والمتأمل في نظام الإسلام الاقتصادي والاجتماعي يتبين له أنه أعدل نظام عرفته البشرية، فالأغنياء الموسرون في أموالهم حق للسائل والمحروم، يؤجرون على البذل ويبارك لهم في المال مع الصدقة، ويجازون بالإحسان على الإحسان، يعطيهم الله من رزقه ويطلب منهم القرض الحسن للمحتاجين من خلقه، تضاعف لهم الأجور في الصدقات، ويحفظ الله أموالهم من الكوارث والنبكات بإخراج الزكاة وإعطاء الصدقات ..
الحمد لله أغنى وأقنى، يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، وهو الحكيم العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خزائنه ملاء، وما كان عطاء ربك محظوراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأكرم الخلق على الله، ومع ذلك عاش حياة الكفاف، وربما ربطا لحجر على بطنه من الجوع، زهداً في الدنيا وطلباً لنعيم الآخرة – اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:35].
أيها المسلمون: المال من زينة الحياة الدنيا، تسر له النفوس، تفرح إذا أعطيت، وتحزن إذا منعت، وليس العطاء دليل الرضا، ولا المنع علامة الغضب، ومن عباد الله من لا يصلح له إلا الغني، ولو أفقره الله ما صلح له ذلك، ومن عباده من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغناه الله ما صلح له ذلك، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وهو الحكيم الخبير.
عباد الله: والمتأمل في نظام الإسلام الاقتصادي والاجتماعي يتبين له أنه أعدل نظام عرفته البشرية، فالأغنياء الموسرون في أموالهم حق للسائل والمحروم، يؤجرون على البذل ويبارك لهم في المال مع الصدقة، ويجازون بالإحسان على الإحسان، يعطيهم الله من رزقه ويطلب منهم القرض الحسن للمحتاجين من خلقه، تضاعف لهم الأجور في الصدقات، ويحفظ الله أموالهم من الكوارث والنبكات بإخراج الزكاة وإعطاء الصدقات.
والفقراء يحتاجون فلا يجدون، ويصبرون فيؤجرون، تضن عليهم الحياة، وتلاحقهم هموم الديون وغلبته وقهر الرجال، فيشكون الحاجة إلى خالقهم وينزلونها به دون خلقه، فيجعل لهم بعد العسر يسراً، ومن الهموم فرجاً، كم لهم من الأجر حين يصبرون على شظف العيش وكفاف الحياة… وكم تصفو نفوس الزهاد في الدنيا حين لا يشغل بالهم الصفق بالأسواق، ومتابعة مؤشرات الأسهم… بل يتفرغون لطاعة الله وذكره والتزود لآخرته.
عباد الله: والزكوات والصدقات، والعطايا، والهدايا والهبات… كلها إنفاق يؤجر عليه المسلم إذا كان خالصاً لوجه الله… وتلك تخفف معاناة الفقر، وتذهب شح النفوس، وتجعل في الحياة فرصاً للخير والود، والرحمة، وكيف يكون شعور محتاج ضائق بالديون، أو عاجز عن النفقة الواجبة أو شاب رغب العفاف بالزواج وأظلمت الدنيا في وجهه،إذ لا يجد ما يغنيه إذا ما امتدت إليهم يد محسن فأعطاهم ما يغنيهم، وشاركهم في آلامهم، وسرى عنهم همومهم… إنه شعور يفيض بالمحبة والتقدير، ولن ينسى ذلك الفقير المحتاج لهذا الغني المتصدق ما أنفقت يداه… والأجر في الآخرة أعظم، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة، و الله في عون العبد ما دام في عون أخيه.
أيها المسلمون: وحين يكون الحديث عن الزكاة الواجبة يمكن لنا أن نقف حيالها الوقفات التالية:
أولاً: تعد الزكاة طهرة لمال الغني، وتزكية لنفسه، وهي تنفيس للفقير وتسلية له، وسد لحاجته.
ثانياً: وفرض الزكاة مرة في العام أعدل ما يكون، إذ لو جعلت كل شهر أو كل أسبوع لضر بأرباب المال، ولو جعلت في العمر مرة لضر بالمساكين، وليس أعدل من حكم الله وجعلها في العام مرة.
ثالثاً: ويلحق ضرر بالمساكين المحتاجين، إما من صاحب المال إذا منع ما يجب عليه، أو من الآخذ، إذا أخذ ما لا يستحق أخذه، وهكذا يتولد الضرر من بين هاتين الطائفتين على المساكين وأهل الحاجات الحقيقيين، لا أصحاب الحيل والملحفين بالمسألة، و الله أعلم بما يملكون.
رابعاً: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا علم من الرجل أنه من أهل الزكاة أعطاه، وإن سأله أحد من أهلها ولم يعرف حاله أعطاه بعد أ، يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب.
خامساً: والذين يبعثون لأخذ الزكاة لا بد أن يتمثلوا العدل فيما يأخذون أو يدعون، وفي موقف عبدالله بن رواحة رضي الله عنه نموذج يحتذى، وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر ليخرص لهم الثمار والزروع، فأراد اليهود أن يرشوه، فقال لهم عبدالله: تطعموني السحت؟ والله لقد جئتكم من عند أحب الناس غلي، ولأنتم أبغض إلي من عدتكم من القردة الخنازير، ولا يحملني بغضي لكم وحبي إياه، أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض.
سادساً: ولا بد من العدل مع النفس وتربيتها على إخراج الواجب من المال طيبة راضية غير متأففة ولا مانة… ولا ملحقة أذى بمن تعطي..
وإذا هالك -أخي الغني- كثرة الزكاة من مالك… فانظر في كثرة أصل مالك، واشكر الله على أن أعطاك الكثير وطلب منك القليل، واحمده على أن كنت يداً تعطي لا تأخذ، وتذكر ا،ك مأجور على العطاء… مؤاخذ على الشح والبخل والمنع.
سابعاً: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الدعاء لمعطي الزكاة، فتارة يقول له: اللهم بارك فيه وفي إبله، وتارة يقول: اللهم صل عليه.
وكل ذلك تشجيع على العطاء، ودعوة للمنفقين بالحسنى، وكم يسى الغني والمعطي بدعوة الفقير له… أو دعوة الآخذ من ماله ليوصلها إلى غيره من ذوي الحاجات.
ثامناً: ولا محاباة في الزكاة، ويخطئ من يحابي بها قريباً، أو يبر بها صديقاً إلا أن يكون محتاجاًن ولا تجب عليه نفقته… فالزكاة حق واجب في المال لفئة محددة، تولى الرب سبحانه قسمتها على الأصناف الثمانية في كتاب الله. قال ابن القيم: ويجمعهم صنفان من الناس: أحدهما: من يأخذ لحاجة وهم الفقراء، والمساكين، وفي الرقاب، و ابن السبيل. والثاني: من يأخذ لمنفعة، وهم العاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغرمون لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجاً، ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له في الزكاة.
تاسعاً: والويل شديد لمعاني الزكاة، و العقوبة قد تعجل في الدنيا بحصول الكوارث أو محق البركة… ولو سلم من هذا فعذاب الآخرة أشد وأنكى، ومن يشك في وعد الله؟! وأي جسد يتحمل العذاب والله يقول: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة:34-35].
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار".
عباد الله: ما قيمة المال إذا انتهى بصاحبه إلى هذه النهاية المؤسفة، ومهما تنعم المرء بالمال في الحياة الدنيا، فليس ذلك يقارن بالجحيم والشقاء في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ..
هذا فضلاً عما تؤدي إليه الزكاة من بركة ونماء وتزكية وتطهير: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة: من الآية103].
وفي الحديث الذي رواه الحاكم وصححه، وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه – قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) [المؤمنون:1-4].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه.
الحمد لله تتوالى مننه ورحماته على العباد… وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل يوم هو في شأن، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اجتهد في طاعة ربه وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ليكون عبداً شكوراً… اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: وما أسرع الزمان… وبالأمس كنا نترقب هلال رمضان… واليوم نترقب دخول العشر الأواخر من الشهر.
عباد الله: ولا زال منادي الرحمن ينادي: أن هلموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
أيها المسلمون: والليالي القادمة غرة في جبين الدهر في فضلها، جاء في القرآن: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: من الآية 3-5].
وليلة القدر أمر المسلمون بتحريها في العشر الأواخر من رمضان… ألا وإن من الغبن أن يفرط المرء في ليال عشر يضمن فيها ليلة القدر…
لقد كان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذه العشر ما لا يجتهده في سواها، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنه تحكي لنا اجتهاده وتقول – كما في الحديث المتفق على صحته : - "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله" وفي رواية: "أحيا الليل، وأيقظه أهله، وجد، وشد المئزر".
واستنبط العلماء من سننه صلى الله عليه وسلم - في العشر - ألواناً من العبادة والاجتهاد.. ومن ذلك:
- إحياء الليل أو غالبه بالتهجد.
- إيقاظ الأهل للصلاة في ليالي هذه العشر.
- وكانوا يستحبون في هذه الليالي المباركة - ولا سيما التي ترجى فيها ليلة القدر - كانوا يستحبون التزين والتنظف والطيب، ولبس أحسن الثياب كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد، قال ابن جرير رحمه الله: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر.
وكان بعضهم يلبس ثوبين جديدين ويستجمر.
ومما يشرع في هذه الليالي: الاعتكاف، وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله.
وفي رواية للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان الام الذي قبض فيه اعتكف عشرين.
كم في الاعتكاف من خلوة مع الله، وانقطاع عن مشاغل الدنياوصوارف الحياة؟ وما أحوج النفوس في مثل هذا الزمان إلى سويعات يخول فيها العبد بخالقه، ويجرد نفسه من أطماع الدنيا وفتنة المال والأهل والولد، وفي معتكفه يمارس أنواع الطاعا من صلاة، وذكر، وتلاوة، وتفكر،ويتطلع إلى الجنان وحورها وأنهارها، ويستعيذ بربه خاشعاً خائفاً من النار وسلاسلها وزوقومها..
أما الاجتماع في المعتكف والسمر على أحاديث الدنيا، وجعله فرصة للخلوة ببعض الأصحاب وتاذب أطراف الحديث معهم بعيداً عن الذكر والتلاوة والصلاة فما هذا بالاعتكاف المشروع، بل اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم لون، وهذا لون آخر.
عباد الله: تتوفر فرص الاعتكاف في هذا الزمان - فالبيوت قريبة من المساجد، وعدد من البيوت فيها من الولد من يقوم بشؤون أهله فترة اعتكاف الأب... أو يكون الولد مكفياً عن شؤون أهله بأبيه أو إخوانه الآخرين، والبعض ليس لديه من مشاغل الدنيا ما يمنعه - شرعاً - من الاعتكاف... ومع ذلك يقل العمل بهذه السنة النبوية، ويرحم الله الزهري إذ قال في زمانه: عجباً للمسلمين، تركوا الاعتكاف مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه اله، ولربما تهيب البعض في البداية... ولو أقدم لوجد السهولة والسعادة، ومن يتق الله يجعل لـه مخرجاً.
ويبدأ المعتكف من بعد غروب شمس اليوم العشرين، أو من فجر الواحد والعشرين، وينتهي بعد غروب شمس ليلة العيد.
أيها المسلمون: والدعاء مشروع في كل حين... ولكنه في هذه الأيام والليالي أبلغ وأسمع، سواء كان المسلم معتكفاً أو غير معتكف، ولا سيما في الليالي التي يتحرى فيها ليلة القدر، قال سفيان الثوري رحمه الله: الدعاء في تلك الليلة أحب إلي من الصلاة، ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن قرأ ودعا كان حسناً.
وليس يخفى أن فضل الله واسع، وهو جواد كريم، وحري بالمسلم أن يسأل من خيري الدنيا والآخرة، لـه ولأقاربه ولعموم المسلمين. ومما ورد النص عليه في هذه الليالي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"، وهنا لطيفة نبه إليا بعض العلماء في حكمة سؤال العفو بعد الاجتهاد في الأعمال، قالوا: لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملاً صالحاً، ولا حالاً ولا مقالاً، فيرجعون إلى سؤال العفو كحال المذنب المقصر.
إخوة الإيمان: والأعمال الصالحة عموماً - وفي هذه العشر خصوصاً - أكثر من أن تحصر... إنها لرحمة من رحمات الله وفضله على هذه الأمة، إذ هيأ لها مثل هذه الفرص... التي يبارك الله فيها لهم بالأعمال والأعمار... وحين قصرت أعمار هذه الأمة عن الأمم السابقة عوضها الله بمثل ليلة القدر التي يعدل العمل فيها، بل هو خير من عمل ثلاث وثمانين سنة، فلا تحرم نفسك يا أخا الإسلام هذه الفرصة - ولا يقعد بك الكسل أو تستجب لنزعات الشيطان، بل قم مع القائمين، وشارك المسلمين في دعواتهم وخشوعهم، وأسال ربك القبول فلا تدري أتشهدها في عام قابل أم تكون في عداد الموتى؟
اللهم لا تحرمنا فضلك، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتقبل منا ومن إخواننا المسلمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي