فلما انتهى الجيش إلى الحرم برك الفيل وحبسه الله عن مكة فأبى أن يدخل الحرم، فغذا وجه راجعاً أسرع راجعاً، وإذا أريد على الحرم أبى، وجعل الله كيدهم في تضليل، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر طير صغار بيض، أبابيل، لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب، في أفواهها حجارة أمثال الحمص سوداء بها نضح حمرة، كأنها جزع ظفار، في منقار كل واحد منها حجر، وحجران في رجلين ..
الحمد لله القوي العزيز، أهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى، والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى، فبأي آلاء ربك تتمارى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رد أصحاب الفيل وجعل كيدهم في تضليل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، تزامن مولده مع حادثة الفيل عبرة وعظة.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله: أوصي نفسي وإياكم بلزوم تقوى الله، فلباسها خير لباس، وأصحابها في جنات ونهر، وبالتقوى يجعل الله من كل ضيق مخرجاً، ويرزق من حيث لا يحتسب المرزوق، ومن يتق الله يجعل له فرقاناً ويكفر عن سيئاته ويعظم له أجراً.
أيها المسلمون: سورة في كتاب الله قليل آيها، كبير حدثها، وعظيم مدلولها، تنبئ عن نهاية الظلم، وهلاك المتكبرين... لا بسلطان البشر وقوتهم، ولكن بقوة الله وحده وجبروته... وتؤكد السورة ألا قوة فوق قوة الله... وأن القوى الظالمة مهما تجبرت وطغت فنهايتها الفناء.
أخرج الحاكم مختصراً وصححه، وزاد غيره -قصة أصحاب الفيل- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "أقبل أصحاب الفيل (عليهم أبو يكسوم صاحب الحبشة) ومعه الفيل، حتى إذا دنوا من مكة -عند الصفاح- استقبلهم عبدالمطلب -جد النبي صلى الله عليه وسلم- فقال لملكهم: "ما جاء بك إلينا، ألا بعثت فنأتيك بكل شيء أردت؟ قال: أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن، فجئت أخيف أهله، فقال: "إنا نأتيك بكل شيء تريد فارجع، فأبى إلا أن يدخله، فقال: (عبدالمطلب): إن هذا بيت الله تعالى لم يسلط عليه أحداً، قالوا: لا نرجع حتى نهدمه، وانطلق يسير نحوه، وتخلف عبدالمطلب فقام على جبريل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله"، ثم قال:
اللهم إن لكل إله *** حلالاً فامنع حلالك
لا يغلبن محالهم *** أبداً محالك
اللهم فإن فعلت *** فأمر ما بدا لك
فلما انتهى الجيش إلى الحرم برك الفيل وحبسه الله عن مكة فأبى أن يدخل الحرم، فغذا وجه راجعاً أسرع راجعاً، وإذا أريد على الحرم أبى، وجعل الله كيدهم في تضليل، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر طير صغار بيض، أبابيل، لها خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلاب، في أفواهها حجارة أمثال الحمص سوداء بها نضح حمرة، كأنها جزع ظفار، في منقار كل واحد منها حجر، وحجران في رجلين (من طين)، فأقبلت حتى أظلتهم فجعلت ترميهم بها، ولا تصيب شيئاً إلا هشمته، فجعل الفيل يعج عجاً، فجعلهم الله كعصف مأكول، فكان لا يقع منها حجر على أحد منهم إلا تفطر مكان، فذلك أول ما كان الجدري، ولم تصبهم كلهم، فأخذتهم الحكة، فكان لا يحك إنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه، فأصيب أبو يكسوم في جسده فهرب، وكلما قدم أرضاً تساقط بعض لحمه، حتى أتى قومه فأخبرهم الخبر ثم هلك.
وأرسل الله إليهم سيلاً فذهب بهم وألقاهم في البحر، وبقي خزق الفيل أخضر محيلاً بعد عام، وكان يقف عله البعض ينظر إليه، ومنهم قباث بن أشيم أخو بني يعمر بن ليث وأمه، وعاش سائس الفيل وقائده بمكة أكثر من خمسين سنة بعد هذه الحادثة، ولكنهما عميا، ورأتهما عائشة رضي الله عنه وهما أعميان مقعدان، يستطعمان الناس".
وفي فجر ذلك اليوم العظيم الذي رد الله فيه كيد أصحاب الفيل، ولد محمد صلى الله عليه وسلم، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
أجل: لقد كانت حادثة الفيل تقدمة بين يدي مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإرهاصاً، ومقدمة لبعثته وما سيكون له من شأن في البلد الحرام.
يقول ابن القيم رحمه الله: "وكان أمر الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته، وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب، وكان دينهم خيراً من دين أهل مكة إذ ذاك، لأنهم كانوا عباد أوثان، فنصرهم الله على أهل الكتاب نصراً لا صنع للبشر فيه، إرهاصاً وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة وتعظيماً للبيت الحرام".
وكانت حادثة الفيل معجزة من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ودليلاً على نبوته، كيف لا وقد نزل عليه الوحي من ربه يخبره عن هذه القصة الواقعة، ويؤكد لأهل مكة ما قد رأوه بأعينهم. قال القرطبي رحمه الله: قال علماؤنا: "كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قبله لأنها كانت توكيداً لأمه وتمهيداً لشأنه، ولما تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الفيل كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الوقعة ولهذا قال: "ألم تر".
أيها المسلمون: وتؤكد حادثة الفيل أن القوة لله جميعاً... وإن قوة البشر مهما بلغت تتضاءل أمام قوة الله... كما تكشف الحادثة عن ضعف البشر مهما تجبروا وآتوا من قوة أمام سلطان الله.
أجل: لقد أرعد وأزبد أبرهة وأقسم ليهدمن الكعبة، وليصرفن العرب في الحج إلى الكنيسة القليس التي بناها في صنعاء، وكتب إلى سيده في الحبشة يقول: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم بين مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب... وحين احتملت الحمية واحداً من العرب، فذهب وأحدث في هذه الكنيسة ما أحدث استشاط أبرهة غضباً، وشكل جيشاً عظيماً تقدمه الفيلة، وزاد من غيظه أنه حين بعث إلى بني كنانة -قبيلة الرجل الذي أحدث في الكنيسة- يطلب منهم الحج إلى كنيسته قتلت بنو كنانة رسوله، فتجهز الأحباش النصارى وساروا بقيادة أبرهة بجيش عرمرم، فتسامعت العرب بمخرجه وهدفه، فعظموا بيت الله ورأوا قتال أبرهة والتصدي له واجباً عليهم، وإن كانوا أقل منه شأناً، وتعرضوا له بالحرب، ولكنه أوقع فيهم وانتصر على كل من خرج عليه منهم، حتى بلغ بيت الله... وانتهت دونه الحماية البشرية ولم تبق إلا قوة اله، ولم يبق من ناصر أو معين قادر على دفع الظالمين...
وأنى لقريش بضعف قواها... أو ضعف معتقدها أن تصمد لجيش حطم القوى قبلها... وكان من عقل عبدالمطلب أن يطلب من قومه الخروج من جوار الكعبة، إذ لا قبل لهم بأبرهة وجيشه، ويقول قولته المشهورة: "أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه"، وأن توكل حماية البيت إلى ربه والآمر ببنائه، وقد كان، فجاءت جنود السماء تحمل العذاب الأليم لهؤلاء المستكبرين... وكانت النهاية لهؤلاء القوم، ولم تكن نهايتهم بداية الهلاك للأمم والقوى الظالمة، فقد سبقتها قوى حطمت، وقرى أهلكت، وديارها أطلال موحشة تحكى قصتها كما قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص:58]، وأصحاب الفيل نموذج من نماذج الظالمين المهلكين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل: 1-5].
الحمد لله رب العالمين ناصر دينه، ومعز أوليائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله... نصره ربه بالرعب، فما لقيه أحد إلا هابه وقدره، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر المرسلين.
عباد الله: لا تعني حادثة الفيل أن يتعطل المسلمون عن فعل الأسباب المشروعة لمقارعة الباطل وأهله، فالتوجيه واضح: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60].
ولكنها تؤكد عدم الاستسلام للباطل مهما انتفش أصحابه، وتؤكد عدم اليأس مننصر الله حين يستضعف المسلمون- إذا ما صدقوا مع خالقهم.
كما تؤكد عدم الإحباط عند رؤية القوى الكبرى تبطش وتقهر، وتحل وتعقد... فربك للظالمين بالمرصاد، وهو يمهل ولا يهمل، وأخذه أليم شديد، ونواميس الكون بيده... وهو واهب القوى، والقادر على نزعها... وما قدر وقضى لحكم قد يعلم البشر بعضها، وقد يخفى عليهم الكثير منها.
أيها المسلمون: ومن دلالات حادثة أصحاب الفيل أن الاعتقاد بتخليد قوة مهما بلغت وديمومتها ظن خاطئ يكذبه الواقع، ويشهد بخلافه ناموس الكون بقدرة الله... فأين عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ وأين ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وأين فرعون الذي قال: ما علمت لكم من إله غيري، وقال: أنا ربكم الأعلى؟ وأين قارون الذي آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، قال: غنما أوتيته على علم عندي؟ أين جحافل التتر الذين عاثوا في الأرض الفساد، يقتلون ويرهبون؟ وأين أصحاب الحملات الصليبية على مدى قرنين من الزمان؟ وأين أصحاب الحربين العالمية الأولى والثانية، وما خلفتاها من دمار؟ بل أين دهاقنة الشيوعية الحمراء؟ وقد أذن الله مؤخراً بسقوط دولة الاتحاد السوفياتي بتمزق الاتحاد دولاً، ولا تزال روسيا تصارع من أجل البقاء... وتصب جام غضبها على المسلمين.
إن تاريخ القوى المحطمة والدول المتتالية في السقوط عبر القرون يؤكد حقيقة الملك لله والتفرد لله... وكلما زاد الظلم تسارع السقوط، وكلما كان الهدى والصلاح عمرت الدول، صدق الله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].
إخوة الإسلام: ومن دلالات حادثة الفيل أن العرب لا شيء بدون الإسلام، فلم يكن لهم دور في الأرض أو شأن يذكر، بل ولا كيان يرهب قبل الإسلام. لم يستطيعوا حماية البيت، ولم يشأ الله أن يحمي بيته المشركون... ولكنه حين شاء وقدر أن يبعث فيهم رسولاً إلى البشرية وأن تكون الكعبة قبلته حمى بيته، فعظم العرب هذا البيت المحمي من قبل الله... وزاد ذلك من تقدير العرب لقريش حتى إذا بعث النبي منهم كانت حادثة الفيل إرهاصاً لمولده وبعثته.
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه، وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب... حملوا عقيدة ضخمة يهدونها إلى البشرية رحمة وبراً بها، ولم يحملوا قومية ولا عصبية... حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها، لا مذهباً أرضياً يخضعون الناس لسلطانه، وخرجوا من أرضهم جهاداً في سبيل الله وحده، ولم يخرجوا ليؤسسوا امبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، ولم يخرجوا الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب، وإنما أخرجوهم من عبودية البشر بعضهم لبعض إلى عبودية رب البشر، عندئذ كان للعرب وجود وقوة وقيمة، وقيادة وقوة ترهب، وسلطان يمتد، وتسارع الناس إلى الدخول في دينهم وتحت حكمهم العادل، وامتد ضياء الإسلام يطوي بساط الظلام.
عباد الله: وإذا قيل بالأمس: ما العرب بغير الإسلام؟! أمن القول اليوم وما العرب، بل وما المسلمون بغير الإسلام الحق؟! ويأتيك الجواب عاجلاً ودون تردد: لا شيء لا شيء، أجل وربي، إن العقيدة الحقة هي التي جعلت للعرب بالأمس شأناً يذكر، وهي التي يمكن أن تعيد لهم سلطانهم ودورهم في الأرض اليوم، وما أحوج الوجود إلى عقيدتهم الحقة – بها ينشرون العدل والخير، وبها تطوى صفحات الظلم والهضم، وبها تتساقط القوى الوهمية وتنتهي الشعارات الخادعة، وحين يصدق المسلمون في عقيدتهم وتوجههم لخلاقهم يكفيهم كيد الكائدين، ويدفع عنهم قوى الأرض مهما كان حجمها ونوع قوتها... فالذي دفع أصحاب الفيل وردهم خاسئين وجعل كيدهم في تضليل، قادر على دفع غيرهم من الأمم الكافرة الظالمة. ولم يكن أصحاب الفيل هم القوة الأولى ولا الأخيرة في هذا الكون ممن دمرهم الله وأهلكهم بظلمهم. ووفق سنة الله في الكون فسيظل الهلاك والتدمير لكل من عتى وتسلط وتكبر: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 44-45].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي