أذية المسلمين

سليمان بن حمد العودة
عناصر الخطبة
  1. حرمة أذية المسلم .
  2. أنواع الإيذاء .
  3. كيفية التعامل مع المؤذي .

اقتباس

ومظاهر الأذية للمسلمين لا تقف عند حد الاعتداء على الأعراض - مع خطورتها وعظيم جرمها، وقبح آثارها - فهناك مظاهر أخرى للأذى ومنها أذية المسلمين في بيوتهم كمعاكسات الهاتفية، وكمن يتصل هاتفياً في ساعات محرجة، فإذا فزع أهل البيت وأجابوا النداء وإذا بالسماعة تغلق في وجوههم، ولربما أصابوا دعوة فتحت لها أبواب السماء... فهل هذا من خلق الإسلام ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره.

إخوة الإسلام: يشيع الإسلام المحبة بين المسلمين، وتوثق شرائعه روابط الود بين المؤمنين، وتنهى تعاليمه عن كل ما يخل بتآلفهم وصفاء نفوسهم، ولكن الشيطان قاعد للإنسان بأطرقه كلها ينزغ، ويوسوس، ويؤز، ويؤلب، وينصب رايته في الإفساد هنا وهناك، ولئن كان كيد الشيطان ضعيفاً، فما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين، وقليل من عباد الله الشكور.

إن أذية المسلم بأي شكل كانت، وبأي وسيلة تمت، هي من نزغات الشيطان، وهي استجابة يضعف فيها الإنسان، وينسى فيها أو يتناسى رقابة الرحمان، وهي بلاء يبلى بها بعض الناس، ويبتلي الله بها آخرين.

وإذا كانت أذية الذمي (غير المسلم) منهياً عنها في شريعة الإسلام، فما الظن بأذية المسلم لأخيه في الإسلام؟ جاء في الخبر: "من آذى ذمياً فأنا خصمه يوم القيامة".

أما أذية المؤمن فقد عظم الله أمرها، ورتب العقوبة عليها فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) [الأحزاب:58]، والمعنى -كما قال ابن كثير رحمه الله: "أي ينسبون إليهم ما هم براء منه، لم يعملوه ولم يفعلوه، ثم ساق الخبر عن عائشة رضي الله عنه، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أي الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم، ثم قرأ: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)" [الأحزاب: 58].

لقد أعلنها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم صريحة مجلجلة: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه"، بل صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه صعد المنبر فنادى بصوت رفيع قال: "يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله".

وفي صحيح سنن الترمذي أن ابن عمر نظر يوماً إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: "ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك".

أيها المسلمون: ما أحوجنا إلى هذا الفهم لقيمة أعراض المسلمين وحرماتهم... ومن لم يخش عقوبة الآخرة فلينتظر عقوبة معجلة في الدنيا، فيفضحه الله في جوف رحله، نسأل الله السلامة والعافية؟

قالت أعرابية توصي ولدها: "إياك والتعرض للعيوب فتتخذ غرضاً، وخليق ألا يثبت الغرض على كثرة السهام، وقلما اعتورت السهام غرضاً حتى يهي ما اشتد من قوته".
وقال الأحنف بن قيس، رحمه الله: "من أسرع إلى الناس فيما يكروهون قالوا فيه ما لا يعلمون".

ومن دعا الناس إلى ذمة *** ذموه بالحق وبالباطل

إنها أخلاق السوء -نعوذ بالله منها- تجر أصحابها إلى الإساءة للآخرين إن بحق أو بباطل... وتسري آثارهم المدمرة لتدمر ما حولها، ثم تعود لتدمر نفسها في النهاية، وكذا تفرق النميمة بين الأحبة، وتفرق الأمة المجتمعة.

من نم في الناس لم تؤمن عقاربه *** على الصديق ولم تؤمن أفاعيه
كالسيل بالليل لا يدري به أحد *** من أين جاء ولا من أين يأتيه
فالويل للعهد منه كيف ينقضه *** والويل للود منه كيف يفنيه

يا عباد الله: إياكم والسخرية بالآخرين، والتجسس عليهم، وسوء الظن بهم، فذاك من الأذى المنهي عنه في كتاب الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات: 11-12].

أيها المسلمون: ومظاهر الأذية للمسلمين لا تقف عند حد الاعتداء على الأعراض - مع خطورتها وعظيم جرمها، وقبح آثارها - فهناك مظاهر أخرى للأذى ومنها أذية المسلمين في بيوتهم كمعاكسات الهاتفية، وكمن يتصل هاتفياً في ساعات محرجة، فإذا فزع أهل البيت وأجابوا النداء وإذا بالسماعة تغلق في وجوههم، ولربما أصابوا دعوة فتحت لها أبواب السماء... فهل هذا من خلق الإسلام، أم هو نوع من الأذى؟

وفي (أدب الهاتف) قال فضيلة الشيخ بكر أبو زيد عن هذه الاتصالات والمعاكسات: "فهذا وايم الله حرام حرام وإثم وجناح، وفاعله حري بالعقوبة، فيخشى أن تنزل به عقوبة تلوث وجه كرامته".

وقد تكون الأذية للمسلمين في الشوارع والطرقات، فالقيادة المتهورة، وحركات التفحيط البهلوانية، ورفع أصوات الغناء عند الإشارات المرورية -دون ذوق أو حياء أو تقدير لمشاعر الآخرين- كل ذلك أذية للمسلمين.

كما أن من الأذية للمؤمنين والمؤمنات الجلوس في الطرقات للنظر في النساء، أو تصيد الشباب الحسان، أو التعرض للفتيات حين خروجهن من مدارسهن، ومن قدر له الجلوس في الطرقات لغرض صحيح فلا بد أن يعطي الطريق حقه.

والمماطلة في أداء الحقوق المستحقة نوع من الأذية، ويبلغ الأذى مبلغه بقتل النفس المعصومة بغير حق.

عباد الله: وقد يتحول الأذى إلى المسلمين في مساجدهم، كمن جاء للمسجد وفي فمه رائحة كريهة من ثوم أو بصل أو كراث أو دخان أو نحوها... أو في بدنه أو في ملبسه ما يستنكر ويستقذر وهو قادر على إزالته، ودعوة القرآن: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد) [الأعراف: 31]، والذين يحضرون أطفالاً يلعبون في المسجد ويزعجون ويشغلون المسلمين عن عبادتهم وخشوعهم، يؤذون المسلمين وإن كان قنصدهم حسناً، والذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ليصل إلى مكان متقدم مع تأخره في المجيء يؤذي، وكذا أن يحضر أطفاله فيتحدون والإمام يخطب يؤذي الآخرين ويشوش عليهم. فتنبهوا معاشر المسلمين لهذا كله.

أيها المسلمون: وثمة أذية للمسلمين في الأماكن والمحافل العامة، كمن يشرب الدخان في أماكن التدخين ممنوع فيها، أو يجاهر بمعصية ليستفز المشاعر، أو يطلق عبارات لا زمام لها ولا خطام حين يقدر له الحديث نيابة عن الآخرين، والله يقول: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام: 152] ويقول: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الاسراء:53].

اللهم جنبنا الزلل في القول والفعل، واصرفنا واصرف عنا الأذى، وعن إخواننا المسلمين.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، فرق بين الناس في أخلاقهم وتعاملهم، كما فرق بينهم في أشكالهم وأرزاقهم، فجعل منهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، وجعل آخرين بضدهم، وهو العليم الحكيم.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما أمر بحسن عبادته، أمر بالإحسان إلى خلقه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال للناس يوم الحج الأكبر - فيما قال: "إلا إن المسلم أخو المسلم، فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه...".اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

عباد الله: وأذية الجار لجاره نوع من الأذي المنهي عنه، فللجار المسلم حق الجوار، إضافة إلى حق إخوة الإسلام، وسواء كان ذلك بإسماعه ما يكره، أو تتبع عوراته، أو إفشاء أسراره، أو تخوينه فيما هو مؤتمن عليه، وبالجملة فـ"لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" رواه مسلم عن أبي هريرة: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره..." رواه أحمد واتفق عليه الشيخان وغيرهم.

ألا احذروا الأذية للخدم والسائقين، والعمالة المستقدمة المكفولين، واعلموا أن أذيتكم لهم تحفر في قلوبهم الكره لكم ولدينكم وإن كنتم لا تشعرون، واجعلوا من هؤلاء سفراء لبلادكم ودعاة إلى الله في بلادهم بحسن تعاملكم وطيب أخلاقكم، "ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"، "ومن سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"، "ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق".

أيها المسلمون: وإذ عرفنا حرمة أعراض المسلمين، وليس أقل منه دماؤهم وأموالهم، وألمحنا إلى أنواع من الأذى - ينبغي أن يترفع عنها. فما موقف المؤذى ممن تعرض له بالأذى؟
لا بد له من الصبر، والصبر على ما يصيب المسلم من عزم الأمور، ولا بد من احتساب الأجر، والثقة بعدل الله وجزائه إن في الدنيا، أو في الآخرة وهو أعظم وأبقى.

ولا بد من الحلم مع من يؤذي، وعدم مجاراة الجهول بجهله، وقد قيل:

إذ أنا كافيت الجهول بفعله *** فهل أنا إلا مثله إذ أحاوره
ولكن إذا ما طاش بالجهل طائش *** علي فإني بالتحلم قاهره

قال آخر:

احفظ لسانك إن لقيت مشاتماً *** لا تجرين مع اللئيم إذا جرى
من يشتري عرض اللئيم بعرضه *** يحوي الندامة حين يقبض ما اشترى

ومن الأمور التي تحسن بمن أوذي: تجاهل المؤذين حتى لا يضيع الوقت سدى في الهراش معه، وحتى لا يشيع ذكره، وقد يكون تجاهله أقصر الطرق لسقوطه ونهايته وأخمل لذكره، وكم هو جميل قول القائل:

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فمضيت ثمة قلت لا يعنيني

وأجمل من ذلك ألا يحمل الحق أو الاشتغال بمعايب من آذاه، بل يدفع عنه على حد قول القائل:

إذا قدحوا لي نار حرب بزندهم *** قدحت لهم في كل مكرمة زندا
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً
ولا أحمل الحقد القديم عليهم *** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

لا شك أن هذه مرتبة علية لا يستطيعها إلا عظماء الناس؟

إخوة الإيمان: وعلى من أوذي ثم اعتذر إليه أن يقبل العذر، سواء كان المعتذر صادقاً أم كاذباً، وفي هذا روي الحديث: "من اعتذر إليه أخوه بمعذرة فلم يقبلها، كان عليه من الخطيئة مثل صاحب مكس".

والحديث وإن ضعفه العلماء فقد قالوا بقبول عذر المعتذر، قال أبو حاتم بن حبان:

"ولا يخلو المعتذر في اعتذاره من إحدى حالتين: إما أن يكون صادقاً في اعتذاره، أو كاذباً، فإن كان صادقاً فقد استحق الغفران، لأن شر الناس من لم يقل العثرات ولا يستر الزلات، وإن كان كاذباً فالواجب على المرء إذا علم من المعتذر إثم الكذب وريبته، وخضوع الاعتذار وذلته، ألا يعاقبه على الذنب السالف، بل يشكر له الإحسان المحدث الذي جاءه في اعتذاره، وليس يعيب على المعتذر إن ذل وخضع في اعتذاره إلى أخيه، وأنشد بعضهم:

أليس الله يستعفى فيعفو *** وقد ملك العقوبة والثوابا

أيها المؤذي: ومن كمال عقلك وصلاح دينك ودنياك أن تتخذ من نيل الآخرين لك فرصة لإصلاح عيوبك وتسديد نقصك، فلا يستعان على العدو بمثل إصلاح العيوب، وتحصين العورات، فلا تتضايق من كل نقد يوجه إليك وإن كان فيه حق، وليكن سبيلك من قال: "رحم الله من أهدى إلي عيوبي".

يا أخا الإسلام: إياك والأذى لعباد الله بأي نوع من الأذى، فأعراض المسلمين كالميتة، ولحوم العلماء مسمومة، وليس يخفاك أن الله يعفو ويصلح ويغفر، أما الخلق فستطلب حقها منك في يوم لا تملك فيه إرضاءهم بالدرهم والدينار فيؤخذ لهم من حسناتك، فإن فنيت قبل قضاء حقوقهم أخذ من سيئاتهم فطرحت عليك ثم طرحت في النار، وذلك منتهى الخزي والخسران، كن عنصراً نافعاً في المجتمع تجمع وتؤلف وتصلح، ولا تفرق وتفسد، وما بالأمة المسلمة حاجة لمزيد الفرقة، وحاجتها إلى الألفة والوحدة والتعاون على الخير ودفع الشرور لا تقل عن حاجتها إلى الطعام والشراب، اللهم اجمع شمل المسلمين، ووحد كلمتهم على الهدى والدين، اللهم اقطع دابر المفسدين، اللهم لا تشمت بنا عدواً ولا حاسداً ..
 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي