ما نوع تفكيرك في الآخرة، وما مقدار جديتك في السعي لها، وهل تستثمر الفرص وتفرح بالمناسبات التي تصلك بفضل الله ورحمته، وتشرع فيها أبواب الجنة وتغلق أبواب النار... قد تكون الإجابة بالإيجاب... ولكن السلوك العملي هو الذي يحدد الدقة في الإجابة، ويحكم بصدق المتحدث أو كذبه ..
الحمد لله رب العالمين، يقلب الليل والنهار، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لـه، بتقديره تنصرم لاشهور والأعوام، وتفنى الأمم وتعقبها أمم وأجيال، وهو وحده الحي القيوم، كل شيء هالك إلا وجهه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله... كان عمره قصيراً، ولكن حياته كانت مليئة بالجهاد والدعوة و العلم والعمل، والبر والإحسان، وكريم الخصال والأخلاق، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
أيها المسلم والمسلمة: ما نوع تفكيرك في الآخرة، وما مقدار جديتك في السعي لها، وهل تستثمر الفرص وتفرح بالمناسبات التي تصلك بفضل الله ورحمته، وتشرع فيها أبواب الجنة وتغلق أبواب النار... قد تكون الإجابة بالإيجاب... ولكن السلوك العملي هو الذي يحدد الدقة في الإجابة، ويحكم بصدق المتحدث أو كذبه.
قف مع نفسك وقفة صادقة، وتأمل في الدنيا وقصرها، وما في الآخرة من نعيم أو جحيم يطول أمده، ويشتد الفرح أو الحزن له... ودعك من غرور الأماني، وتمثل موقف إبراهيم التميمي رحمه الله، قال سفيان بن عيينة رحمه الله قال إبراهيم التيمي: "مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها، ثم مثلت نفسي في النار، آكل من زقومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلها وأغلالها، فقلت لنفسي: أي شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أرد إلى الدنيا، فأعمل صالحاً، قال: قلت: فأنت في الأمنية فاعملي".
يا عبدالله: وحين يقترب شهر الصيام، ويتنافس الصالحون في الطاعات والقربات أدعوك – لتحفيز همتك للخير – إلى زيارات ثلاث، وما لم تستطع زيارته ببدنك فزره على الأقل بخيالك ومشاعرك.
أما الموقع الأول: فهو المقابر، حيث القبور والموتى والرهبة والخشوع... وحين تسلم عليهم وتدعو لهم – سلهم قائلاً: ها نحن في أواخر شعبان، وننتظر شهر رمضان، فما أمانيكم لو عدتم إلى الدنيا هذه الأيام؟ ولا تنتظر منهم إجابة فإنك لا تسمع الموتى وما أنت بمسمع من في القبور؟ ولكن أحداً منهم لو استطاع الإجابة لقال: أما نحن فقد انقطع أملنا في الرجوع إلى الدنيا... ونحن الآن مرتهنون بما سبق وإن عملنا، وبما خلفنا من ولد صالح، أو علم ينتفع به، أو صدقة جارية لنا...
ولكن، أنتم معاشر الأحياء: كم لله عليكم من فضل حين يبلغكم شهر الصيام والقيام فتصومون، وتقومون، وتتصدقون، وتذكرون، وتدعون، وتستغفرون، وتسبحون، إلى غير ذلك من قربات تضاعف فيها الحسنات، وتزيد المضاعفة في شهر الصيام... وقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ووددنا لو ازددنا فما وجدنا غير عمل الصالحات بقي لنا يؤنس وحشتنا، ويرفع درجاتنا..
وكم يغبن بعضكم –معاشر الأحياء– حين لا يستثمر فرص الطاعة، ولو عرف هؤلاء ما نحن فيه لاختلف سعيهم و تحركت هممهم. ثم قف أيها الزائر متأملاُ في الحفر والقبور، وما تخفيه من أسرار، وما بين أصحابها من تفاوت في المنازل وإن كانوا في القبور سواء، وتصور وكأنك لحقت بهم غداً، فماذا سيكون حالك بينهم... ثم لا تخرج إلا وقد سألت لهم الغفران، وسلهم بدعاء المسلمين لهم، ولا سيما في شهر الصيام والقيام الدعاء... وقبل أن تخرج عاهد نفسك على أن تختار لها أحسن المساكن بينهم، فلا مناص لك عن سكنى هذه الدار، وثمن تلك الدار ليس بالدرهم والدينار... لكنه بعمل الصالحات... واجعل من رمضان فرصة لإحكام البناء، توسيع المسكن، وحبور الدار، واختم ذلك بالدعاء الصادق: اللهم بلغني رمضان وأعني على الصيام والقيام.
أيها المسلم والمسلمة: أما الموقع الثاني الذي أدعوكم لزيارته، فالمستشفيات العامة حيث يرقد على أسرتها البيضاء جموع من المرضى يختلفون في شكواهم... وقد يتفقون أو يتفاوتون في آلامهم... لكن أحداً من هؤلاء المعنيين بالزيارة -لا يستطيع الخروج- على الأقل في شهر رمضان... وأقصد أصحاب الهمم منهم، وسلهم عن مشاعرهم حين يدخل شهر الصيام، ولا تستغرب إن أجابتك العيون بالدموع قبل الألسنة بالكلام، أسفاً على عدم قدرتهم على الصيام، ومشاركة المسلمين في القيام، وحين لا تنس هؤلاء من دعوة بالشفاء العاجل وتعظيم الأجر على المرض والبلوى، فلا تنس كذلك أن تسليهم بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً"، وقبل أن تخرج من زيارة المريض تذكر نعمة الله عليك بالصحة والعافية، واعلم أنك مغبون فيها أو مغبوط.
مغبون إن فرطت وأضعت الوقت بما لا ينفع... ومغبوط إن استخدمت الصحة واستثمرتها في طاعة الله... ولئن كان هناك من يعيشون مع الأحياء الأصحاء وهم في عداد الموتى... فهناك من يعيشون مع الأصحاء وهم في عداد المرضى... وموتى الأحياء، أو مرضى الأصحاء في رمضان – هم من يدخل عليهم الشهر ويخرج ولم تتحرك هممهم للخير، ولم تنشط أنفسهم للطاعة، قعد بهم الشيطان عن مشاركة المسلمين في قيامهم ودعائهم، ولربما قعد ببعضهم عن الصلاة المفروضة، والصيام الواجب وهم أصحاء أقوياء!! وصدق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".
ألا فاغتنم الفرص يا عبدالله: وخذ من صحتك لمرضك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن حياتك لموتك... وشهر رمضان يستحق أن تستثمر فيه الصحة والفراغ، ومن يدري، فقد يأتي عليك رمضان بعد وأنت طريح الفراش فتتمنى لو كنت صحيحاً معافى... فها أنت كذلك، فماذا أنت صانع.
أيها المسلمون: أما الزيارة الثالثة فإلى أحد مواقع المسلمين المضطهدين في الجهاد... حيث يحاصرون ويطاردون عن ديارهم... قاذفات الطائرات من السماء، ورصاص المدفعيات من الأرض... وبين نيران السماء والأرض، شدة الجوع حيث يقل الطعام، وشدة البرد حين تتساقط الثلوج في الشتاء، ومع ذلك كله يلف أهل تلك الديار الخوف، ويحيط بهم القلق، ففي كل يوم يفقدون أباً أو ابناً أو يشهدون رضيعاً يتضور جوعاً... أو امرأة ينتهك عرضها -وهكذا من صور المآسي والآلام- وهل بإمكان هؤلاء أن يصوموا أو يقوموا أو يتفرغوا لتلاوة القرآن... أو يتنفسوا عبير شهر الصيام... فإذا تصورت حال هؤلاء في شهر الصيام فأدركهم بصدقة قد تنقذ بها نفساً... وبدعوة صادقة قد يفرج الله بها كرباً... وعد إلى نفسك وأنت آمن في سربك ومعافى في بلدك وبدنك وقل: يا نفس ها قد حل شهر الصيام واقترب، فكوني في قائمة المسارعين للخيرات، والمتسابقين لصنوف الطاعات، وسل ربك العاقبة، وفي حندس الظلام وحين تسجد لله سل لإخوانك المسلمين الخلاص من المحن والنصر على الأعداء... فرمضان شهر الدعاء، كما هو شهر المواساة والصدقات، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة:185].
الخطبة الثانية
الحمد لله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفق من شاء لطاعته، وهدى أولياءها لاستثمار مواسم الخيرات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أمر بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل حلول الفتن والأسقام أو نحوها من الصوارف والشواغل، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
عباد الله: بم نستقبل رمضان؟ هنا تتفاوت الهمم، وتختلف الإجابة على صعيد الواقع وإن اتفق الناس في الكلام والأماني، ودعونا نتواصى بالصبر والحق -فتلك من علامات المؤمنين- ونتذاكر في عدد من الأمور نستقبل بها هذا الضيف الكريم.
فنستقبله أولاً بالفرح والبشرى، فهو من فضل الله ورحمته علينا، والله يقول: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:58].
بشرى العوالم أن أتيت يا رمضان هتفت بك الأرجاء والأكوان
لك في السماء كواكب وصاءة ولك النفوس المؤمنات مكان
ونستقبله –ثانياً–: بالعزيمة على عمل الطاعات، ثم نتبع ذلك بالمسارعة للخيرات، فرمضان موسم للهدى والخير والبركات، وميدان رحب للتسابق في عمل الصالحات.
ونستقبله بالتوبة النصوح من الذنوب والأخطاء، وفتح صفحات أكثر إشراقاً وقرباً إلى الله... وأنت –أيها المسلم والمسلمة– واجد لك في هذا الشهر عوناً على التوبة والإنابة، فالصيام يورث التقوى، ويردع عن الفواحش، ويكسر شهوة البطن والفرج، ومردة الشياطين تصفد، وأبواب الجنة تفتح، وأبواب النار تغلق – وكل ذلك من دواعي التوبة ومعين عليها، ومحروم من دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له "رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له".
ونستقبله، بل نبدأ الصيام والقيام، بالإخلاص لله ورجاء مثوبته.. فالإيمان والاحتساب شرطان للمغفرة للصائمين والقائمين، وفي الحديث المتفق على صحته: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"،:"ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
ونستقبله ونتواصى فيه على الجود وزيادة المعروف والإحسان، وفي رسول الله أسوة حسنة، وكان أجود ما يكون في رمضان، ووصف جوده -حين يلقاه جبريل في رمضان- بأنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة.
معاشر الأئمة: واستقبلوا رمضان بحث جماعتكم على الخير، وبحسن تلاوة كتاب الله حين تؤمون المسلمين، وترغيب الناس في التراويح والقيام، ومراعاة أحوال الناس قدر الإمكان، وبما لا يخل بواجب، أو يفوت سنة، واختاروا الكتاب المناسب للقراءة، والموضوعات المفيدة للحديث للجر والمرأة، والصغير والكبير، والخير والراغب في الهداية، ومن الخير أن يكون هذا الإعداد سابقاً لدخول رمضان.
أيها الأخيار في كل حي: وجميل منكم أن تساهموا مع الأئمة وجماعة المسجد على كل خير، لا سيما وجموع من المصلين تفد إلى المساجد في شهر رمضان، فرحبوا جميعاً بمقدمهم، وتعاونوا مع الأئمة على أسباب انقاع من ينقطع بعد منهم، تفقدوا المحاجين.
أيها المحاضرون والمتحدثون-: وأنتم خليقون أن تختاروا الكلمة المناسبة في رمضان، وأن تجتهدوا في التحضير الإعداد، وتجددوا في أساليب طرحكم، وتعيشوا هموم الناس، وتجيبوا على تساؤلاتهم. فليس المهم أن تتاح الفرصة للحديث فحسب، بل وبماذا وعن أي شيء تتحدثون!
أيها الأغنياء: واجتهدوا في إحصاء زكاة أموالكم، وأخرجوها راضية بها أنفسكم، وتحققوا في المحتاجين، وليكن للمجاهدين واللاجئين والمنكوبين في العالم الإسلامي نصيب من زكاتكم وصدقاتكم.
أيتها المرأة: وإن أخطأت بعض النساء فاستقبلت رمضان بأنواع المآكل والمشارب، أو بالخروج وكثرة التردد على الأسواق، أو بطول النوم، أو الحديث في الغيبة والنميمة، أو سماع المحرم، أو نحو ذلك مما يحرم على المسلم، ويخدش الصيام، فلا تقعي أنت في شيء من هذا، ونبهي أخواتك المسلمات... فالنساء شقائق الرجال، ورمضان فرصة للمسارعة للخيرات للرجال والنساء، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
أيها المسلمون: لا تستقبلوا رمضان بصوم يوم قبله تحوطاً إذ لا يجوز صيام يوم الشك، وإذا ثبت دخول الشهر فلا بد من تبييت النية للصوم الواجب، وذلك في القلب، والتلفظ بها بدعة، ولا تشترط النية لصوم النفل، وإذا كانت نوافل الصلاة تجبر مما في الفرائض من خلل فكذلك صيام النفل... هذا فضلاً عما فيها من رفعة الدرجات وتكفير السيئات – ومن صيام النفل الصيام في شهر شعبان، وفي الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنه قالت: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من شهر أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله"، وفي رواية: "كان يصوم شعبان إلا قليلاً"، ومن لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك بقية يومه، وعليه القضاء عند جمهور العلماء. ومن قاتل عدواً وأحاط العدو ببلده، والصوم يضعفه عن القتل، ساغ له الفطر ولو بدون سفر، وكذلك لو احتاج للفطر قبل القتال أفطر.
اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً يا رب العالمين، اللهم أهل رمضان علينا وعلى المسلمين بالخير واليمن والبركات...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي