: “ولبيت المقدس عدة أسماء تقرب من العشرين“. وكما هو معلوم فإن كثرة الأسماء تدل على أهمية المسمى.

ومن هذه الأسماء: القدس: ومن هذا قيل للسطل القدس؛ لأنّه يتقدس منه؛ أي يتطهر، والقدس: السطل بلغة أهل الحجاز؛ لأنه يتطهر فيه، والقدس “البركة” وعلى هذا القدس “بركة الماء”، الماء الذي يستخدم للطهارة، والقدس اسم تعرف به المدينة منذ القدم ولقد ذكر المؤرخ اليوناني ” هيرودوت” في تاريخه المشهور اسم مدينة كبيرة في الجزء الفلسطيني وسماها ” قديتس”. أمَّا اسم “القدس” فقد غلب على المدينة بعد العصر الأُموي في بلاد الشام خاصة. ومن أسماء القدس: بيت المقدس: وهو اسم إسلامي ذكر في الصحيحين.

نعم -يا عباد الله- القدس حضارة المسلمين الخالدة. حضارة العلم والعبادة والدعوة والطاعة. لقد حرص المسلمون -ومنذ الفتح العمري- على شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك للصلاة فيه ونشر الدعوة الإسلامية، حتى إن الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب قام بتكليف بعض الصحابة الذين قدموا معه عند الفتح بالإقامة في بيت المقدس والعمل بالتعليم في المسجد الأقصى المبارك إلى جانب وظائفهم الإدارية التي أقامهم عليها. فكان من هؤلاء الصحابة عبادة بن الصامت أول قاض في فلسطين، وشداد بن أوس، وتوفي هذان الصحابيان في بيت المقدس ودفنا في مقبرة باب الرحمة الواقعة خارج السور الشرقي للمسجد الأقصى.

وممن زار بيت المقدس من الصحابة عمر بن الخطاب وأبو عبيدة عامر بن الجراح وأم المؤمنين صفية بنت حيي زوج رسول الله، ومعاذ بن جبل، وعبدالله بن عمر، وخالد بن الوليد، وأبو ذر الغفاري، وأبو الدرداء، وسلمان الفارسي، وعمرو بن العاص، وسعيد بن زيد من العشرة المبشرين بالجنة، وأبو هريرة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وغيرهم -رضوان الله عليهم أجمعين-.

وواصل علماء الإسلام من كل حدب وصوب شد الرحال إلى المسجد الأقصى للسكنى والتعليم فيه، فكان منهم مقاتل بن سليمان المفسر، والإمام الأوزاعي فقيه أهل الشام، والإمام سفيان الثوري إمام أهل العراق، والإمام الليث بن سعد عالم مصر، والإمام محمد بن إدريس الشافعي أحد الأئمة الأربعة.

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أيها المؤمنون: لقد أخبر الوحي عن مستقبل عباده المؤمنين في القدس ومع قضية القدس؛ فكما في الحديث الصحيح في مسند أحمد، قال النبي -صلى الله عليه آله وسلم-: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين ولعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، ولا ما أصابهم من البلاء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك”. قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس”؛ (أخرجه الإمام أحمد).

وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: “لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا اليَهُودَ، حَتَّى يَقُولَ الحَجَرُ وَرَاءَهُ اليَهُودِيُّ: يَا مُسْلِمُ، هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ“.

وفي صحيح مسلم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ“. والغرقد: نوع من شجر الشوك معروف ببلاد بيت المقدس.

هذا الحديث من دلائل النبوة، ومبشراتها لهذه الأمة، ولمستقبل صراعها مع اليهود. ولكن هذا المستقبل لا يعني التواكل ولا الجلوس والانتظار، بل يجب على كل جيل أن يأخذ بالأسباب الممكنة في عصره للحفاظ على القدس ومواجهة تهويدها من بني يهود المحتلين.

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، ولوجهك خالصة.


تم تحميل المحتوى من موقع