حينما يكون المجتمع صارمًا في نظام أخلاقه وضوابط سلوكه، غيورًا على كرامة فرده وأمته، مؤثرًا رضا الله على نوازع شهواته حينئذٍ يستقيم مساره في طريق الحق والصلاح والرفعة والإصلاح.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل وخشيته وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَائِزُون) [النور:52].
أيها المسلمون: لا ترجع هزائم الأمم، ولا انتكاسات الشعوب إلى الضعف في قواها المادية ولا إلى النقص في معداتها الحربية.
من يظن هذا الظن ففكره قاصر ونظره سقيم.
إن الأمم لا تعلو ـ بإذن الله ـ إلا بضمانات الأخلاق الصلبة في سير الرجال. بل إن رسالات الله ما جاءت إلا بالأخلاق، وإتمام الأخلاق بعد توحيد الله وعبادته: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق".
الأخلاق الفاضلة، يضعف أمامها العدو، وينهار بها أهل الشهوات.
حينما يكون المجتمع صارمًا في نظام أخلاقه وضوابط سلوكه، غيورًا على كرامة فرده وأمته، مؤثرًا رضا الله على نوازع شهواته حينئذٍ يستقيم مساره في طريق الحق والصلاح والرفعة والإصلاح.
والأخلاق ـ أيها الإخوة ـ ليست شيئاً يكتسب بالقراءة والكتابة، ولا بالموعظة والخطابة، ولكنها درجة بل درجات لا تنال ـ بعد توفيق الله ورحمته ـ إلا بالتربية والتهذيب والصرامة والحزم وقوة الإرادة والعزم.
أيها الإخوة، وهذا حديث عن مقياس من مقاييس الأخلاق دقيق ومعيار من معايير ضبط السلوك جلي.
إنها الغيرة. الغيرة ـ يا عباد الله ـ الغيرة. الغيرة على الأعراض وحماية حمى الحرمات.
أيها الأحبة الغيورون، كل امرئٍ عاقلٍ، بل كل شهم فاضل لا يرضى إلا أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرمًا مصونـًا لا يرتع فيه اللامزون، ولا يجوس حماه العابثون.
إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة الشهم يقدم ثروته ليسد أفواهًا تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها. نعم إنه ليصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضًا.
بل لا يقف الحد عند هذا فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مهجته، ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته. يهون على الكرام أن تصان الأجسام لتسلم العقول والأعراض. وقد بلغ دينكم في ذلك الغاية حين أعلن نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون أهله فهو شهيد".
أيها الإخوة، بصيانة العرض وكرامته يتجلى صفاء الدين وجمال الإنسانية وبتدنسه وهوانه ينزل الإنسان إلى أرذل الحيوانات بهيمية.
يقول ابن القيم رحمه الله: "إذا رحلت الغيرة من القلب ترحَّلت المحبة، بل ترحل الدين كله". ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس غيرة على أعراضهم، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يومًا لأصحابه: "إن دخل أحدكم على أهله ووجد ما يريبه أَشْهَدَ أربعًا. فقام سعد بن معاذ متأثرًا فقال يا رسول الله: أأدخل على أهلي فأجد ما يريبني انتظر حتى أشهد أربعًا؟! لا والذي بعثك بالحق!! إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحنَّ بالرأس عن الجسد ولأضربنَّ بالسيف غير مصفح وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء. فقال عليه الصلاة والسلام: أتعجبون من غيرة سعد؟؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني؛ ومن أجل غيرة الله حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن..." الحديث وأصله في الصحيحين.
من حُرم الغيرة حرم طُهر الحياة، ومن حرم طُهر الحياة فهو أحطُّ من بهيمة الأنعام.
ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال وكرائم النساء.
إن الحياة الطاهرة تحتاج إلى عزائم الأخيار، وأما عيشة الدَّعارة فطريقها سهل الإنحدار والإنهيار، وبالمكاره حفت الجنة وبالشهوات حفَّت النار.
أيها الإخوة، إن الأسف كل الأسف، والأسى كل الأسى فيما جلبته مدنية هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض، ووأدٍ كريه للغيرة. تعرض تفاصيل الفحشاء من خلال وسائل نشر كثيرة، بل إنه ليرى الرجل والمرأة يأتيان الفاحشة وهما يعانقان الرذيلة غير مستورين عن أعين المشاهدين والنظارة، لقد انقلبت الحال عند كثير من الأقوام بل الأفراد والأسر حتى صار الساقطون الماجنون يُمثلون الأسوة والقدوة ووسامَ افتخارٍ وعنوان رجولة.
تصوروا ـ رعاكم الله وحماكم ـ خبيثـًا وخبيثة يقفان على قارعة الطريق ليمارسا الفاحشة علانية كما تفعل البهائم من الحمير والخنازير أعز الله مقامكم ونزَّه أسماعكم.
هل غارت من النفوس الغيرة؟ وهل غاض ماؤها؟ وهل انطفأ بهاؤها؟ هل في الناس دياثة؟ هل فيهم من يقر الخبث في أهله؟ لا يدري الغيور من يخاطب؟ هل يخاطب الزواني والبغايا؟ وإلا فأين الكرام والحرائر؟!!
إعلانٌ للفحشاء بوقاحة!! وإغراقٌ في المجون بتبجح!! أغانٍ ساقطةٌ، وأفلامٌ آثمة، وسهراتٌ فاضحة، وقصصٌ داعرةٌ، وملابس خالعة، وعباراتٌ مثيرة، وحركاتٌ فاجرة؛ ما بين مسموع ومقروء ومشاهد، في صور وأوضاع يندى لها الجبين في كثير من البلاد والأصقاع إلا من رحم الله. على الشواطئ والمتنزهات، وفي الأسواق والطرقات، فلا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل!!
حسبنا الله من أناس يهشون للمنكر ويودون لو نبت الجيل كله في حمأة الرذيلة، وحسبنا الله من فئات تود لو انهال التراب على الفطرة المستقيمة والحشمة الرفيعة.
ما هذا البلاء؟ كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم، لفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمر من ابتكارات البث المباشر وقنوات الفضاء الواسع؟؟
أين ذهب الحياء؟ وأين ضاعت المروءة؟ أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئتها أجواء الفتنة، وجرتها إلى مستنقعات التفسخ جرًا، وجلبت لها محرضات المنكر تدفعها إلى الإثم دفعًا، وتدعُّها إلى الفحشاء دعـًّا؟؟
اطلعت امرأة شريفةٌ على الخمر ثم سألت: هل تشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم. قالت: زنين ورب الكعبة!!
أيها الإخوة، إن طريق السلامة لمن يريد السلامة ـ بعد الإيمان بالله ورحمته وعصمته ـ ينبع من البيت والبيئة. فهناك بيئات تنبت الذل، وأخرى تنبت العز، وثمت بيوتات تظلها العفة والحشمة، وأخرى ملؤها الفحشاء والمنكر. لا تحفظ المروءة ولا يسلم العرض إلا حين يعيش الفتى وتعيش الفتاة في بيت محتشم محفوظ بتعاليم الإسلام وآداب القرآن، ملتزم بالستر والحياء، تختفي فيه المثيرات وآلات اللهو المنكر، يتطهر من الاختلاط المحرم. الغيرة الغيرة يا عباد الله؛ فالحمو الموت، واحذروا السائق والخادم وصديق العائلة وابن الجيران، ناهيك بالطبيب المريب والممرض المريض، وإياكم واحذروا الخلوة بالبائع والمدرس في البيت، حذار أن يظهر هؤلاء وأشباههم على عورات النساء. فذلكم اختلاط يتسع فيه الخرق على الراقع وتصبح فيه الديار من الأخلاق بلاقع.
هل تأملتم ـ وفقكم الله ـ لماذا توصف المحصنات بالغافلات؛ الغافلات: وصفٌ لطيفٌ محمودٌ، وصفٌ يُجسد المجتمع البريء والبيت الطاهر الذي تشب فتياته زهراتٍ ناصعاتٍ لا يعرفن الإثم، إنهن غافلاتٍ عن ملوثات الطباع السافلة.
وإذا كان الأمر كذلك فتأملوا كيف تتعاون الأقلام الساقطة والأفلام الهابطة لتمزق حجاب الغفلة هذا، ثم تتسابق وتتنافس في شرح المعاصي، وفضح الأسرار وهتك الأستار، وفتح عيون الصغار قبل الكبار؟! ألا ساء ما يزرون!!
أيها الإخوة والأخوات، الغيرة... إن لم تغاروا فاعلموا أن ربكم يغار، فلا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش، يا أمة محمد ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته.
وربكم يمهل ولا يهمل، وإذا ضُيِّع أمر الله فكيف تستنكر الخيانات البيتية والشذوذات الجنسية وحالات الاغتصاب وجرائم القتل وألوان الاعتداء؟!
إذا ضيع أمر الله طفح المجتمع بنوازع الشر وامتلأ بدوافع الأثرة، وتولدت فيه مشاعر الحسد والبغضاء، ومن ثمَّ قلَّ ما ينجو من فساد وفوضى وسفك دماء: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَـارَهُمْ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:22-24].
الحمد لله ذي الجلال والعزة، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره يتولى ببأسه ونقمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، جاء بكريم الخصال ومجامع الأخلاق الفاضلة فحفظ الأمانة وصان العفة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون، كم للفضيلة من حصنٍ امتنع به أولو النخوة فكانوا بذلك محسنين، وكم للرذيلة من صرعى أوردتهم المهالك فكانوا هم الخاسرين.
في ظلال الفضيلة منعة وأمان، وفي مهاوي الرذيلة ذلةٌ وهوان، والرجل هو صاحب القوامة في الأسرة وإذا ضعف القوَّام فسد الأقوام. وإذا فسد الأقوام خسروا الفضيلة، وفقدوا العفة وتاجروا بالأعراض وأصبحوا كالمياه في المفازات يلغ فيها كل كلبٍ، ويكدِّر ماءها كلُّ وارد.
جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله ائذن لي في الزنا. فأقبل عليه الناس يزجرونه، وأدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ثم قال له: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقول للفتى: أتحبه لأختك؟ أتحبه لعمتك؟ أتحبه لخالتك؟ كل ذلك والفتى يقول: لا والله جعلني الله فداك. فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: "اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصِّن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء".
ألا فاتقوا الله رحمكم الله وغاروا على حرمات الله يسلم لكم دينكم وعرضكم ويبارك لكم في أهلكم وذرياتكم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي