كان الليلُ في زمنٍ مضى ميدانَ سَبْق، ومطيةَ مجد، ومضمار صدق وجد، لا ترى فيه إلا مصليًا أو باكيًا أو تاليًا أو داعيًا؛ وكان السلف رحمهم الله تعالى يرونه أعظم مَطِيَّة، إلى الجنة العليَّة؛ أما اليوم فقد أصبح الليل لدى كثير من النَّاسِ لَحَظَاتِ طَيْش، وضلالِ عيش، وصار السَّهَرُ اليوم في الأعَمِّ الأغلب مَنْبَعَاً للمعارّ، ومَجْمَعَاً للأخطار، وطريقًا للمهالك والمضارِّ ..
أما بعد: فاتَّقُوا الله عباد الله، فتقوى اللهِ وصيةُ اللهِ للأولين والآخِرين، وهي مُسْتَمْسَكُ الصالحين، وسبيل النجاة في الدنيا ويومِ الدين.
عباد الله: إن في تقلُّب الليالي والأيام، وفصول السنة والأعوام، وفي تناوب الضياء والظلام، وتبدّل الحرارة والبرودة، وطلوع الشمس وأفولها، وولادة القمر واحتضاره، وغيرها من المظاهر الكونية، والتغيرات المناخية والجوية، عبرة لنا أي عبر، (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ) [النور:44].
وإنَّ من العِبَر والآيات والمنن والأعطيات أن جعل الله النوم سباتًا للناس، وجعل الليل لهم خيرَ سكَنٍ ولِباسٍ، يقول الملك المنَّان في معرض الامتنان: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً) [النبأ:9-10]، ويقول في ذكر الإنعام في سورة الأنْعَام: (وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام:96].
ليلٌ تهدأ به الأنفاس، وتسكن فيه الأعضاء والحواس، وتحصل فيه الراحة والإيناس، جعله الله برحمته وفضله وقت منام، ودعة وإجمام، وهدوء عام، (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص:73].
وهو مِنَّةٌ من الله أمَرَ العباد أن يشكروه عليها: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) [غافر:61].
وهو زمن التعبد، النافلة فيه أفضل من نافلة النهار، قال -عليه الصلاة والسلام-: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" رواه مسلم، وتعلُّق القلوب فيه بالله أرجَى، فأمَر اللهُ رسولَه بالإكثار من الصلاة والتسبيح فيه: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) [المزمل:2]، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) [الإنسان:26]، واقتفى الصالحون أثره فــ (كَانُوا قَلِيلَاً مِنَ الليْلِ مَا يَهْجَعُونَ) [الذاريات:17].
وفيه صلاة الوتر، والله وِتْرٌ يحب الوتر، وصلاة آخر الليل مشهودة، و "مَن صلَّى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلَّى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله"، "وفي الليل ساعةٌ مِن مَغِيبِ الشمس لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" رواه مسلم.
أيها الأحبة: كان الليلُ في زمن مضى ميدانَ سَبْق، ومطيةَ مجد، ومضمار صدق وجد، لا ترى فيه إلا مصليًا أو باكيًا أو تاليًا أو داعيًا؛ وكان السلف -رحمهم الله تعالى- يرونه أعظم مَطِيَّة، إلى الجنة العليَّة؛ أما اليوم فقد أصبح الليل لدى كثير من الناس لحظات طيش، وضلال عيش، وصار السَّهَرُ اليوم في الأعم الأغلب مَنْبَعَاً للمعارّ، ومَجْمَعَاً للأخطار، وطريقًا للمهالك والمضار.
تعالوا بنا -أيها الأحبة- إلى بيت النبوة، لنقف على المنهج السَّنِيّ، والهدي النبوي، فنقتفي ونقتدي بسنة النبي محمد؛ تقول عائشة -رضي الله عنها-: ما نام رسول الله قبل العشاء، ولا سمر بعدها. أخرجه ابن ماجه.
وحين سمعت -رضي الله عنها- عروة يتحدث بعد العشاء قالت: ما هذا الحديث بعد العتمة؟! ما رأيتُ رسولَ الله راقدًا قطُّ قبلَها، ولا متحدِّثَاً بعدها، إما مصليًا فيغنم أو راقدًا فيسلم. أخرجه عبد الرزاق.
وعن الأسود قال: سألت عائشة -رضي الله عنها-: كيف كانت صلاة النبي؟ قالت: كان ينام أول الليل، ويقوم آخره. متفق عليه. هكذا كان ليلُه -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه-، فأين الاهتداء والاقتداء؟.
إن النوم في أول الليل فيه خيرات وبركات، وهو نعمة من نعم الله الجسيمة يحتاجه الغني والفقير، وبفضلٍ من الله جعله يسيرا في كل مكان، ويناله كل مخلوق بلا ثمن، تغمض العينان فترتفع الروح، فينال الجسد الراحة والسكون، قال -عز وجل-: (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً) [النبأ:9].
وهو من آيات الله العظيمة الدالة على قوته وجبروته، قال -جلَّ شأنه-: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [الروم:23]، يُميت البشر بالنوم، ثم يوقظهم متى شاء إذا شاء.
قضى الله أن تكون نَومة أهل الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، فكان ما شاء، وهو -سبحانه- حيٌّ قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل" رواه مسلم.
والشيطان يتخبَّطُ العبد في منامه، "مَن قرأ آية الكرسي قبل نومه لم يزل عليه من الله حافظ، ولم يقربه شيطان حتى يصبح" رواه البخاري.
والرؤيا الصالحة في المنام من الله، والحلم من الشيطان، "فمن رأى رؤيا صالحة فليحمد الله عليها، ولْيُحَدِّثْ بها مَن يحب، ومن رأى حلماً من الشيطان فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليتعوذ بالله م نشرها، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لا تضره" متفق عليه.
والنوم قسيم الموت، ويذكر به قال -تعالى-: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا) [الزمر:42]، وكم من نائم مات في نومته، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نومه: "إن أمسَكْتَ نفسي فارحمها" متفق عليه.
و"إذا نام العبد عقد الشيطان على قافيته ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد. فإذا استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان".
والاستيقاظ بعد النوم نعمة من الله تشكر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا من بعد ما أماتنا وإليه النشور".
ودعوة المستيقظ من الليل مع الذكر مستجابة، وصلاته مقبولة، قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَن تَعارَّ من الليل –أي استيقظ– فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وله الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا، إلا استجيب له، فإن توضأ وصلى قُبِلت صلاتُه" رواه البخاري.
ومَن نام ولم يستيقظ للصلاة حتى يصبح بال الشيطان في أذنه، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يُشوِّص فاه بالسواك، ومن استيقظ من نومه فليذكر الله، وليغسل يديه ثلاثاً، وليستنثر ثلاثاً؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه. هكذا كان هدْيُه -عليه الصلاة والسلام-.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يذم السهر، ويحذر منه، عن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- أن رسول الله كان يستحب أن يؤخر العشاء، وكان يكره النوم قبلها، والحديث بعدها. يقول الإمام النووي -رحمه الله-: واتفق العلماء على كراهة الحديث بعد العشاء إلا ما كان في خير.
أيها المسلمون، لقد استمرأ كثير من الناس السهر المحرم الذي أدى بأكثرهم إلى تضييع صلاة الفجر حتى خروجها عن وقتها، وصار الذين يشهدونها في جماعة المسلمين في المساجد أفرادًا معدودين محدودين، وأصبح هذا السهر أمرًا عاديًا وطبعيًا، لا تنكره أكثر القلوب، مع أنه قال: "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما من الرغائب لأتوهما ولو حبوًا" متفق عليه.
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق. أخرجه مسلم. فاتق الله يا عبد الله، وإياكَ والسمَرَ المذموم، والسهر المشؤوم! ولا تكن من الغافلين، (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَـانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ) [الأنعام:68].
أيها المسلمون: ساعات الأسحار، ساعات توبة واستغفار، وتضرع وانكسار، يقول -عليه الصلاة والسلام-: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟". متفق عليه.
ويقول -عليه الصلاة والسلام-: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر, فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله تعالى في تلك الساعة فَكُنْ" أخرجه الترمذي.
أفيليق بمسلم أن يقضي هذه الأوقات الجليلة مع المزامير والطنابير، وما يهيج الغرام، ويحرك سواكن الوجد والهيام؟.
أيها الأولياء والآباء: إنكم مأمورون بِكَفِّ صِبيانكم عن الخروج إذا أقبل جنح الليل بقوله: "إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم" متفق عليه.
أيها المسلمون: وإذا كان لشياطين الجن انتشارًا وانبعاثًا في تلك الساعة اقتضى كفَّ الصبيان وحبسهم؛ فإن لشياطين الإنس في هذا الزمان انتشارًا وانبعاثًا طوال ساعات الليل، يحاولون جر الشباب والأولاد وفلذات الأكباد إلى أوضار الانحراف والفساد، عبر مغريات وملهيات لا يحصرها حاصر، مما يوجب اليقظة والحيطة، فكونوا على حذر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، (يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّـادِقِينَ) [التوبة:119].
أيها المسلمون: إن مما يُذيب القلبَ كمدًا، ويعتصر له الفؤاد ألمًا، تجاوُزُ كثيرٍ من الناس المباح إلى غير المباح في الأعراس والأفراح، وعدم اكتفائهم بما شرعه الله لهم من إعلان النكاح، والتفريق بينه وبين السفاح، من الضرب بالدف والغناء، الذي ليس فيه دعوة ولا مدح محرم، للنساء خاصة، حيث تجاوزوا ذلك إلى سهر لا خير فيه، ولا تُحصى مساويه.
أفراحٌ تضج وتعج بالمخالفات والمنكرات، سفَهٌ وإضاعة للمال في قبيح الفعال، وإيذاء واعتداء ناتجان عن رفع الصوت بالغناء، وبذل طائش وإسراف فاحش في المآكل والمشارب التي لا يخفى مصيرها، وتنافسٌ محموم في غلاء مذموم في ثياب الأعراس.
ونساءٌ متبرجات يلبسن ثيابًا شفافة وضيقة ومجسِّمة وكاشفة وعارية وشبه عارية، ورقصات وإمالات كرقص العاهرات والكافرات، واستئجارٌ للمغنين والمغنيات، والمطربين والمطربات وتصاوير بالجوالات والكاميرات، وربما حصل اختلاط للرجال بالنساء؛ فتنٌ مظلمة، وأمور مخجلة سرت إلى صفوف بعض المسلمين بطريق العدوى والتقليد الأعمى.
فاتقوا الله عباد الله، وانتهوا عما نهيتم، وكفوا واقصروا وسيروا على ما سار عليه الأسلاف؛ هَذَا، وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ التنزيل حَيْثُ قَالَ، عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا) [الأحزاب:56].
اللّهم صَل وَسَلّم على عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمّد، وعلى آلِه وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ، وارضَ اللّهُمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، وعن بقيةِ صحابة رسولِكَ أجْمَعينَ، وعَنِ التابعينَ وتابعيـهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين، وعنّا مَعَهُم بِرحمتـكَ يا أرْحم الراحمين.
اللهم أعِزّ الإسلامَ وانْصر المسلمين، وأذِلّ الشّركَ والْمُشْرِكينَ، وَدَمِّرْ أعداءَك أعداءَ الدّين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي