إنّ ما يحصل منكم من مراقبة دائمةٍ، ومتابعة مستمرّة للأولاد أيامَ الدراسة والامتحانات أمرٌ محمود، ولكن من الخطَأ العظيم أن تنفضوا أيديكم عن هذه المبادئ الخيِّرة، والمساعي الجميلة سائرَ أيامه، خاصة وقتَ الإجازة، فمِن مضامين رعاية الأمانة وجوبُ رعاية الأولاد، ولزومُ مراقبتهم في كلّ شأن، والحذرُ من ترك الحبل على الغارب لهم؛ حتى لا يقَعوا في أسباب الشرّ والفساد وسبُل الغيّ والضلال ..
الحمد لله المتوحد في الجلال بكمال الجمال، تعظيما وتكبيرًا، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال، تقديرًا وتدبيرًا، المتعالي بعظمته ومجده، الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمابعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها الأحبة: يعيش الوالدان والأولياء في ترقُّبٍ وحذَر، وَتَخَوُّفٍ وأمَل، ينتظرون على أحرّ من الجمر ما تؤول إليه نتيجة الأبناء في الامتحانات، وقد أُبرمت الوعود، وزُفَّت البشائر، بالهدايا القيمة، والرحلات الممتعة، إذا كانت النتائج مرضية مشرفة.
وأعلنت النتائج وستعلن، وبدأت الإجازة الصيفية الطويلة، تلك الإجازة التي ينتظرها ملايين الطلاب والطالبات من الأبناء والبنات؛ ليستريحوا من عناء السهر والمذاكرة، والذهاب يومياً إلى المدارس والمعاهد والجامعات.
نعم، لقد بدأت الإجازة، والله أعلم بما قضى الله فيها من الأقدار والأخبار، اللهُ أعلم كم فيها من رحمة تنتظر السعداء! وكم فيها من بلية ومصيبة تنتظر الأشقياء!.
وإذا كنا نتحدث عن الإجازة؛ فإننا نتحدث عن جزء من أعمارنا، ورصيد من أوقاتنا، ولعلي أذكِّر بأمور، فإن المؤمنين تنفعهم الذكرى.
أولا: مهمة الإنسان في هذه الحياة، فهي سر وجوده، ووسام عزه، وتاج شرفه، تلكم هي عبوديته لربه عز وجل، وتسخيره كلَّ ما أفاء الله عليه للقيام بها، وعدم الغفلة عنها طرفة عين، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَلإِنسَ إِلاَّلِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56].
فحيثما كان وحلَّ، وأينما وُجِد وارتحل، فإنه يضع العبودية لله شعاره، وطاعته لربه دثاره،.هذا هو منهج المسلم الصادق في إسلامه، القوي في إيمانه، لا تغيب عنه هذه الغاية طرفة عين في جميع أحيانه وأحواله، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ الْعَـالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162].
ثانيا: الوقت هو الحياة، مَن عمَّره فإنما يعمر حياته، ومن نقتله فإنما يقتل نفسه .ولأهمية الوقت؛ فإن الله سبحانه وتعالى أقسم به في أوائل سور كثيرة، (والعصر)، (والفجر)، (والضحى)، (والشمس وضحاها)، وغيرها من الآيات.
فالوقت هو ثمرة العمر طيبة كانت أوخبيثة، وفي هذا يقول ابن القيم -رحمه الله-: السَّنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل. ألا فليعلم ذلك من أهدروا أوقاتهم، وبدَّدوا أعمارهم، في غير مرضات مولاهم.
ثالثا : الفراغ، فهو نعمة من نعم الله، يجب شغله بكل وسيلة شرعية، وذلك بالقيام بالعبادة بمفهومها الواسع، أو على أقل تقدير بالأمور المباحة شرعًا دون ما هو محرم، ففيما أحلَّ الله غنية عمَّا حرَّم، وقد أرشد المولى نبيه بقوله سبحانه: (فَإِذَافَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [الشرح:7-8].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: أي: إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها، وقطعت علائقها، فانصب إلى العبادة، وقم إليها نشيطا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة. اهـ
الفراغ جرثومة فساد تنتشر وتستفحل في مجتمعات الشباب، فتحطم الجسد وتقتل الروح، الفراغ لص خابث، وقاطع عابث، وسارق خارب، أفسد أناساً، ودمر قلوباً، وسبب ضياعاً، وقد نبه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى غفلة الكثير عمَّا وُهِبوا من نعمة الفراغ والعافية، فقال: "نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ" رواه البخاري من حديث ابن عباس، قال ابن بطال: كثير من الناس، أي: أن الذي يوفق لذلك قليل. أهـ
ويقول: "اغتنم خمسًا قبل خمس"، وذكر منها: "وفراغك قبل شغلك" خرجه الإمام أحمد والبيهقي والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي. فكم كان الفراغ سببًا في الانحراف بكل ضروبه، والفساد بشتى صوره، عند عدم استثماره! فهو منَّة ونعماء، لكن إذا استُغِلَّ في معصية الله فهو نقمة وبلاء.
إن الفراغ المهدر سبب لتسلط الشيطان بالوساوس الفاسدة التي ينشأ عنها كثير من الانحرافات والمعاصي، فنفسك إن لم تشغلها بالحق والخير شغلتك بالباطل والشر.
رابعا: الترفيه البريء، والترويح المباح: إن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فبعد تعب وجهد وعناء تميل النفوس إلى التجديد والتنويع، وترنو إلى الترويح واللهو المباح؛ دفعاً للكآبة، ورفعاً للسآمة، ليعود الطالب بعدها إلى مقاعد الدراسة بهمة وقَّادة، ويرجع الموظف إلى عمله بعزيمة وثَّابة، ذلك أن القلوب إذا سئِمَتْ عَميت، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا" رواه البخاري ومسلم.
ويقول عليه الصلاة والسلام: "يا حنظلةُ! ساعة وساعة!"، فالإسلام دين السماحة، واليسر يساير فطرة الإنسان وحاجاته، فحين شاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- الحبشة يلعبون قال: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنفية سمحة" رواه أحمد.
فبعض الناس لا يرى في الحياة إلا الجد المرهق، والعمل المتواصل، وآخرون يرونها فرصة للمتعة المطلقة، والشهوة المتحررة، وتأتي النصوص الشرعية فيصلاً لا يشق له غبار، فيشعر بعدها هؤلاء وهؤلاء أن هذا الدين وسط، وأن التوازن في حياة المسلم مطلب، قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:77].
لكن يجب أن يكون كل ترفيه وترويح في حدود ما هو مباح شرعًا، فالإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروِّحوا عن أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم، وأن يقوموا بالوسائل المباحة في ذلك شرعًا.
أما أن يُستغَل ذلك فيما يضعف الإيمان، ويهزُّ العقيدة، ويخدش الفضيلة، ويوقع في الرذيلة، ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل والمبادئ، فلا وكلا، وإن رغمت أنوفُ أناسٍ، فقل: "يا ربِّ لا ترغِم سواها".
وبعد هذه الأمور الأربعة المهمة لعلنا نتذاكر أحوال الناس مع الإجازة، فهم على ثلاثة أصناف:
1/ قاتلون لأوقاتهم بسهام المعاصي، فتجد ليلهم على الأطباق الهوائية أو المقاهي الليلية، ونهارهم نوم عن الصلوات وهجر للجمع والجماعات، هذا إن قضوها في بلادهم وبين أهليهم، وإلا فلديار الإباحية يطيرون، وحول حماها يحومون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
2/ مستغلون لأوقاتهم، فتجد أوقاتهم بذكر الله معمورة، وبطلب العلم والدعوة إلى الله مشغولة، فبهم ينتصر الدين، فهم نجوم ليل الفتن التي ترمى بها الشياطين.
3/ مضيعون لأوقاتهم فيما لا فائدة فيه، على حساب إهمال أنفسهم، محرومون من الاستفادة منها فيما يعود عليهم بالنفع، فتنقضي الإجازة ورصيدهم العلمي والعملي كما هو قبل الإجازة، إن لم يكن اقل.
أخي المسلم: إن الإجازة جزء من عمرك، وحياتك ترصد فيها الأعمال، وتُسَجَّل فيها الأقوال، وأعلم أنك موقوف للحساب بين يدي ذي العزة والجلال، فإن الدنيا دار اختبار وبلاء، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسال عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ما له من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذاعمل به". واستشعار ذلك -عباد الله- يجعل للحياة قيمة أعلى، ومعانيَ أسمى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون:115]. أقول هذا هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولَكم ولِسائرِ المسلِمين مِن كلّ ذنبٍ، فاستَغفِروه، إنّه هوَ الغفور الرّحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لاَ إلهَ إلا الله وَحدَه لا شَريكَ لَه، إله الأولين والآخِرين، وأشهَد أنَّ سَيِّدَنا ونَبِيَّنا محَمّدًا عَبده ورسولُه أفضل الأنبياء والمرسَلين، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعَلَى آلِه وأصحابِه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واغتنَموا الأوقاتِ بالخيرات قبل الفوات.
أيها الآباء والأولياء: إنّ ما يحصل منكم من مراقبة دائمةٍ، ومتابعة مستمرّة للأولاد أيامَ الدراسة والامتحانات أمرٌ محمود؛ ولكن من الخطَأ العظيم أن تنفضوا أيديكم عن هذه المبادئ الخيِّرة، والمساعي الجميلة سائرَ أيامه، خاصة وقتَ الإجازة.
فمِن مضامين رعاية الأمانة وجوبُ رعاية الأولاد، ولزومُ مراقبتهم في كلّ شأن، والحذرُ من ترك الحبل على الغارب لهم؛ حتى لا يقَعوا في أسباب الشرّ والفساد، وسبُل الغيّ والضلال، لا سيما في مثل هذه الأزمان التي عمَّ فيها الشرّ، وكثرت فيها أسبابُ الفساد.
فربُّنا -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6]، ونبيُّنا يقول: "كلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهل بيته، وهو مسؤول عن رعيته" متفق عليه.
إخوة الإسلام، في بلاد الحرمين وغيرها من بلدان المسلمين مساعٍ خيِّرةٌ من ثلّة صالحة في مواسم الإجازة من حلقاتِ تحفيظِ القرآن والسنة، والدورات العلمية النافعة، والدورات التثقيفيّة في أمور الدنيا التي نسأل الله أن يجزي القائمين عليها خير الجزاء وأوفره، فبادِروا إلى توجيهِ الأولاد لاقتناص مثل هذه الفرص واغتنامها.
قال ابن عمر -رضي الله عنهما-: أدِّب ولدك؛ فإنك مسؤول عنه ما علمتَه، وهو مسؤول عن برّك وطاعته لك بعد ذلك.
وفي حياة التابعين عِبرٌ، فعَن إبراهيم بن أدهَم -رحمه الله- قال: قال لي أبي: يا بنيّ! اطلب الحديث، فكلّما سمعت حديثًا وحفظتَه فلك دِرهم. قال إبراهيم: فطلبت الحديثَ على هذا.
يا شباب! يا شباب الإسلام! إن مصائب أمّتكم تَتْرا، وجراحها لم تزل حَرَّى، إلا أن جرحها النازِف، وداءها الدَّوِيّ أن يكون مُصَابُها في شبابها، أهدي الشباب تحية الإكبـار، هم كنزنا الغالي، وسر الفَخار.
وهل كان أصحاب النبي محمد إلا شبـابًا شـامخ الأفكـار؟ أنتم عماد الأمة، قلوبها النابضة، شرايينها المتدفقة، عقودها المتلألئة، أنتم جيل اليوم، ورجال المستقبل، وبناة الحضارة، وصناع الأمجاد، وثمرات الفؤاد، وفلذات الأكباد.
أَنتم عُنصرُ الأمّة، ودليل حيَويَّتها، وسبيل نهضَتِها، فمِن الخذلانِ أن تُستَغَلَّ هذه الإجازة في تضييع الأوقاتِ سُدى، وإهدارِ اللَّيالي والأيّام في الأمور التّافِهَة، والأفعالِ السَّاقطة، فالإجازةِ فرصةٌ عظيمة لتَحقيقِ الأهداف النبِيلة، والغاياتِ الطيِّبة، دُنيا وأخرى.
فاللهَ اللهَ في القُرَناءِ الصالحين! الذين إذا رَأوكَ في قبيحٍ صَدّوك، وإن أبصَروك على جميلٍ أيّدوك وأمدّوك، وإياك من قرناء السوء! فكل قرين بالمقارن يقتدي، "والمرء على دين خليله، فلْيَنْظُر أحدكم مَن يُخالِلْ".
وأخيرا -أيها الجمع المبارك- نريدها إجازة في طاعة الله، ليس فيها شهوة تتهيج، أو نزعة إلى الشر تتأجج؛ إجازة على ما يُرضي الله لا على ما يسخطه، إجازة تبني الجسم، وتُغَذِّي العقل، وتُرَوِّح عن النفس، والله من وراء القصد.
ثم صَلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على خير الورى طُرا، وأفضل الخليقة شرفًا وطُهرًا، صلاةً تكون لكم يوم القيامة ذخرًا، فقد أمركم بذلك ربكم تبارك وتعالى، في كتاب يتلى ، فقال تعالى قولا كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي