أنتم مؤتمنون على التعليم وعلى رعاية المتعلمين، هيئوا الفرص المناسبة لهم. واعتمدوا الانطلاقة من الثوابت والأصول في شريعة الإسلام، جددوا في الوسائل التعليمية بما يساير العصر- واستحدثوا من البرامج التعليمية ما يجعل أبناءنا في مقدمة الركب، واجعلوا من التعليم أداة للصمود في حرب العقائد وغزو الأفكار والقيم، فالأمة مقبلة على مستقبل مخيف، تتناوشه طروحات غريبة ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].
عباد الله: انقضت إجازة تعد من أطول الإجازات، طويت فيها صحائف ورحل فيها عن الدنيا من رحل، وولد فيها من ولد، وأطل على الدنيا خلالها جيل جديد، وعمر من عمر: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [فاطر: 11]، ومن جانب آخر: كسب من كسب في هذه الإجازة بحفظ الوقت وصرف الأعمار بطاعة الله وطلب علم أو عمل مفيد لنفسه أو لمجتمعه أو للأمة من حوله، وفرط من فرط بكثرة النوم، أو إضاعة الأوقات دون فائدة، أو صرفها بما يضر في دينه أو دنياه.. وكذلك يتفاوت الناس دائماً في تقدير قيمة الزمن، ومستوى الهمم، وهيهات أن يعود الزمان بعد ذهابه، وسيكون شاهداً للمرء أو عليه... وفي سرعة الزمن عبرة موقظة لذوي البصائر، إذ هو منبه لقصر الآجال، وفناء الأعمار، وما الدنيا كلها بالنسبة للآخرة إلا قليل: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج: 47].
أيها المسلمون: تلك وقفة أولى حول انقضاء الإجازة، أما الوقفة الثانية، فهي التذكير بالحاجبة الملحة إلى وضع برامج مفيدة طوال فترة الإجازة، إذ من الظواهر التي لا تكاد تخفى على مطلع ضياع أوقات الناس -وبخاصة الشباب-من الجنسين- بكثرة النوم او بسفريات غير مدروسة الأهداف، وقليلة الفوائد، وحري بالمؤسسات التربوية، وبالمربين أن يدرسوا هذه الظاهرة ويفكروا في عدد من الوسائل لاستثمار أوقات الشباب بما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالنفع، إذ هم عماد الأمة مستقبلاً، وبإعدادهم وتربيتهم يكون تحدي الأمم، ويصنع التاريخ، وبوركت الأمة تعنى بشبابها وفتياتها، وتستثمر أوقاتهم وتهيئ الفرص النافعة لهم.
إن المراكز الصيفية والدورات العلمية، والرحلات الهادفة وأمثالها وسائل في الطريق الصحيح لاستثمار الإجازة ولكنها غير كافية، وغير شاملة لعموم الشباب والشابات، وذلك يستدعي مزيداً من التفكير، والتطوير في الوسائل والبرامج حتى تستوعب هذه البرامج أكبر عدد ممكن، وتملأ أوقات الفراغ بالمفيد المنتج، وتسهم بإعداد جيل قادر على التحدي، بل وعلى الصمود في مواجهة الحروب الباردة أو الساخنة، ثابت على المبدأ الحق في زمن غزو الفضائيات، ومشاريع العولمة، ونحوها.
أيها الشباب، أيتها الفتيات: وانقضت الإجازة وبدأ العام الدراسي الجديد، فبأي همة استقبلتم العام الجديد. والمؤمل فيكم استقبال العام بجدية في التحصيل العلمي وإخلاص في طلب العلم، وتزين بأخلاق العلم، وارتداء لبوس العلماء، ولا ينبغي أن يكون الهدف الأول والأخير من العلم الحصول على الشهادة، وتوفر الوظيفة... فهذه وإن كانت مهمة فالعلم أغلى وأجل، ولئن دعت الحاجة في الدنيا إلى الوظيفة والعمل، فالحاجة أدعى إلى تعلم العلم الذي به يصل المرء إلى المنازل العالية في الجنة، وبالعلم النافع يعرف المرء ربه، وبه يتعلم أحكام الدين، وأدب التعامل مع الآخرين، ويكفي العلم فخراً ورفعة أن يقول الله عن أصحابه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات) [المجادلة: 11]، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر: 9].وإذا كان العلم يرفع بيتاً لا عماد له، فالجهل يهدم بيت العز والشرف.
أيها المربون: أنتم مؤتمنون على التعليم وعلى رعاية المتعلمين، هيئوا الفرص المناسبة لهم. واعتمدوا الانطلاقة من الثوابت والأصول في شريعة الإسلام، جددوا في الوسائل التعليمية بما يساير العصر- واستحدثوا من البرامج التعليمية ما يجعل أبناءنا في مقدمة الركب، واجعلوا من التعليم أداة للصمود في حرب العقائد وغزو الأفكار والقيم، فالأمة مقبلة على مستقبل مخيف، تتناوشه طروحات غريبة، ويمسك بالقيادة غير المسلمين. وفرق بين تطوير التربية والتعليم بما ينفع الأمة في حاضرها ومستقبلها، وبين التضليل وعلمنة التعليم، فتلك هزيمة مبكرة، بل وانتقال من الاستعمار العسكري إلى الاستعمار الثقافي، وليس الآخر بأقل خطراً من الأول.
إنها مأساة حين تختلط في أذهان بعض المثقفين أو المثقفات حتمية العلمنة مع التطوير في أي جانب من جوانب الحياة، ومن أبرزها التربية والتعليم، ومأساة أخرى حين يظن آخرون أن من لوازم الأصالة نفي التطوير ولو كان سليماً نافعاً، ولعل من المفيد أن نتذكر واحدة من توصيات المؤتمر الأول للتعليم الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة عام سبعة وتسعين وثلاثة مئة وألف للهجرة، وقد جاء في هذه التوصية: "لا قيود على العلم النظري أو التجريبي في التصور الإسلامي سوى قيد واحد يتصل بالغايات والمقاصد، فلا ينبغي أن يستخدم في إفساد العقيدة والأخلاق، كما لا يجوز أن يكون أداة للإضرار والعدوان".
إخوة الإسلام: إن من الفساد والعدوان في تطوير المناهج أن تبرز نظريات في عالمنا الإسلامي تنادي بالمساواة بين المسلم واليهودي والنصراني، وتدعو إلى وحدة الأديان، والأخطر حين ينتقل إلى خطوات عملية، فتحذف من المناهج الدراسية آيات قرآنية محكمة تتحدث عن اليهود أو النصارى بوصفهم أعداء للمسلمين، لا يجوز موالاتهم، أو تنكر نصوص من السنة النبوية الصحيحة تحذر من التبعية لليهود والنصارى، وتكشف عداوتهم للمسلمين، أو تحذف الموضوعات المتعلقة بالجهاد في سبيل الله. أو نحو ذلك.
وانكشفت بتعاليمه صلى الله عليه وسلم ضلالات أهل الكتاب وتعسفهم وظلمهم وصدق الله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15-16].
معاشر المسلمين: ومن الحق والعدل أن نقول: إن المناهج الدراسية في هذه البلاد المباركة تعد من أفضل المناهج في عالمنا الإسلامي، ورغم وجهات النظر الغريبة التي تطرح أحياناً لتغيير المسار الآمن، فلا يزال عند المسؤولين قناعة بأهمية التميز والأصالة في مناهج بلاد الحرمين، وبما لا يتعارض مع التطوير المثمر والتجديد للأحسن، ولا سيما نحن في زمن باتت الدول تعنى بتراثها وتنطلق من أصولها العقدية والفكرية.
ونحن في هذه البلاد نفخر بذكر تجربة في التعليم طبقت أول ما طبقت في بلادنا، ثم عم نورها الأرض من حولنا، تلكم هي التجربة الأولى في التعليم التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم بتوجيه رباني: (اقرأ باسم ربك) وحينها كانت أمة العرب أمة أمية، وكانت الأمم من حولها تفاخر بعلمها وحضارتها، ولكن علم هؤلاء وحضارتهم أضاف الكون ظلمة وأسبغ على الشعوب الذلة والمهانة، وساد الظلم وأسنت الحياة، فبعث المعلم الأول بها الحياة من جديد، بمنهج رباني يقوم على تحرير الناس من كل عبودية سوى العبودية لله، وتعليم الناس ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وعلى أضواء هذا العلم الكاشف تلاشت الظلمات، وبدأ بساط الظلم والجهل يطوى وانتشر الخير وعم العدل.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على رسوله أول ما أنزل: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1-5].
والصلاة والسلام على النبي الأمي الذي علمه ربه مالم يكن يعلم، فعلم الأميين، وفاق بأدبه وخلقه وعلمه أهل الكتاب الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر النبيين والمرسلين.
وبعد: -إخوة الإسلام-: فمن الوقفات مع بدء العام الدراسي الجديد-: وقفة مع المعلمين والمعلمات تذكرهم بأمانة التعليم ومسؤولية التربية، وأهمية القدوة والإخلاص في الأداءن وربط المعلومة بالواقع، ومتابعة الطلاب والطالبات، وتشجيع النابهين وإعانة المتخلفين، وتقيم ما انحرف من سلوك، وعدم تكليف الطلاب والطالبات ما يشق عليهم أو أوليائهم.
وهنا وقفة أخرى يشترك في ضرورة التنبيه إليها إدارة المدرسة مع المعلمين، مع الأولياء، ألا وهي: عدم المبالغة في تأمين الأدوات المدرسية، والإسراف في الطلبات إلى حد يرهق الأولياء، وربما كسر قلوب الفقراء الذين لا يجدون ما يوفرون به هذه المتطلبات من جانب، ويجدون إلحاحاً من أبنائهم وبناتهم على توفيرها من جانب آخر، ويدخل في هذا الجانب إسراف بعض الأولياء في النقود التي يصرفونها لأبنائهم وبناتهم للفسحة بما يفوق حاجتهم، ويؤثر على نفسيات أبناء الأسر الفقيرة من زملائهم، وتحية للأوليات المقتصدين، ولو كانوا قادرين، لوضعوا نصب أعينهم مشاعر الآخرين، وهنا اقتراح حري بالدراسة وهو دفع مبلغ من المال محدد من كل طالب وطالبة مع بداية الفصل، وتتولى المدرسة تأمين فسحة يومية مناسبة لكل طالب وطالبة على حد سواء، فذلك يريح الأولياء من جانب، ويشعر الطلاب المواساة من جانب آخر، وربما كان فيه ترشيد للنفقة من جانب ثالث، وتسهم المدرسة فيه بتأليف قلوب الطلبة والطالبات وإشراك بعضهم في خدمة بعض من جانب رابع... وهكذا... وكذلك الأدوات المدرسية لو أمكن تحديدها من قبل المدرسية بشكل جماعي محدد ومقتصد لأراح الأولياء والمدرسة... إنها مشكلة أن يتعلق الطالب أو الطالبة بشكليات التعليم، ويتنافس الأولياء في تأمين أحسن الأنواع، أما لب التعليم والهدف من التحصيل فلا نجد فيه مثل هذه المنافسة.
وهنا أقف مذكراً إخواني الطلاب وأخواتي الطالبات بمسألة غاية في الأهمية، بل لعلها الهدف من التعليم أساساً ألا وهي العمل بالعلم واستثمار العلم وسيلة لنهوض الأمة وتقدمها، وتلك مسألة لا ينفرد الطلاب في التنبيه عليها، بل هي جزء من مسؤولية المعلمين والمعلمات، والآباء والأمهات... فما قيمة العلم بلا عمل... إن رسالة التعليم لا تعني في أهدافها وغاياتها أن يحمل الطلاب والطالبات على عواتقهم كماً من المقررات طيلة فصل أو عام ثم يرون أنهم يتخففون منها بأداء الأمتحان..
إن رسالة التعليم لم تبلغ الغاية منها إذا حفظت طالباً أو طالبة نصوصاً في أهمية الصلاة وكيفية أدائها وشروطها وواجباتها، فإذا بالطالب أو الطالبة لا يصلي إلا قليلاً، أو يصليها على غير ما تعلمها، ووظيفةالمعلم والمعلمة لا تكتمل بتلقين الطلبة والطالبات نصوصاً في بر لوالدين واحترام الآخرين، حين يوجد من بين المتعلمين والمتعلمات عدد من العاقين لوالديهم والمتعاملين بنوع من الفظاظة والشدة مع الناس من حولهم، وقل مثل ذلك عن بقية مفردات المناهج في النواحي السلوكية والخلقية.
فلا بد من وعي وتأكيد على النواحي العملية وربط التعليم بواقع الطلاب والطالبات، ولا بد كذلك من مشاركة البيت في تطبيق ما تعلمه الدارسون والدارسات في المدرسة، ومثل ذلك يقال عن المناهج العلمية التطبيقية؛ إذ لا بد من تأمين المعامل الكافية في المدرسة، ولا بد من متابعة الجديد في التقنيات الحديثة، ولا بد كذلك من تأمين فرص للتدريب خارج المدرسة، ولا بد من تحفيز النابهين على الاختراع... وهكذا حتى لا تظل الأمة المسلمة دائماً عالة على الآخرين في منتجاتها وسوقاً تروج فهيا بضائع الآخرين، وهي تمتلك عقولاً كعقول الآخرين أو أحسن، ولا تنقصها المادة الممولة للإنتاج والاختراع...
وهكذا نستثمر التعليم، ونرقى بمستوى المتعلمين، ونتجاوز الشكليات إلى الجواهر، دون أن نخل بأصولنا ومنطلقاتنا الفكرية، أو نقعد عن مسايرة الركب في بناء الحضارة الحقة، تلك أفكار ووقفات أثق أن المسؤولين في التعليم يقدرونها حق قدرها، وأثق أنها لا تغيب عن بال المعلمين والمعلمات، ويطمع الأولياء أن يصل إليها أبناؤهم، ويود الطلاب و الطالبات لو استثمروا التعليم بشكل جيد... ولكنها الذكرى، ولنتعاون جميعاً على تحقيقها، وبارك الله في جهد كل عامل مخلص، وربك لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي