العنصر الثاني: صدق التوكل على الله، فمنه يستجلب النصر، وبه يدفع الضر، ومع التوكل عليه وحده يبطل كل كيد ويعيش المتوكل قرير العين، متحدياً كل أحد. وهاك نموذجين لآثار التوكل على الله، قص الله علينا خبرهما عن نوح وهود عليهما السلام، فقال عن الأول: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) [يونس:71]، فهو لا يبالي بهم..
الحمد لله جل في علاه، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، ما من دابة في الأرض إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18].
أيها المسلمون: هناك حقيقة يؤكدها القرآن الكريم في أكثر من موضع، ويشهد بها واقع الناس في كل زمان ومكان، ألا وهي: كثرة الخبيث في الأرض، وزيادة أعداد المفسدين، وندرة الإيمان، وقلة المؤمنين.
يقول تعالى: (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة: 100] ويقول جل ذكره: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف:103]، ويقول: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنعام: 116]، وقال تعالى:(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سـبأ:20]، وقال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سـبأ: 13].
قال عليه الصلاة والسلام حين سئل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث". وفي الحديث الآخر: "لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا، ويشرب الخمس" متفق عليه.
وعن الزبير بن عدي قال: "أتينا أنساً فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم"، رواه البخاري.
هذه الكثرة للفساد والمبطلين، والقلة لأهل الصلاح والتقوى واليقين لحكمة يعلمها الله (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس:99].
والغفلة عن حكمة الله وتقديره في هذا الكون، قد تضعف معها بعض النفوس أحياناً، وقد ينظر المرء أحياناً إلى الفساد يسري في الأرض سريان النار في الهشيم، وإلى المفسدين تتاح لهم من الفرص ما لا تتاح للخيرين… هنا ربما وهن عزم المسلم أو ساورته بعض الشكوك في طريقه إلى الله، ولربما أساء الظن بربه، أو قلل الأدب مع خالقه، فقال بلسان حاله أو مقاله: ولماذا يمكن المفسدون؟ وكيف تكون الغلبة للكافرين، والذلة والتشرذم من نصيب المسلمين؟ والله لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ولو فتش في نفسه وفي حال إخوانه لوجد من الضعف وعدم الجدية في حمل هذا الدين، ما سبب هذا الواقع المهين، ولا يظلم ربك أحداً، ولا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
والمهم أن نتعرف على الأسباب التي تجعل من الضعيف قوياً، ومن القلة ذات أثر فاعل، وإن شئت فقل: ما هي عناصر القوة للمسلم؟ إن أول عناصر القوة: الإيمان الحق بالله، وذلك الإيمان يربي النفوس على عدم الخوف من أحد مهما كان، إلا الله والحد القهار:(فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].
لقد تحدى السحرة بهذا الإيمان فرعون: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طـه: 72-73]، وبالإيمان صرح الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ويحث على اتباع المرسلين: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يّـس: 25-27]، وكذلك استعلى بالإيمان أصحاب الأخدود (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج:8]، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
العنصر الثاني: صدق التوكل على الله، فمنه يستجلب النصر، وبه يدفع الضر، ومع التوكل عليه وحده يبطل كل كيد ويعيش المتوكل قرير العين، متحدياً كل أحد. وهاك نموذجين لآثار التوكل على الله، قص الله علينا خبرهما عن نوح وهود عليهما السلام، فقال عن الأول: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) [يونس:71]، فهو لا يبالي بهم ولا بقوتهم وكيدهم، ولا يخاف معرتهم، وإن كانوا أشداء أقوياء، ما دام متوكلاً على الله، آوياً إلى ركنه.
وفي النموذج الثاني قال تعالى عن هود عليه السلام: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود: 54-56]، إنه بالتوكل على الله يتحداهم أجمعين ودون تأخير، ويقول: فكيف أخاف من ناصيته بيد غيره، وهو في قهره وقبضته؟
عباد الله: إن الإيمان الحق يستلزم التوكل على الله: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس:84].
جاء في الأثر: "من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق بما في يديه، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله".
أما العنصر الثالث من عناصر قوة المؤمن: فهو تفويض الأمر لله بعد عمل الأسباب الممكنة شرعاً، ولا بد لمن فوض أمره إلى الله أن يهديه ويقيه، ودونكم تفويض مؤمن آل فرعون ونتائجه وهو القائل: (فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ) [غافر: 44-45].
أيها المسلمون: ويكتسب المؤمن قوة وحماية وأمناً من خلال دفاع الله عنه (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [الحج:38].وهذا هو العنصر الرابع من عناصر القوة… ومن يستطيع إلحاق الضرر والأذى بمن يتولى الله الدفاع عنه، كلما أجلب الناس عليه…؟!
وكفاية الله لعبده المؤمن عنصر خامس من عناصر قوته، وإن خوف بمن دونه: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر:36].
ولا تستطيع قوة من البشر -مهما بلغت- أن تلحق بعبد ضرراً لم يكتبه الله عليه: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك".
بل يجعل الله تعالى من نفسه محارباً لمن عادى وليه المؤمن: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب"، وهل يقوى على حرب الله أحد؟
ومما يقوي المؤمن ضعف سلطان الشيطان عليه: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل: 99-100]. (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الاسراء:65].
ومحبة الخلق للمؤمن رصيد يسليه ويقويه ويؤنسه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم:96].
وصبره على الضراء، وشكره على السراء، فوق ما فيه من تقويته فهو يفوت الفرصة على كل من أراد بالمؤمن سواءً أو فتنة، وهذا الصنف لا تتعلق نفسه بعطاء الدنيا، ولا تضجر للبلاء: "عجباً لأمر المسلم إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن".
وما أجمل قول القائل:
صبراً جميلاً ما أسرع الفرجا من صدق الله في الأمور نجا
من خشي الله لم ينله أذى ومن رجا الله كان حيث رجا
وأبلغ من ذلك قوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح: 5-6]، ولن يغلب عسر يسرين، كما قال العلماء. اللهم اجعلنا من الصابرين، ومن أهل الإيمان واليقين، أقول ما تسمعون.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: ومن عناصر قوة المؤمن وأسلحته التي يحتمي بها الدعاء، قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].
والله تعالى هو المدعو عند الشدائد، والمرجو عند النوازل: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاه) [الاسراء: 67]، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عندآية النمل هذه عن وهب بن منبه قال: "قرأت في الكتاب الأول أن الله تعالى يقول: (بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات بمن فيهن، والأرض بمن فيهن، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجاً، ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه)".
كما نقل عن الحافظ ابن عساكر الحكاية التالية عن رجل قال: "كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني، فركب معي ذات مرة رجل، فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة، فقال لي: خذ في هذه فإنها أقرب، فقلت: لاخبرة لي فيها، فقال: بل هي أقرب، فسلكناها، فانتهينا إلى مكان وعر، وواد عميق، وفيه قتلى كثيرة، فقال لي: أمسك رأس البغل حتى أنزل، فنزل وتشمر، وجمع عليه ثيابه وسل سكيناً معه وقصدني، ففررت من بين يديه فتبعني، فناشدته الله وقلت: خذ البغل بما عليه، فقال: هو لي، وإنما أريد قتلك، فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال: عجل، فقمت أصلي، فارتج علي القرآن، فلم يحضري منح حرف واحد، فبقيت واقفاً متحيراً وهو يقول: هيه: افرغ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) [النمل: 62] فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة، فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده، فخر صريعاً، فتعلقت بالفارس وقلت: بالله من أنت؟ فقال: أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً".
أيها المسلمون: وكذلك الله يكفي ويشفي ويجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، وهو خير حافظاً وهو أرحم الراحمين، ومن تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدائد والمحن، وقد يغتر الجاهل بقوته، أو يتمادى في جوره وطغيانه حيث أمهله الله، فإذا به يأخذه على حين غرة، ومن حيث لا يحتسب، ومن نماذج السوء فرعون، فحين بلغ به الطغيان قال: أنا ربكم الأعلى، ونادى في قومه قال: يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، وسخر بموسى ومن معه من المؤمنين فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، وجعله عبرة للمعتبرين، (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) [الزخرف: 55-56].
وكذلك قارون الذي ناءت بحمل مفاتيح كنوزه أولو العصبة من أصحاب القوة… وقال متطاولاً مستكبراً: ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص: 78] فكانت النتيجة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ) [القصص:81].
إن الضعيف يقوى إذا احتمى بالله وركن إليه، وأن القوي يضعف وتهن قواه إذا تجبر وطغى.
وينبغي أن يقدر المسلمون أن صلتهم بالله مصدر قوتهم وعزتهم، وأن بداية سقوطهم ضعف صلتهم بالله وتنكرهم لشرعه، واعتمادهم وتوكلهم على غيره.
يا أخا الإسلام: وإياك إياك أن تستوحش من سلوك طريق الخير لقلة السالكين، أو تغتر بسلوك طريق الشر لكثرة الهالكين، فأنت سترد على الله فرداً، وإذا كان لا يغني في موقف العرض الأكبر الاعتذار بتقليد الآباء والأجداد… فكيف يغني اعتذارك بتقليد من سواهم!!
إن مما يسلي المؤمن ويسري عنه أن غربة اليوم والثبات على الحق عاقبتها جنات المأوى، كذا أخبر المصطفى: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء" أتدري من هؤلاء الغرباء؟ الذين يصلحون إذا فسد الناس، وفي رواية: "يصلحون ما أفسد الناس" فأصلح نفسك إذا فسد الزمان وساهم في إصلاح غيرك، فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.
اللهم أصلحنا، وأصلح بنا، اللهم احفظنا واحفظ لنا، اللهم ارزقنا الاستقامة على دينك، والعمل بسنة نبيك… واجعلنا ممن يرد حوضه، وينال شفاعته، ولا تجعلنا ممن يذاد عنه وعنهم، يقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي